بات الجميع الآن يعلم أنّني أحد عناصر المجموعة الأمنيّة 87، المسمّاة "نظاما" (مجموعة المفسدين) ووطنيّا (مجموعة الإنقاذ الوطني)!... وهي مجموعة خطّطت للقيام بعمل يوم 8 نوفمبر 1987، لفائدة البلاد لا يشكّك في صلاحه ووطنيّته إلّا الذين كانوا يتمعّشون ولازالوا من المظالم السائدة في البلاد ومن الفساد المتدثّر برداء "الوطنيّة" التي داس عليها "الوطنيون" كما داست وزيرة السياحة الحالية على علم البلاد المفدّى، الذي أرسلت به إلى الصحراء عقابا شبيها بذلك العقاب الذي تعرّض له الطلاب التونسيون الذين حشروا في الثمانينات من القرن الماضي في الفوّار ورجيم معتوق وبوفليجة (وكنت شاهدا على ذلك)، حربا عليهم لأجل كلمة حقّ أرادوا النّطق بها، حتّى هلك منهم من هلك في صحراء موحشة عطّاشة شرّد فيها الوزراء علم البلاد خِرَقا تتلاعب بها الرّيح وتعبث بها عبثا يقوم شاهدا على عدم أهليّة "مثقّفي" تونس و"حرّاس" الوطنيّة فيها!... وأنّ المجموعة لمّا أيقنت فجر 7 نوفمبر 1987 م قيام أحد أبناء تونس بعمل رأته قد أوقف المسار الانحداري قرّرت طوع أمرها - وهي تملك زمام أمرها - توقيف العمل الذي كانت تهمّ به وأبطلته، ثمّ عاد أفرادُها إلى ثكناتهم ومؤسّساتهم ينشطون بها ويحرسون الفضيلة فيها ويبذرون الخير لفائدة النّاشئة والبلاد!... ثمّ شاء الله تعالى لأمر وحكمة قدّرهما عزّ وجلّ أن يُحاط بأفراد المجموعة نتيجة تسرّب معلومة بسيطة ربّما كان المنقلب إبّانئذ قد بنى عليها انقلابه... ولقد كان من شأن الباحث الظالم وقتها العمل على تمرير بل تقرير ثلاثة عناصر رآها ربُّه الحاكم بشريعة الشرّ (هذا الاستعمال الأخير [الحاكم بشريعة الشرّ] هو لشيخي الفاضل لطفي السنوسي، سيّد الوطنيين والمجاهدين والرّجال في تونس) مهمّة وضروريّة لختم البحث، وهي انتماء المجموعة لحركة النّهضة التونسيّة (وهو زعم لا يزال أنصاره ينشطون به بحرص وخسّة استثنائيين)، وعدم إبطال العمل الذي كان مبرمجا كما أكّدنا بل إرجاؤه، وأنّ العمل موجّه ضدّ الحاكم الجديد الذي بات يُعرف فيما بعد بصانع التغيير المبارك!... فلمّا أجهدتهم الحيلة وخانتهم المعطيات وقاومتهم في مفاوضات استمرّت طويلا بالسجن المدني المهدوم (وكلّ "مدني" غير مدنيّ سوف يُهدَم وإن طال به البقاء)، تحت عناية الدكتور الأخ المنصف بن سالم رحمه الله والسيّد أحمد القطاري رئيس إدارة السجون رحمه الله (وقد مات موتة شبيهة بموتة ركّاب الهيليكبتر الشهيرة)، قرّر الظالم تسريح أفراد المجموعة تسريحا أتى على كلّ حقوقهم ريثما يتمكّن في قادم الأيّام من إرجاعهم بتهم حقّ عام أو يتمكّن من اغتيالهم بحوادث مرورية أو غيرها من الحوادث كما حدث مع الأخوين التيجاني الدريدي ورامي بن عزيزة أو ينوب عنه في تعذيبهم الأمراض والخصاصة والتهجير كما هو حال أغلب أفراد المجموعة!... ثمّ كانت الثورة، التي كانت ثورة على الظلم والظلمة، وتاقت أنفس أفراد هذه المجموعة - كما تاق الجميع - إلى الحريّة والفكاك من المكبّلات التي أحدثتها الحاجة، ورأوا ذلك ممكنا بإرجاع الحقوق أو بعض الحقوق، فإنّ ما فُعِل بهم لن يدع شيئا أو هيئة أو جهة يقدر على تعويض جُزيئات من تلك الحقوق. ولكنّهم فوجؤوا بسلوك ورث من الظالم الهارب كلّ حقده وبغضه، فبرز على الساحة ببوق الفضائيات الواطية من يدعو إلى عدم الاستجابة إلى مطالب هذه المجموعة!... يراها - دون خجل - قد قامت ضدّ الشرعيّة!... يسبّ بذلك شعبا بأكمله قد قام ضدّ تلكم الشرعيّة التي رغّبت النّاس في حرق أنفسهم تعبيرا عن ظلم تجاوز ما تتحمّل أنفسهم!... ثمّ سعت المجموعة - متأدّبة منضبطة - إلى تلمّس إمكانيات الحلّ، فاقترحت ثمّ عدّلت ثمّ تنازلت إلى أن بات مطلبها غير بعيد عن مطالب إخوانهم في المجموعة المظلومة الأخرى المعروفة ب"برّاكة الساحل"، أولئك الذين حشرهم الظالم في ركن ضيّق من البرّاكة لينتهك حقوقهم وأعراضهم ويغتال بسادية استثنائية طموحاتهم!... فلمّا تمكّن إخوتنا هؤلاء أخيرا من الحصول على بعض مستحقّاتهم، سررنا لذلك أيّما سرور وابتهجنا لذلك أيّما ابتهاج، انطلاقا من فهمنا الصحيح للإيمان، فإنّه لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه وانطلاقا كذلك من إنسانيّة تكرّه - إن صدقت - للنّاس الظلم بينهم، وربّ العزّة من فوق سبع سماوات يحذّر من الظلم [يا عبادي إنّي حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا]!... غير أنّ الجرح - جرح المجموعة - قد بدا غائرا لا يجد من يلملمه، وجرت الدمعة رقراقة حارقة لا تجد من يكفكفها!...
في هذه الأثناء وردت عليّ رسالة خاصّة من طرف أحد إخوتي الطيّبين يحمّلني المسؤولية كما لم يُحَمَّلها في التاريخ أحدٌ غيري... فقد رآني قريبا من قيادة حركة (حركة النّهضة) كان يمكنها، وهي المتّهمة بنا، أن تسعى سعيها - رغم غابة الجهل والجهلوت والجهالة - كي تمكّننا من حقوقنا المسلوبة باسم "الوطنيّة" الزائفة الدّاعمة للطاغية والظلم!... كان عليها أن ترانا من اليسار التونسي الذي دافعت عنه أو ترانا من الحوض المنجمي الذي دافعت عنه أو ترانا من مجموعة الأزهر الشرايطي التي دافعت عنها أو ترانا من جرحى وشهداء الثورة الذين تبنّتهم حتّى باتت لا تنطق كلمة إلّا بذكرهم، كان عليها أن ترانا تونسيين كبقيّة التونسيين لهم ما للتونسيين وعليهم ما على التونسيين، كان عليها أن ترانا من طليعة التونسيين الذين بذلوا النّفس والنّفيس من أجل عزّة التونسي ورفعته وكرامته، فتستنكر إذلالا يسلّط علينا عقابا على نشدان عزّة للجميع وترفض ظلما يقترف بحقّنا - لاسيّما من طرف المؤسّسة التي انتمينا حياتنا إليها - تأبيدا لإهانة فرضها الظالم علينا!... لقد اجتهدت الحركة في درء التهمة عنها فلا نحن منها (رغم كثرة العناصر النهضاوية في المجموعة) ولا هي منّا (رغم التحاق بعضنا بعد الثورة بها)، وقبلنا منها ذلك درء لما قد يلحقها من أذى أناس لا يطيب لهم العيش إلّا بإيذائها، وكان عليها مقابل ذلك أن تسعى وهي في الحكم رئيسة للحكومة فيه أو تسعى وهي في الحكم مجرّد شريكة فيه أو تسعى وهي خارج الحكم وهي تدافع حياتها عن الحقوق والحريّات أن تطالب بشكل أو بآخر بحقوق هذه المجموعة وتدفع باتّجاه استرجاع بعضها إن لم يكن كلّها!... كان على الحكومات كلّها أن تفعل ذلك وكان على مؤسّسات المجتمع المدني أن تفعل ذلك وكان على الشرفاء والأحرار جميعا أن يفعلوا ذلك، ولكنّ انتظارنا طال حتّى خشينا ألّا يكون بالبلاد حرّ واحد أو محبّ واحد لحقوق الإنسان أو مقدّر واحد للتضحيّة أو محبّ واحد لبلد يسوده الوفاق والهدوء والسكينة!...
إن لم تشعروا بآلامنا فاسألوا أهلنا من "برّاكة الساحل" أباتوا اليوم - وقد استرجعوا بعض حقوقهم - أحسن حال من الأمس أم هم على ما كانوا عليه بالأمس!... فلعلّ ذلك يرغّبكم في الخير ويدفعكم إلى اقتراف صنائع أهل المروءة!...
ثقوا أيّها التونسيون أنّكم جميعا مسؤولون عن مآسينا، وفي مقدمتكم المجرمون، أولئك الذين رأوا عدم أحقيّتنا في استرجاع حقوقنا!... يرغبون ربّما في أن يرونا نغادر دائرة انضباطنا... نلتحق بدائرة إرهاب صنعوها ليتمعّشوا منه إبرازا ل"وطنيّنتهم" القائمة على التباغض والتناجش والتدابر!... لن نكون أبدا ذلك الصنف، بل سنظلّ دائما أولئك السابقون الذين عزموا ذات يوم من 1987 على فداء الحريّة بدمائهم وأرواحهم!... غير أنّ الحقّ لن يضيع ما دام وراءه طالب وسنظلّ رجلا واحدا وبحقّنا نطالب حتّى يخرج من بينكم أهل مروءة كأولئك الخمسة من قريش الذين عزموا على تمزيق صحيفة ظالمة قضت بمحاصرة آل هاشم!... وإنّه لعار عليكم أن تستمر المحاصرة من الكفّار ثلاث سنوات ويستمرّ الحصار منكم علينا ثمانية وعشرين من السنوات!... والله من وراء القصد