بداية من اليوم: النفاذ إلى فضاء الولي بموقع مدرستي باعتماد الهوية الرقمية    العمران الأعلى: القبض على شخص يعمد إلى نزع أدباشه والتجاهر بالفاحشة أمام مبيت جامعي    عاجل/ جمايكا تعترف بدولة فلسطين    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    صعود ركاب المترو عبر باب مهشّم: شركة نقل تونس توضّح    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    فاطمة المسدي: ''هناك مخطط ..وتجار يتمعشوا من الإتجار في أفارقة جنوب الصحراء''    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    21 قتيلا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الاخيرة!!    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    عاجل/ تعطل الدروس بالمدرسة الإعدادية ابن شرف حامة الجريد بعد وفاة تلميذ..    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    جنوب إفريقيا تدعو لتحقيق عاجل بالمقابر الجماعية في غزة    التمديد في مدة ايقاف وديع الجريء    توقيع اتفاقية تعاون بين وزارة التشغيل وبرامج ابتكار الأعمال النرويجي    تحول جذري في حياة أثقل رجل في العالم    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    بنزرت : تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    البطولة الإفريقية للأندية البطلة للكرة الطائرة: ثنائي مولودية بوسالم يتوج بجائزة الأفضل    الاتحاد الأوروبي يمنح هؤلاء ''فيزا شنغن'' عند أول طلب    لطفي الرياحي: "الحل الغاء شراء أضاحي العيد.."    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    بطولة كرة السلة: برنامج مواجهات اليوم من الجولة الأخيرة لمرحلة البلاي أوف    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كراس حول الهجرة النبوية أو بعثة الأمة الهادية 2و3
نشر في الحوار نت يوم 08 - 10 - 2015


المحور الثاني
الهجرة هي ربان سفينة الإسلام

1 فقرات هذا المحور مخصصة لتبين موقع الهجرة في السيرة النبوية إذ أن إعمال النظرات الجزئية في القرآن أو في الحديث أو في السيرة بل في كل أمر يراد حسن فهمه لا تزيد المشهد في ذهن صاحبه إلا غموضا ولا تفي بالغرض المنشود.
2 إن نظرة فاحصة تحليلية لمسار السيرة النبوية حتى الهجرة تثمر لنا الأمور الآتية :
أ إضطر عليه السلام لتوخي السرية في دعوته بسبب إستغلاق المجتمع المكي العاكف على الوثنية والصنمية ودام ذلك زهاء ثلاث سنوات كاملات جلبت إلى الإسلام زهاء أربعين مؤمنا أغلبهم من غير أولي القوة والعصبة في قريش.
ب دفعت هذه المرحلة العصيبة قريشا إلى إقتراف ما لم يكن لها به عهد من مثل قتل النساء إذ سقطت أول شهيد في الإسلام سمية عليها الرضوان وهو معيار كاف لمعرفة الغلواء التي إستبدت بقريش في إثر الإعلان عن الدين الجديد.
ج كما إضطر عليه السلام إلى إرسال بعثتين من أصحابه ومنهم نساء وأطفال إلى أرض الحبشة التي كان فيها " ملك لا يظلم عنده أحد ". وهي مسافة أدنى ما فيها من المشقة عبور البحر الأحمر ولم يكن للعرب بذلك من عهد.
د وتواصل الحصار القرشي الجائر حتى إستحكم الحصار الشامل ضد المؤمنين الجدد بمقتضى إتفاقية موثقة وقعها كبراؤهم وعلقوها على الكعبة الشريفة تقديسا لها ودام ذلك الحصار الشامل زهاء ثلاث سنوات كاملات في شعب أبي طالب وعومل أصحاب محمد عليه السلام على قلتهم في تلك الأيام معاملة أقلية عرقية تسام الخسف وتوأد ببطء فلا بيع ولا شراء ولا مناكحة
ه ولما فشلت محاولات الوأد وفرض الإستسلام لجأت قريش إلى الأساليب الدبلوماسية مع عمه الذي كان يكفله ودعوته لأغراض قومية فكان عرض عنوانه عبادة مشتركة لله أياما ثم لآلهتهم أياما أخرى وكان عرض آخر عنوانه تمليك محمد عليه السلام السلطان والمال والنساء ولكن فشلت قريش في الترغيب بمثل فشلها في الترهيب وكان الجواب الحاسم " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ". ونزلت سورة الكافرون بمفاصلة عقدية لا مكان فيها لأنصاف الحلول.
و ورغم حصول بريق من هنا وهناك من حين لآخر من مثل إسلام رجلين كبيرين ( حمزة والفاروق ) فإن الوضع لا يزداد إلا حربا مفتوحة معلنة ضد فتية آمنوا بربهم وجاءت فاجعة أخرى هي عام الحزن الذي شهد موت كفيل نبي الدعوة ( عمه أبو طالب ) والحصن الداخلي المنيع ( خديجة بنت خويلد ) وأضحى عليه السلام لأول مرة عفوا من سنديه الكبيرين
ز أحكمت قريش قبضتها الحديدية الحامية فجاءت الإسراء والمعراج تواسي نبي الدعوة وصحبه الكرام من جهة وتهيئهم لرحلة جديدة في الدعوة هي رحلة المدينة من جهة أخرى وهي الرحلة التي ستبدأ بعد زهاء عام ونصف فحسب
ح وقبل ذلك راح عليه السلام يبحث لدعوته عن مأمن خارج مكة العصية فخرج إلى الطائف حيث ثقيف فما جنى غير أشواك أقسى عليه من أشواك مكة إذ تعرض إلى التسفيه والإيذاء والطرد وإضطر إلى طلب الإجارة من مشرك يؤويه إلى مكة من جديد ولم تتخلف هنا كذلك بروق الأمل إذ بعث الله إليه الجن مستمعين فآمنوا
3 الآن لا بد من مواصلة البحث عن ساحة أخرى للدعوة أكثر أمنا :
أ كان عليه السلام يحضر السوق العكاظية السنوية ليعرض نفسه ودعوته على الناس وفي ذات مرة ظفر بنفر من شباب يثرب فأودعهم سره وأرسل معهم سفيره مصعبا لعل يثرب تكون هي الحجر الآمن الدافئ لهذا الدين الجديد فكانت بيعة العقبة الأولى
ب وفي العام التالي جاءه بمناسبة عكاظ زهاء سبعين ممن إستقطب أولئك النفر الأوّل مع سفيرهم مصعب في يثرب وكانت بيعة العقبة الثانية التي شهدها عمه العباس ومازال يومها مشركا يقوي به عصبيته ويكون به عزيزا في مجتمع تتغذى شرايينه من العصبيات
ج وبدأ التحرك نحو يثرب يغذ سيره غذا فهناك له سفير وعشرات من المؤمنين وبدأ تنظيم قوافل الهجرة سرا حتى إذا تأمنت تلك القوافل السرية أن توقظ قريشا إلتحق بهم نبي الدعوة الجديدة.
الخلاصة :
لم يعد ممكنا لدين أن يحيا أصحابه أحرارا بين جبال مكة ولا حتى على مشارفها من بعد ما ووجه هذا الدين بحملات إستئصالية لا ترقب في الكرامة البشرية ولا حتى في النساء إلا ولا ذمة وما كان للحبشة أن تستقبل ذلك لأسباب جغرافية وغيرها ولا لثقيف الطائف .وتبين من بعد تجربة عمرها زهاء عقد ونصف أن لهذا الدين الجديد رئة يتنفس بها إسمها الحرية فهو لها قرين وهي له قرين وعندما أحكمت قريش قبضتها الحديدية الحامية حال بطشها دون الناس أن يؤمن منهم من شاء عن بينة أو يجحد منهم من شاء عن بينة فكان لا بد من الهجرة بحثا عن مكان آمن وبذلك إرتبط الإسلام بقيمة الحرية من أول أيامه حتى إنك لو قرنت بينهما قرنا محكما لا إنفصال بعده ما جانبت صوابا.

المحور الثالث
الهجرة : عبر معاصرة

فن القيادة :
1 لم يكن عليه السلام نبيا ولا حتى رسولا مبلغا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فحسب بل كان نبيا قائدا ورسولا ينزل التشريع الإسلامي على الأرض في مختلف الحقول العملية للناس بحسب ما يتاح له وهو هنا يختلف عن بقية الأنبياء كلهم تقريبا والرسل إلا قليلا منهم عدا الملوك ( داوود وإبنه سليمان ) سيما أن شريعته تختلف عن الشرائع السالفة جميعا بخصيصة الجماع وصفة الشمول. هذا الأمر هو مثار الخلاف الإسلامي العالماني المعاصر وهو سبب متاعب شديدة تهز الأمة وتكاد تقوض أركانها وأغلب الظن أن المعالجات الفكرية على ضرورتها ما نجحت كثيرا في خفض سقوف ذلك الخلاف المدمر وفي مقابل ذلك ما أتيحت للمشروع الإسلامي فرص التنزيل وبذلك ظلت الأمة في الأعم الأغلب تعيش من بعد سقوط آخر سقف سياسي جامع ( العثمانيون على ما فيهم وما عليهم ) حالة غير مسبوقة من مثال مسطور في القرآن والسنة والتاريخ والتراث ومثال آخر ماثل للعيان ومعيش تغلب عليه النزعة العالمانية غلبة عملية بقوة السلطان وميراث فكري فيه ما فيه من الغموض في إثر ضمور الفقه السياسي منذ الإنقلاب الأموي البعيد. هذه حالة جديدة وغير مسبوقة وتدعو جدا إلى معالجات جديدة غير مسبوقة كذلك جزاء وفاقا. الذي يهمني هنا هو أنه عليه السلام كان قائدا عاما للأمة في مختلف حقول نشاطها وليس مجرد نبي مبلغ عن ربه يند عنه هذا الحقل أو ذاك لسبب أو لآخر. وفي ذلك تفصيل يدرس في مظانه من مثل مقاصد الشريعة لإبن عاشور عليه الرحمة والرضوان.
2 القيادة فن تحتاج إلى شرطين كبيرين متكافلين لا غنى لأحدهما عن الآخر وهما اللذين عبرت عنهما زوج موسى عليه السلام وسجل القرآن الكريم ذلك ( إن خير من إستأجرت القوي الأمين ). أي : القوة والأمانة وهما اللذين عبر عنهما يوسف عليه السلام في موضع آخر عندما عرض نفسه وهو في موقع قوة وترحيب ليتولى المسؤولية ( إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ). أي : الحفظ ( وهو يقابل الأمانة في قول زوج موسى عليه السلام ) والعلم ( وهو يقابل القوة في قولها ذاك ). الأمانة أو الحفظ هما عنوان الشرط النفسي أي الوفاء لمنظومة الخلق العظمى في مستواها الإنساني الفطري الجبلي الأولي المعروف إذ الدين ليس سوى مستورد لذلك وليس هو مستحدث ولا منشئ. أما القوة والعلم فهما عنوان الكفاءة والمهارة والشطارة والمعرفة والقدرة والأهلية العملية.
3 في مستوى القيادة الدنيوية وليس الدينية كان عليه السلام يدلي برأيه كغيره ويحاور ويناقش ويعرض الحجة على الحجة والبرهان على البرهان فيتنازل عن رأيه ما لم يكن وحيا لرأي آخر وحدث ذلك في مواضع عديدة منها بدر وأحد والخندق وغيرها كثير. بل كان يتعرض للهزيمة وغلبة خصمه عليه أو نيله منه مثلما ما وقع في العقبة الثانية هنا في الإعداد إلى الهجرة وفي تأبير النخل وغير ذلك وما ذلك سوى لغرض أسنى يقصد منه تأكيد بشرية محمد عليه السلام أن يعبده الناس في حياته أو من بعد موته كما فعل بأخيه عيسى من قبل عليهما السلام ولأغراض أخرى لا يتسع المجال هنا لها.
4 كما كان يؤهل نفرا واسعا من أصحابه عليه السلام لمواصلة مسيرة الإسلام من بعده فكان يخلع على عدد منهم أوسمة في العلن والملإ ليتأسى بهم الناس من بعده في تلك الحقول فهذا أبوبكر أرحم الأمة بالأمة وهذا الفاروق مثال جامع بين القوة والأمانة وهذا أبوهريرة ملئ علما وهذا حبر الأمة إبن عباس وهذا معاذ أعلمنا بالحلال والحرام وهذا أبي أقرؤنا وهذا علي أقضانا وهذا أمين الأمة إبن الجراح وغير ذلك من الأوسمة المخلوعة عليهم ولا غرض لي هنا في الإستقصاء إنما غرضي أنه كان يؤهل الأصحاب النابغين ويعلن عن ذلك في الملإ دون أن يخشى عليهم قطع الرقبة كما يقال أي من أثر الغرور أو العجب. بل كان يؤهل الناس تأهيلات عملية من خلال تدريبهم على القيادة فهذا إبن حبه يرسله قائدا على جيش لمواجهة الروم وفيه أبوبكر وعمر والأكابر وهذا خالد سيف الله المسلول يقلده المناصب العسكرية وهذا أبوذر يمنعه من المسؤولية لضعف فيه يجهر له به إلخ ...
من مظاهر حكمة القيادة النبوية في رحلة الهجرة :
1 إرساله مصعبا إبن عمير سفيرا له إلى يثرب يعلم الناس الإسلام سرا حتى تكون يثرب موطنا صالحا لمبعث أمة وقديما قال الأصوليون : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كان لا بد له أن يوطئ أكناف يثرب بالإسلام قدر الإمكان فلا يهجم عليها بدينه الجديد هجمة واحدة أو يباغتها به وهذا من فنون القيادة والحنكة والحكمة.
2 كذلك كان التخطيط لذلك ببيعتي العقبة الأولى والثانية مندرجا في الإطار نفسه بعد أن تحددت الوجهة. وهما مناسبتان لغرس فسائل الإيمان في يثرب فلا يكون غريبا عند قدومه إليها أو تكون دعوته مثار هزء أو سخرية لعدم وجود من يحضنها. وبذلك نتعلم نحن اليوم أن أنسب شيء لنجاح أي مشروع إنما هو البحث عن مناخاته الممكنة وفرص نجاحه المتاحة إذ أن لكل شيء سببه وسنته فهو ثمرة لهما وليس مسقطا بالعنف والإكراه عليهما. كان ذلك منه عليه السلام لعدم وجود عصبة له هناك في مجتمع يعتمد العصبية مرجعا للنصر والهزيمة فكان لا بد من توفير عصبية دينية وهي التي أخبرنا العلامة إبن خلدون عنها أن العرب لا يخضغون لسواها
3 ومن ذلك كذلك تسبيق الصحابة للهجرة سرا وحدانا ومجموعات صغيرة ثم يلتحق بهم هو وفي ذلك حكمة ديمغرافية بالتعبير المعاصر أي التعبئة الديمغرافية التي تساهم في قلب الموازين العمرانية بين الناس لما للعمران البشري كما بله نوعا من تأثيرات كبيرة على تغيير موازين القوى. وفي ذلك كذلك إيثار للناس على نفسه فلو سبق هو بالهجرة تبينت قريش ذلك بسرعة لأنه محط مراقبة لصيقة شديدة ليلا ونهارا وصباحا ومساء ويسهل التنبه إلى غيابه فينكل بأصحابه.
4 ومن ذلك كذلك إقرار التنوع بين الناس فهذا الفاروق ذلك العلامة الفارقة في تاريخ الإسلام يقره عليه السلام ليخالف النهج السري الذي وضعه هو بنفسه لهجرة بقية الأصحاب عليهم الرضوان جميعا ووافقه على هجرة التحدي ليعلمنا أن قانون التعدد في الناس وفي الكون قانون صارم مطرد وأنه لا بد من مراعاة الفوارق بين الناس فلا يغمط أحد حقه لنبوغ فيه في أي حقل بدعوى مسايرة الجماعة ما لم يكن ذلك مضرا بالجماعة وليعلمنا كذلك أن الإسلام والقوة صنوان لا يفترقان فإن إفترقا فهو إما إسلام مزيف مثل الطبعات المعاصرة من الإسلام الأمريكي أو العربي الرسمي الذي يدعى إليه بإسم مقاومة الإرهاب والتطرف والغلو والعنف أو هي قوة السباع المفترسة وليست القوة المحكومة بالتقوى والإنصاف والعدل وقيم الحق. يعلمنا أن نشدان القوة في الإسلام وبه أمر أكيد وضروري ما إستطعنا إلى ذلك سبيلا أن نعيش بدل أن نحيا خانعين لغيره سبحانه بإسم الموازين المنخرمة وسطوة الخصم وقوة العدو وغير ذلك.
فقه أسباب النصر والغلبة والظهور :
1 مبنى الحياة كما أرادها باريها الذي لا يسأل عما يفعل سبحانه هو فقه الأسباب والسنن ومن يفقه السنن والأسباب في عالم الأرض والإنسان يكون أقدر على حسن فقه عقيدة القضاء والقدر التي تمزقت فيها فرق إسلامية خالية بين غلواوين فيما عرف بعلم الكلام. مبناها ذاك مرجعه أنها دار إبتلاء وإختبار وإمتحان فمن فقه ما ذا يريد وفقه كيف يصل إلى ما يريد فقه رسالته ولا يسأل من بعد ذلك على قصوره إذ القصور فينا أصيل ولكن البون شاسع جدا بين الخطإ الذي هو ضربة لازب علينا وبين الخطيئة التي تأتيها عقولنا لما تفكر في حقول بغير أسبابها كمثل نجم فسق عن فلكه فهو حيران هيمان.
2 علمنا الشارع الحكيم أن فقه السبب والأخذ به لازمة للحياة حتى لو كان الأمر متعلقا بقدر إلهي أو قضاء منه لا يرد ولا دخل للإنسان فيه ولا كسب له به. من الأمثلة على ذلك أنه أمر مريم البتول عليها السلام أن " هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ". والسؤال الذكي هو : أنى للمسكينة المبتلاة بأمر لم يبتل به أحد من قبلها ولا من بعدها أن تهز بجذع نخلة يتأبى هزه على العصبة من الرجال والفتاة الصغيرة الغافلة في حالة ضعف بدني ؟ ألم يكن من الحكمة والرحمة منه سبحانه أن يجعل الرطب يسقط عليها بأمر منه وهو صاحب مفتاح ( كن فيكون )؟ كذلك نفكر نحن ولكن الإسلام يعلمنا أن الأخذ بالسبب ولو رمزيا إذ لا يصدق عاقل أن قوة مريم هي التي أسقطت الرطب أي طاعة بالغيب أمر مقصود لنفسه ولذاته وليس لأجل غيره وذلك حتى نتعلم في حياتنا كلها أنه لا شيء يسقط علينا أو يسقط لنا إلا من بعد سبب وسنة وتفكير وعمل. هل يجادل من بعد هذه القصة المثبتة في الوحي الصحيح الصريح مجادل في ضرورة السبب وفي كل الأحوال حتى المتعلقة بالمعجرة النبوية وليس بالعمل البشري؟ ماذا عندما نعلم أن جزء كبيرا جدا من وضع أمتنا الراهن يسأل عنه تقاعسنا عن السبب سواء بسبب جهل أو بسبب تهاون والأمران في البشاعة سيان. موسى عليه السلام أمر بمثل ذلك إذ قال له ( فأضرب بعصاك الحجر ) وأوامر أخرى تحمل المعنى ذاته لأجل الإستسقاء لقومه. هل يصدق عاقل أن ضربة موسى بالعصا هي التي بجست الماء فشرب القوم؟ طبعا لا. إنما المقصود هو سيما أن الأمر مثبت في كتابنا نحن وموجه إلينا نحن أنه سبحانه لا ينعم على أحد بنعمة من دون أي جهد منه ولو كان جهدا رمزيا لا علاقة له بحساب المادة بالثمرة والنتيجة إنما يريد منا سبحانه فقه الأسباب من جهة والطاعة بالغيب من جهة أخرى. ذاك هو كونه وتلك هي قوانين كونه وهو صاحب الملك المطلق فمن شاء حيي في كونه وفق قانونه وإلا فالسنة لا ترحم لا جاهلا بجهله ولا متهاونا بتوانيه وحالنا يغني عن كل شرح وتحليل.
3 هذا الأمر إنطبق عليه هو نفسه عليه السلام إذ لما شاب إعداده للعقبة الثانية ما شاب من قصور كشف المشركون اللقاء وفر من فر من المبايعين وقبض على واحد منهم وعذب ولولا أنه نصح بالبحث عن صاحب له يكفله أو يشفع فيه من أهل مكة لكان مصيره القتل. الأخذ بالسبب والسنة لا يند عنه لا نبي مرسل ولا صحابي ملازم فهو أصرم من الصرامة نفسها.


من مظاهر فقه الأسباب في الهجرة :
1 قدم عليه السلام إلى بيت أبي بكر في ساعة من قائلة لم يكن يقدم فيها عليه وهي ساعة مناسبة في مثل ذلك المناخ الحار الذي يقيل فيه الناس نشدانا لأسباب النصر في أخطر رحلة صورت مستقبل أمة مذ أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض.
2 لما تبرم والد أبي بكر ( أبو قحافة ) من عزم إبنه على سفر بعيد ناوله عليه الرضوان صرة ملئت حصى وكان أبو قحافة ضريرا على أنها مال يكفي العيال حاجاتهم وهو كذب واضح أقره عليه السلام إذ يكون الكذب هنا واجبا وهو العمل الذي تعتريه الأحكام الخمسة فمتى كان ضارا بالناس أي ضرر كان إثما وذنبا عظيما ومتى كان نافعا بالناس في مثل هذه الحالة كان واجبا وتلك هي فلسفة التشريع الإسلامي الذي جاء لإسعاد الناس وقضاء مصالحهم وليس لفرض العنت عليهم.
3 كان أبوبكر قد أعد راحلتين لهذه الرحلة الطويلة والخطيرة واحدة له والأخرى لصاحبه وصديقه محمد عليه السلام ولما أزفت ساعة الإنطلاق أبى عليه السلام إلا أن يدفع لصاحبه ثمن راحلته.
4 كما جند عليه السلام فريقا من الشباب يقومون على بعض الأعمال التي تؤمنهم حتى غار ثور في جبل ثور وهو الغار الذي لزماه ( هو وصاحبه أبوبكر ) زهاء ثلاثة أيام. يتكون الفريق من إمرأة فتية تتقد ذكاء وجرأة وهي أسماء بنت أبي بكر وعبد الله إبنه كذلك وراعيه وبذلك تشرف البيت البكري بأكبر قسط من الإعداد لأعظم رحلة في التاريخ. بعضهم يزود المختفيين بالغذاء والماء وبعضهم يعفو برعيه عن آثار الأقدام وبعضهم يتتبع أخبار مكة وينقلها إليه عليه السلام في الغار
5 وإمعانا في نشدان أكثر ما يمكن من أسباب فقه النصر إضافة إلى ما تقدم فإنه عليه السلام إختار أن يتوجه إلى الإتجاه المضاد لرحلته أي إتجه جنوبا ومعلوم أن المدينة التي يريدها تقع شمالا وبذلك يربك أي حركة لرصده
6 ويشاء ربك سبحانه أن يسدل أردية ستره على قافلة الهجرة بما أودع فيه وفي صاحبه وفي الفريق كله من نشدان لأسباب النصر المطلوبة ولا يتم نصر في الدنيا إلا وفيه ما فيه من الكدر والنكد ويشاء ربك سبحانه أن يوشك الفريق القرشي المكلف بالبحث عن محمد عليه السلام أن يظفر به إذ ساقتهم الأقدار إلى الغار حيث يختفيان ويقول أبو بكر حرصا على صاحبه والدعوة الناشئة ( لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا ) فيكون الجواب مشتقا من المشكاة النبوية الموسوية القديمة ( إن معي ربي سيهدين ). يكون جواب محمد عليه السلام لصاحبه الحريص على نجاح هذه الرحلة الخطيرة التي لها ما بعدها ( ما ظنك يا أبا بكر بإثنين الله ثالثهما ). ويسجل القرآن الكريم ذلك. فلا أثر لعنكبوت ولا لخيوطها أو بيتها كما يتردد عند عامة الناس الذين يدعون مظان السيرة رغم أنها هي بدورها ليست مسندة ولكنها لم تحو مثل هذه الخرافات ويظلون يبحثون عن تفاصيل حياته في مظان ما أنزل الله بها من سلطان سوى الهوى العامي إمعانا في تدين تقليدي أسطوري خرافي سرعان ما تنال منه وافدات شرسات متبرجات.
وبذلك نتعلم نحن اليوم أن الأنبياء أنفسهم مكلفون بالبحث عن أيسر الأسباب وأمتنها لإنجاح خطوات دعوتهم فلا يركنون إلى الوحي الذي يلقي إليهم بالهداية ومن الهداية الفكرية أن يبحث المرء عن أسباب النصر.
نتعلم نحن اليوم أن المرأة عنصر أساسي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي المشاركة في الأعمال الكبرى مهما تكن خطيرة أو بعيدة أو ذات مجاهدات ومقاومات إذ هي كائن مكلف مسؤول مثلها مثل الرجل فهما متساويان في التكليف حتى لو كان التكليف نفسه متنوعا.
نتعلم نحن اليوم أن هؤلاء الرجال الذين قام عليهم الإسلام لما كان غريبا من مثل الصديق أبي بكر عليه الرضوان لا يليق بنا سوى أن نترضى عنهم بمثل ما نصلي ونسلم على قائدهم وقائدنا محمد عليه السلام. وشتان بين رجل قام الإسلام عليه مالا وبدنا ونفسا وبين علج من العلوج يتسلق الإسلام اليوم ليشبع أمته سبا وشتما وهزوا.
كما نتعلم نحن اليوم أن إعداد الأسباب مهما تكن حكيمة فإن مشيئة الله سبحانه غلابة وما تقضي أمرا هنا إلا لثغرة في السبب المعد من جهة ولحكمة أخرى إبتلاء وتأهيلا وترقية من جهة ثانية. نتعلم أن الدنيا حتى بنصرها لا بد فيها من كدر ونكد لأنها كذلك شيدت فهي دار إبتلاء وإمتحان وإختبار وليست دار جزاء ولا قرار.
نتعلم أن المقصد الأسنى من كل خلق إنما هو تحقيق العدل و القسط والكرامة للناس. فالكذب مثلا يكون واجبا عندما يحقق مثل ذلك ويكون محرما عندما ينقلب إلى الضد من ذلك لينال من أعراض الناس وأموالهم وأبشارهم. المقصود هنا هو أن الأخلاق الإسلامية ذات وظيفة إجتماعية قيمية مقصدة معللة فليست هي شيئا جامدا على حكم شرعي واحد لا تبرحه. ألا ترى أنه عليه السلام أقر أبا دجانة في مشيته المتكبرة المتبخترة بين صفي بدر وقال ( إنها مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع ). الكبر ممقوت ولكنه هنا محمود وكذلك قس كل خلق. تلك هي فلسفة الأخلاق في الإسلام.
نتعلم كذلك أن القائد يدفع ما عليه من إستحقاقات مالية فلا يعفى بسبب صفته القيادية كما فعل عليه السلام عندما دفع ثمن ناقته إلى أبي بكر. هل كان عليه السلام يتقاضى منحة نبوة أو منحة مسؤولية ليدفع منها ثمن راحلته. إنما هو الخلق الإسلامي العظيم الذي تربع عليه السلام على عرشه كما يتربع الملك المظفر على عرشه فلا ينازعه عليه أحد ( وإنك لعلى خلق عظيم ). ماذا نفعل نحن اليوم بمشايخنا وقادتنا وأمرائنا وأهل الريادة فينا سواء إستحقوا ذلك أم أخذوه بأسياف الحياء أو المهابة أو بأسياف معلومة أخرى؟ شتان وشتان ...
كما نتعلم نحن اليوم أن إحاطة الأعمال الكبرى بالسرية المطلقة لا يعني خوفا ولا جبنا ولكن يعني حسن مراعاة لموازين القوى فإن كانت منخرمة فلا بد من مراعاة إنخرامها فلا فضل لشجاعة تفضي بأهلها إلى التهلكة أو الذلة ولكن الشجاعة الحقيقية المطلوبة هي مراودة الأعمال الإصلاحية الكبرى والصبر عندما يكتشف بعض أمرها والإحتساب ومواصلة المشوار حتى الموت أما كلمة واحدة مجلجلة في وجه طاغية ثم ينتهي المشهد البائس فهذا أمر لئن إتسع لهذا وتلك فهو لا يتسع للقادة الكبار مادام العمل يقتضي السرية والذين يتهمون السرية قاعدون أصلا لا علاقة لهم بالإصلاح بل أكثرهم مفسد فلا يستخفننا الذين لا يوقنون.
كما نتعلم أن الحرب خدعة والسرية ضرب من ضروب الخدعة ومن ذلك توجهه جنوبا لإيهام الخصم وملازمة التخفي ثلاثا وفي غضون الثلاث عادة ما يفتر البحث ومن خدعة الحرب إرسال حكيم يعيش مع الناس ويتقلب معهم لمعرفة ما يدور .. كلها وسائل يقصد منها نشدان وإستجماع أكثر ما يمكن من أسباب النصر إذ لا عمل يستنبت مقطوعا عن سببه ولا منفلتا من سنته.
و لا يقتصر على الأسباب المادية فحسب بل لا بد من الجمع بينها وبين الأسباب الفكرية والروحية والنفسية إذ كلاهما مطلوب فلا خير فيمن تسلح بروح عالية واثقة مؤمنة ثم قعد لا يحرك ساكنا ولا يتمعر وجهه لمنكر مقترف مستعلن من مثل العدوان على حرمات الناس. ولا خير فيمن تسلح بالأسباب المادية أحسن ما تكون إحكاما وفؤاده أفرغ من الثقة واليقين والتوكل على الله رب الأسباب سبحانه ومدبر الأمر من السماء إلى الأرض.
لكل حقل ميزانه فلا تخلط بين الموازين فتضل.
هذا الموضوع مهم جدا إذ يعمق المعرفة بالإسلام ويعلم مختلف مكاييله وموازينه ومعاييره إذ التشريع الإسلامي ليس في مستوى واحد. ناكية النواكي اليوم أن أكثر الناس بل أكثر المنتسبين إلى الحقل الديني ومنهم من يرتاد مناصب الإفتاء والتوجيه والترشيد والتعليم لا يعلمون من التشريع سوى معيار الحلية والحرمة فكل شيء عندهم إما حلال أو حرام وهذا خطأ فاحش.
عندما نكون في قضية عقدية قحة فإن الميزان هو الحق والباطل أو الكفر والإيمان وعندما نكون في قضية تشريعية أي عملية لا عقدية فإن الميزان هو الحلية والحرمة وعندما نكون في قضية سياسية فإن الميزان هو المصلحة والمفسدة وعندما نكون في قضية إجتماعية تعاملا مع الناس فإن الميزان هو العدل والجور وهكذا ..
أختار هنا من حادثة الهجرة النبوية مثالين لبيان ذلك :
1 تسليم الأمانات إلى أهلها.
إذ كلف عليه السلام عليا عليه الرضوان ويأتي تكليفه هنا بسبب صلة الرحم الوثيقة التي لها معيار كبير في المجتمع الجاهلي في تلك الأيام بلزوم بيته وفراشه ليؤدي الأمانات التي أستؤمن عليها عليه السلام من لدن المشركين الذين كانوا يحاربونه نهارا ويستأمنونه على أموالهم الثمينة دون غيره حتى من رحمهم ولا غرو فهو الملقب عندهم بالصادق الأمين. وبذلك لك أن تقول أن محمدا عليه السلام ربح المعركة وحسمها لصالح دعوته الجديدة قبل أن يصعد فوق الركح بسبب تفوقه القيمي عليهم إذ شهد له خصمه بالصدق والأمانة ومن شهد له خصمه بذاك فيعسر جدا أن ينتصر عليه. هذا مشهد وفاء عظيم وكبير ولو أغدق فيه مداد الدنيا ما وفاه عشر معشار حقه ورب الكعبة الشريفة. لك أن تتصور أن رجلا يحاربه قومه وهو الصادق الأمين في عيونهم ويستأمنونه في الآن نفسه على ما لا يستأمنون عليه أزواجهم وبنيهم فإذا هاجر من المدينة التي هو فيها وكل من يرجع الأمانات إلى أهلها وهم مشركون كفار بل أهل حرب وشدة وقسوة وجور وقهر وظلم. أي نبي هذا؟ لذلك إنتصرت دعوته وإنتشر دينه وليس لي من تفسير آخر.
هل نفذ عليه السلام هنا ميزان الكفر والإسلام أو الحلال والحرام؟ طبعا لا. لو نفذ ميزان الكفر والإيمان هنا لما أعاد إليهم أموالهم لأنهم مشركون يحاربون الله ورسوله عليه السلام. لم يكن كفرهم بل حتى حربهم إياه بغير حق مانعا لهم ولا مانعا له أن يؤدي إليهم أموالهم.
إنما نفذ عليه السلام هنا ميزان العدل والجور إذ العدل هو عدم غمط الناس أشياءهم بغض النظر عن معتقداتهم التي يحاسبهم عليها ربهم وحده سبحانه والجور هو أكلها بدعوى أنهم مشركون أو حتى محاربون. الأمر هنا يشتبك مع السبب الأول الرئيس لواقعة بدر الكبرى ولكن لا مجال هنا لنا في التفصيل في الأمر.
ما يجب أن نعلمه هنا هو أن أولئك المشركين يحاربون الحق مباشرة أي يحاربون الناطق بإسم السماء وليس داعية أو شيخا أو عالما أو حاكما صالحا مصلحا أو خليفة من خلفاء المسلمين. لا. هم يحاربون الله ورسوله بصورة مباشرة.
ورغم ذلك فلهم حقهم في أموالهم لا تؤكل تشفيا منهم ولا حقدا عليهم ولا حتى عقابا لهم. ذلك هو معنى تعدد الموازين التشريعية في الإسلام فلا بد من معرفة ميزان كل حقل لنحكمه فلا نضل ولا نضل.

2 قائد أعظم رحلة في التاريخ مشرك مأجور.
هو عبد الله إبن أريقط مشرك معروف بالأمانة وبالقوة المتمثلة في معرفة مسالك الصحراء. هو إذن قوي أمين. الأمانة هنا هي الأمانة الدنيوية الإجتماعية. أمين بين الناس وليس بينه وبين رب الناس. إستأجره عليه السلام بمقابل مالي أو مادي ليكون قائد رحلة الهجرة العظيمة فكتم سره وأدى المهمة وأخذ أجره. لم لم يستأجر عليه السلام مؤمنا؟ إما لأن المؤمنين قد سبقوه إلى المدينة ولكن كان له أن يستبقي منهم من يقوم بهذه المهمة ولكن ربما
وهذا هو الأرجح لأنه ليس منهم من هو في قوة هذا المشرك أي معرفة دقيقة وعالية ومفصلة بأقوم المسالك أمنا إلى المدينة يثرب.
لو نفذ عليه السلام هنا ميزان الكفر والإيمان أو الحلال والحرام لما إستأجر مشركا يقود أخطر رحلة وأعظم سفرة. ولكنه نفذ ميزانا صالحا بهذا العمل إسمه ميزان المصلحة والمفسدة. أي أنها مصلحة خطيرة وحيوية جدا لا بد أن يقوم عليها واحد من أهلها بشرط واحد هو أن يكون أمينا في الأرض أي لا يكشف سر مؤجره.
كثير من المسلمين اليوم يتحرجون تأثما من الإشتراك مع غير مسلم شراكة مالية أو إقتصادية أو إستثمارية أو إجتماعية بوجه عام. أكثرنا يخلط في الموازين خلطا شنيعا فلا يبيحون مثل هذا لأن الطرف المشارك مشرك أو غير مسلم بصفة عامة. يخلطون بين الموازين فيحكمون هنا ميزانا خاطئا هنا إسمه الحلال والحرام أو الحق والباطل. يقيسون الحياة على إمامة الصلاة الذي لا تصح منه إمامة ما لم يكن مسلما.
هناك لمحة أخرى تعتلج في قوامها أنه عليه السلام ربما إختار مشركا أمينا قويا حتى مع وجود مؤمن مثله قوة ليعلمنا فن الحياة وفقه الحياة وكيف ننفذ الموازين المتعددة في حقولها المناسبة. وعلى كل حال أراد هو ذلك أم لم يرده إبتداء فإنه علينا أن نتعلم ذلك.
ذلك يعني أنه علينا أن نتعلم أن الإسلام يقود الحياة كلها ويغذيها بعقيدته ويوجهها ولكنه يقسمها إلى حياة دينية خاصة وحياة دنيوية عامة. فما كان منها دينيا خاصا فإن الميزان فيه هو ميزان الحق والباطل والكفر والإيمان في الإعتقاد وهو ميزان الحلية والحرمة في الأفعال والأعمال والأقوال وغير ذلك وميزان الطاعة والعصيان في العبادة المخصوصة ومساحات لصيقة بها. فإذا كان الإسلام في المنطقة الأخرى الأوسع أي منطقة الحياة الدنيا فإن ميزانه إما أن يكون المصلحة والمفسدة أو ميزان العدل والجور أو غير ذلك مما يكون مناسبا بسبب أن الإشتراك هنا في هذه المنطقة من لدنا مع الناس غير المسلمين والمخالفين أمر ضروري لا بد منه.
ذلك هو معنى أن الشريعة لها مستويات متعددة وموازين مختلفة فمن عرف ذلك وفقهه فقد فاد علما وأفاد علما ومن تنكبه جهلا أو غرورا فقد ضل وأضل والعياذ بالله.
زرع الأمل ينبت الإيمان وبث الإنتقام يثمر نكدا.
هو رسول الأمل فعلا وحقا وصدقا وعدلا ورب الكعبة. لم أجد في الإسلام خلقا أروع من خلق الأمل يسمى قديما الرجاء يبث في أوردة الحياة إكسيرا جديدا يداعب الفؤاد ليحيله إلى تنور من الإيجابية والعمل الصالح. هو النبي الذي يملأ البشرية يقينا وأملا ورجاء وثقة في الله وفي عباد الله وفي النفس. هو صاحب الدين الذي يقتلع جذور اليأس من أسها ويمزق شرايين القنوط من عمقها. أليست الحياة معادلة بين الأمل والعمل فمن أمل عمل ومن يئس كسد وعطل وبطل ثم مات.
هناك موقف في سيرته لم يشدني ورب الكعبة كما شدني ذاك. مشهد لا تجد له عنوانا. لأنه عنوان كل شيء. هو عنوان محمد عليه السلام وكفى. هو مشهد جوده على رأس النفاق عبد الله إبن أبي إبن سلول ببردته التي تدثره ليسجى بها وهو ميت ثم ليدفن فيها وتكون له كفنا. أنت تعرف قطعا من هو هذا وما فعل؟ إنه رأس النفاق الذي حاول تحطيم البيت النبوي من أسه ليخر سقف الإسلام. وأي إسلام وأي نبي للإسلام عندما يثبت للناس أن زوجه عاهرة زانية؟ هل يبقى هناك أمل في إسلام أو دين أو إيمان. اللهم لا. هو رأس النفاق الذي قذف الصديقة بنت الصديق والعظيمة زوج العظيم والأم الرؤوم الحنون بالزنى. هو رأس النفاق الذي ظل يكيد للإسلام ولأمته لسنوات طويلات ونزلت فيه آيات بينات. حاول تمزيق الصف الإسلامي ذات مرة مهتبلا خصومة جدت بين مؤمنين ينتميان لأعراق مختلفة. وما ذا بقي من الإسلام وأمته عندما ينخرم صفها. رأس النفاق ذاك رق له عليه السلام وهو مسجى ميت فجاد عليه ببردته التي تدثره ودفن فيها وبها كفن.
هات عنوانا لهذا المشهد؟ أبدا. بحثت عنه عقودا طويلات فما ظفرت بعنوان مناسب. إلا عنوانا واحدا إسمه : محمد عليه السلام. ذاك هو محمد. أقول في نفسي وللناس : من لم يعرف منه هذا المشهد فما عرف من هو محمد أبدا. تظل صورته في نفسه مشوهة مضطربة. لو عرفت منه كل شيء فغاب عنك هذا ما عرفت منه شيئا. ذاك ظني.
كان عليه السلام يقف على قبر من مات من المنافقين داعيا ربه متضرعا حتى نهي عن ذلك ولما نهي قال ( لو أعلم أني لو إستغفرت لهم أكثر من السبعين فغفر لهم لفعلت ). هات عنوانا لهذا؟ أبدا. لن تجد له عنوانا.
هذا النبي تجاوز العناوين والمشاهد كله. تربع على عرش الخلق العظيم الكريم كما يتربع الملك المظفر فلا ينازعه عليه أحد. أجل . تربع على عرش الحلم والعفو والصفح والتجاوز واللين والرفق. حلم مع قدرة ولين مع ألم يكتمه.
سراقة إبن مالك هو بطل المشهد النبوي.
أجل. إجتمعت قريش للنظر في تجاوز الفضيحة التي حلت بها في إثر إكتشافها أن محمدا عليه السلام غادر مكة وأن أصحابه كذلك. وعندما يفر من سجنك سجينك فقد ينشر ضدك قالة لا تسرك. وأمامها سوق عكاظ الدولي السنوي وهي تخشى لاميات مئينة مرصعة هجاء تنال من هيبتها. وكانت نتيجة الإجتماع الطارئ أنه من يظفر بمحمد عليه السلام يكون جزاؤه مائة ناقة. مائة ناقة تجعل من الفقير ملكا مدللا تضرب إليه أكباد الإبل. سمع بالوعد شاب من فرسان قريش إسمه سراقة إبن مالك. تحركت نفسه إلى الدنيا وكيف يضيع فرصة العمر؟ أسر الأمر في نفسه وإمتطى صهوة فرسه وظل يبحث مشرقا ومغربا حتى ساقته أقدار الرحمان سبحانه وهو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض إبتلاء للناس بمثل ما ساقت أرجل المشركين قبل أيام قليلات إلى غار ثور حيث يختفي النبي وصاحبه. هناك حيث تضمخت شغاف فؤاد أبي بكر بوجبة أمل دسمة جدا ( ما ظنك بإثنين الله ثالثهما ). هناك حيث الإرادة الربانية التي تمنع نملة من قرص رجل المشرك الذي لو نظر إلى قدميه لأكتشف المختفين. هناك حيث الإرادة الرحمانية تحجز المشرك من حك رجله حتى لو أصابها مكروه. هناك حيث أراد سبحانه ألا يحول دون المشرك والمبحوث عنه سوى لمحة بصر أذن سبحانه أن ترتد خاسئة حاسرة. هي أقداره دوما كذلك.
هي الإرادة نفسها التي ساقت سراقة وفرسه إلى موكب محمد عليه السلام وفيه صاحبه الصديق وزيد متبناه. موكب أعزل من كل سلاح وفيه راحلتان. إنكشفت الخطة إذن بمثل ما إنشكفت له من قبل خطة بيعة العقبة الثانية. هو عمل بشري يمكن أن يتعرض للهزات ليتعلم الناس قيمة الأسباب من جانب فلا يدخروا جهدا في تحصيلها وإتقانها وإحسانها ومن جانب آخر ليعلموا أن السبب مهما كان محكم الإعداد فلن يحول دون إرادة الباري سبحانه ليقضي ما شاء إبتلاء ثم ليرضى من شاء فيرضى الله عنه وليسخط من شاء ويسخط الله عنه.
الرجل بفرسه وكان يمكنه أن يرجع إلى قريش فيحصل على الجائزة العظمى ويكون من أغناهم بل ربما أغناهم وأيسرهم في مقابل دلالته عليه عليه السلام. الرجل بفرسه وكان يمكنه مداهمة قافلة صغيرة لا فرس لها ولا سلاح لها فينال منهم. وفي مقابل ذلك في القافلة ثلاثة رجال كان يمكنهم أن يستدرجوا سراقة فيوثقونه ويقتلونه أو يدعونه طعاما شهيا للأطيار ودواب الصحراء وهوامها. الإمكانيات من الجانبين كثيرة ومتوفرة ولكنه عليه السلام إختار حلا آخر ومعالجة أخرى إنما هي تنبجس من فؤاده المترع أملا دوما.
نبي يعرف الناس ويعرف رب الناس.
هو نبي الأمل فجاد بالأمل وقال لسراقة : خذل علينا ولك سوارى كسرى. هو يعرف الناس ومعادنهم أي عالم بالنفس البشرية بصفة عامة وعالم بطموحات هذا الرجل الذي إنما ساقه إليه حبه الشديد للمال. جاء الرجل وصحراء الجزيرة العربية كلها تتراءى له نوقا حمرا. جاء الرجل ولعابه يسيل أملا في مائة ناقة يكون بها سيدا من سادة قريش في لمح البصر. قرأ عليه السلام الرجل نفسيا وإجتماعيا فعرض عليه العرض نفسه : سوارى كسرى. كان يقول له بلسان الحال لا بلسان المقال : أنت يا سراقة تريد مالا عاجلا فهلا أعدك بمال خيرا منه ألف مرة ومرة ولكنه مال مؤجل. الداعية الذي لا يعرف الناس وما يحبون وما يكرهون لا يمكن له أن يهديهم إلى الخير. أمثال سراقة لا بد أن يقادوا أولا وفي بداية الطريق بما يحبون وعنه يبحثون أي المال. ألا ترى أنه ساق أبا سفيان إلى الإسلام بما يحب أبو سفيان نفسه أي بالأبهة والرياسة فقال في فتح مكة : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ذلك هو شأن الداعية الناجح لا يعتمد مقياسا واحدا يقيس به الناس كلهم. إنما يعرف من أين يقاد ويهدى كل إنسان. هو طبيب لا يناول الناس دواء واحدا حتى لو كانوا جميعا يشكون من مرض واحد.
هو يعرف الناس ولكنه يعرف رب الناس كذلك. أكثر الدعاة اليوم إذا عرفوا رب الناس جهلوا الناس وإذا عرفوا الناس جهلوا رب الناس. لذلك قال علي عليه الرضوان : هل أخبركم بالفقيه كل الفقيه ؟ قال : الفقيه كل الفقيه هو من لا يوئس الناس من رحمة الله ولا يؤمنهم من مكره.
يعرف رب الناس أنه الرحمان الرحيم محط الأمل والرجاء فلا ييأس من الإيمان به إمرئ ولذلك وعد سراقة بسوارى كسرى أنو شروان. وهنا تكون المفاجأة العظمى. الرجل مطارد مبحوث عنه في سماء قريش وأرضها وتجند لأجل الظفر به أسيرا أو قتيلا أموال وقوافل تجوب الصحراء فلا يمنعه وضعه ذاك من بث الأمل وبث البشارة التي لا يصدقها إلا مؤمن بنبي. سوارى كسرى مرة واحدة يا رسول الله؟
في تلك الأيام لو إقتربت ذبابة من سوارى كسرى لإخترمتها السيوف التي تحرس كسرى وما يملك كسرى. في تلك الأيام يملك كسرى الشرق كله بأسره ويقابله ملك هرقل في الغرب. وضع شبيه بوضعنا سيما أيام الحرب الباردة ( 1945 1989 ).
وفي ظلمة المحنة وعتمة التشريد ومن رحم المكابدة تنبجس المبشرات من في المؤيد بالوحي عليه السلام فيعد سراقة بسوارى كسرى ويقنع سراقة بالوعد ويعود مخذلا عنه عليه السلام وموفيا بوعده وكان يمكنه نكثه ليقع عليه السلام فريسة الغدر والخيانة. وهي المرة الثانية التي يعرف فيها عليه السلام الرجال من المشركين ويعرف كيف يعالجهم. عرف إبن أريقط فجعله قائدا لرحلته العظيمة الخطيرة وعرف سراقة. إنه فقه الحياة أو فن التعامل مع الناس. وفعلا نجحت المعالجة مع سراقة الذي جاء والرمال في عينيه نوق حمر فولى مؤمنا أو على وشك الإيمان لا يلوي على كنز فاته فهو موعود بكنز أعظم ومات عليه السلام ولم يقنط سراقة وجاء أبوبكر ثم مات وما نال سراقة شيئا ولكنه لم ييأس ولما جاء دور الفاروق أميرا للمؤمنين فتح الله على يديه بلاد فارس وجيئ له بكنوز وأموال ولك أن تتصور أموالا وكنوزا يغنمها المسلمون من ملك مترف مثل كسرى وإجتمع الناس للغنيمة ونسي الناس كلهم وعده عليه السلام لسراقة حتى وقعت عين بعضهم على السوارى تتلألأ فذكر الوعد وبحث عن سراقة الموعود بها قبل عقود وجيء به شيخا طاعنا في السن وقلدها في حفل بهي بهيج ولا شك أن الدموع تخللته كثيرا إذ يتحقق الوعد النبوي بعد عقود حتى كاد الناس أن يغفلوا عنه. فأي غنم غنمه سراقة وأي تدبير إلهي رحماني لو أن الناس لا يستعجلون؟ غنم الرجل إيمانا وصحبة ووفاء ثم غنم مالا وأي مال. إنه مال ملك مترف مغلوب. أليس هو الذي وعد بفتح قسطنطينية ففتحت وهي الآن محكومة بالمسلمين بل كانت عاصمة لخلافة عثمانية. أليس هو الذي وعد بفتح رومية ولما تفتح؟ بل هي مفتوحة في الحساب الإيماني وسيحتفل فاتحوها يوما ما بحوله سبحانه بالوعد النبوي الصادق وستكون لحظة مثل لحظة سراقة مع سوارى كسرى في خلافة الفاروق.
ماذا لو قتل سراقة.
ماذا لو إختار عليه السلام قتل سراقة الكافر المشرك الطماع الذي جاء يسيل لعابه لأجل ترف الدنيا الكافر؟ هل كان كل ذلك يحدث؟ هل كان يؤمن الرجل؟ هل كان المسلمون يذكرون وعده يوم الغنيمة؟ هل كان دينه يبث الأمل والرجاء في رب الناس ثم في الناس. طبعا لا وقطعا ألف لا ولا. إنها معالجات النبوة التي لا نعرف نحن منها إلا ظاهرا من الدين. ظاهر لا يكاد يسمن ولا يغني من جوعة قيمة. نبي يبث الأمل في صدر مشرك جاء يسوقه حتفه لأجل الدنيا وهو يحارب الله ورسوله وليس حركة أو أي قوة إسلامية أخرى. بذلك تجهزت النبوة فغلبت وظهرت. وبذلك يجب أن نتجهز لنرقى مراقي النصر والغلبة والظهور. أما بناء العلاقة بين المسلمين وغيرهم على أساس واحد هو أساس الحرب والقوة المادية فذلك طريق مسدود. مسدود مسدود ورب الكعبة. لن أصدقكم وأكذب محمدا عليه السلام.
الإسلام والفطرة : علاقة تلبية إنسانية لا علاقة عداء ولا علاقة ميوعة
نعالج ذلك من خلال رحلة الهجرة في موضعين إثنين :
1 حب الوطن إيمان وهو غريزة مغرورة.
" إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ".
قال ذلك عليه السلام وهو يلتفت إلى مكة في طريق الهجرة إلى يثرب. قال ذلك دامع العين. قال ذلك وهو ينهى الأصحاب المهاجرين من شعرائه في مواضع أخرى أن يلحدوا كثيرا في التغني بمكة مهدهم الأول أن يتطور بهم الوله والعشق إلى ما لا تحمد عقباه كما يحدث في العادة لأهل الشوق عندما يذكرون الأحبة والديار والأهل. يأذن عليه السلام لنفسه ولغيره بما يكفكف أشواق الفطرة المتوقدة إعترافا بالغريزة الوطنية وتلبية للجبلة التي عليها جبلنا بل جبل عليها الطير الذي يأوي إلى وكره الأول في أول فرصة سانحة. ولكنه لا يأذن بالتمادي في ذلك خشية أن تندلق أقتاب الشوق إندلاقا تعسر كفكفته.
مكة عنده هي وطنه.
هذا معقد من الحديث مازال يتلبس به الذي يتلبس من التشويش. إذ يظن كثير من الناس أنه عليه السلام كان يحن لمكة لأنها مكة أي موطن البيت الحرام والحقيقة أنه يحن لمكة لأنها موطنه الأول ووطنه ومهد طفولته وشبابه ومرتع دعوته وفيها ذكرياته نبيا وغير نبي. لم أفهم لم يصر بعض المتدينين على نزع الدسم الفطري عند نبي من الأنبياء مثل محمد عليه السلام. لم ينكرون عليه شوقه إلى مكة أو ينسبون شوقه ذاك إلى السبب الديني وليس إلى السبب الجبلي الغريزي الفطري المغروس في كل ذات كبد حرى رطبة وليس هو خاصا حتى بالإنسان فحسب. ألم يقرؤوا مرارا وتكرارا تأكيده سبحانه بشرية محمد عليه السلام؟ لم ذاك؟ أليس ليعلمنا أنه بشر مثلنا في التكوين البدني والفطري فهو يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ويأتي ما نأتي بل يأتيه ما يأتينا ولكنه صقله سبحانه ورباه وأدبه وأطره حتى إستوى نفسا زكية مباركة طيبة بما أجهد نفسه بالعبادة والتزكية والتطهير ثم بعثه رسولا إلى الناس كافة حتى تقوم الساعة.
لو برح عليه السلام أرضا أخرى كانت هي موطنه الأصلي أو وطنه الذي فيه تربى ونشأ وترعرع لحن إليه حنينه إلى مكة. مكة هنا بالنسبة له يذرف عليها الدموع الحرى لأنها موطنه ومهد ذكرياته وأي إنسان بل أي ذي كبد حرى رطبة يهجر من أرضه قسرا وعدوانا يحن إلى مثل ذاك. حتى الذين يهجرون أوطانهم بل مواطنهم الصغيرة داخل الوطن الكبير نفسه إختيارا منهم طلبا للعلم أو للنكاح أو للمال أو للسياحة لا بد أن تغتالهم أشواق الوطنية فيستوحشون الإغتراب وربما يبكون وتستبد بهم آلام الشوق فيقرظون شعرا أو يكتبون نثرا فإذا كان المرء مهجرا قسرا عن موطنه الأول فإن الشوق الوطني إليه يتضاعف أضعافا مضاعفة.
ولذلك تغدو الوطنية شعورا جبليا غريزيا طبيعيا فطريا معروفا معلوما وليس قميصا يرتديه المنافقون كلما شاؤوا أو نزعوه كلما شاؤوا. إذ عد سبحانه التهجير عن الوطن قسرا وقهرا قتلا في كتابه العزيز وهو قتل خفي أو هو وأد بطيء.
حق له إذن عليه السلام أن تذرف عيناه الدمع فهو أنقى الناس فطرة وأصفاهم غريزة وأصدقهم جبلة. حق له ذلك ولكن الحرية أغلى من كل ذلك لذلك هاجر أرضه وبلاده باحثا عن مساحة حرية أوسع لدينه ودعوته وصحبه. الوطن غال نفيس ولكن الله أغلى وأعلى وأكبر. ألم تعلم أن أكثر الصحابة وبنسبة عالية جدا إنما ماتوا مهاجرين خارج مكة وخارج شبه الجزيرة العربية نفسها بمئات الأميال وآلاف الأميال فهل تظن أن المال بعثهم إلى ذلك أو تظن أن جبلتهم لم تكن تألم لهجران الوطن وذكرياته. أبدا. ولكن إضطرتهم ظروف الدعوة لذلك فكان الله عندهم أغلى من الوطن وأكبر من العشيرة والإلف وأعلى من كل عال مقدم.
ولذلك يغدو اليوم تجريد أي إنسان من جنسيته الوطنية الأصلية أكبر جريمة تقترفها السلطات السياسية الحاكمة. وأروي لكم منه شأنا إن شئتم. ساقتني أقدار الرحمان سبحانه إلى ألمانيا في سنوات الجمر الحامية مطاردا من تونس وطالت الغربة وإدلهمت الكربة ومما وقع لي أني كلما أبصرت جواز سفر تونسي وهو أخضر اللون بكيت ورب الكعبة أني لم أشعر يوما بأني الإبن المكرم لهذا الوطن ولا أدل على ذلك من أني محروم من أعلى وثيقة رسمية تثبت جنسيتي التونسية. ولما وقعت الثورة بعد زهاء عشرين عاما وتحصلت لأول مرة في حياتي على جواز سفر تونسي وكان عمري آنذاك 56 عاما .. كان يعانقني شعور فياض لا يوصف. أحسست أني تونسي فعلا وأن البلاد بلادي والوطن وطني. الإنسان هنا في مثل هذه الأمور كمثل الطفل الصغير ومن يتعمق بحثه بينه وبين نفسه في الأمور الفطرية الغريزية الجبلية يدرك فعلا أننا حيالها أطفالا صغارا ننشد التلبية. هو شعور الإنتماء الذي لا يحرم منه إلا شقي.
ولذلك تغدو الوطنية كسبا موروثا مشتركا بين أهل كل بلد بالسوية فلا يفتخر به أحد على أحد لأغراض حزبية أو فئوية أو سياسية ضيقة. نحن اليوم نعيش في أوطان صغيرة ضيقة بأثر من التقسيمات الدولية الظالمة لسايكس وبيكو في 1917 ولم نحيا في الأمة الإسلامية الكبرى التي كانت لا تكاد تشرق الشمس إلا عليها ولا تغرب إلا فيها. يومها كان الشعور مختلفا بسبب سعة الرقعة الإسلامية. ولو لم يكن سوى هذا سببا كافيا لإعلان تمشينا نحو وحدة عربية إسلامية تعمق بعد الإنتماء فينا لكان ذاك مطلبا مشروعا.
2 اللهو في مكانه وزمانه وبقدره هو ملح الحياة.
ما إن وصل عليه السلام مع صاحبيه المدينة حتى إستقبل من لدن مجموعة من البنات يزجلن النشيد المعروف : طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا لله داع ... إلى آخر ما هو معروف. المغنيات بنات ربما بلغن الحلم وهن يزجلن النشيد بفرح وطرب وفي مناخ من اللهو والمرح واللعب فما أنكر ذلك عليه السلام بل أقره وقلن له أي بنات النجار إنهن يحببنه فبادلهن الحب ذاته وقال لهن : وأنا أحبكن.
ملخص المشكلة هو أن الأصحاب الذين تربوا في حجره عليه السلام بتعليمات القرآن الكريم كانوا يفقهون ما معنى اليسر في الدين. كانوا يرونه ويسمعونه وهو ينهى أبابكر أن يمنع بعض البنات من الغناء والضرب بالدف في بيته عليه السلام في يوم عيد. وكانوا يستمعون إليه وهو يأمر بأن يصطحبوا معهم إلى حفل عرس للأنصار شيئا من اللهو وعلل ذلك بأن الأنصار قوم يعجبهم اللهو. كانوا يعلمون أنه وقف لإمرأة نذرت إن هو عاد سالما من واقعة حربية أن تغني بحضرته وتضرب بالدف فوافقها حتى فرغت ثم واصل طريقه. كانوا يعلمون كما ورد في البخاري أن إمرأة وسواء كانت أمة أم حرة فإن الغريزة الجنسية هي هي لهما معا قدمت عليه وهو مع بعض أصحابه فأخذت بيده وظلت تقص عليه الذي تقص حتى غابت به عن الأنظار ثم عادت به كما أخذته. وأنه أقر أم هانئ في إجارة أخيها في فتح مكة وهو قرار سياسي سيادي عسكري أمني خطير جدا يتعلق بالأمن القومي في أيام حالة الطوارئ في ذلك الفتح.
الأصحاب إذن علموا بالثقافتين النظرية والعملية كما يقولون فقهه للدين عليه السلام وبذا كانوا أهل يسر وليس اليسر إنفلات ولكنه توسط وإعتدال وتوازن.
فلما إنقرضت الأجيال الأولى ودب في المجتمع الذي دب من بعض مظاهر الإنحلال والتسيب من جهة وتوقف الفقه عن الإجتهاد والتجديد أصولا وفروعا من جهة أخرى جاء بعض الفقهاء ليأخذوا بسد الذريعة مخافة أن يتسع الفساد ومع ركود الإجتهاد وإبتعاد الناس عنه وعن الفهم الصحيح للإسلام في قضايا المرأة وغيرها .. تكافلت عوامل كثيرة فأثمرت لنا فقها محنطا روعيت فيه أسباب الزمان والمكان والحال والعرف وغير ذلك سيما بأثر من آلية سد الذريعة التي توسع فيها أهلها توسعا جنى على مباحات الدين وتشكلت مجتمعات أخرى جديدة ليس فيها من أثر التربية النبوية في بعض الحقول من شيء وساد منطق الحذر والخوف من الفتنة سيما أن السلطان تأمم بالكلية منذ العهد الأموي ولم يكن أمام المجتهد إلا أن يعمل فكره فيما هو مطحون ألف مرة من فقه العبادات والحركات وغير ذلك.
فلما جاءت الصحوة الجديدة ألفينا أنفسنا أمام وضع معقد جدا ويحتاج إلى فقه وعلم وتشاور لحسن فقهه وحسن معالجته. هو وضع يتسم بالإنحطاط الشديد فكريا وفقهيا بأثر من توسع سد الذريعة خشية الفتنة كما يتسم بضمور الإجتهاد بالكلية تقريبا إذ ورثنا فقه مجتمعات عتيقة قديمة لا علاقة لمشاكلنا بمشاكلهم ولم يوجد فينا من يجدد الفقه لمشاكلنا بل ظللنا مقلدين وهو وضع يتسم من جهة أخرى بغلبة التيار العالماني الإستهلاكي المسيطر على مقاليد الدول والنخبة والإعلام والتربية والتعليم وغير ذلك وهنا حدثت المعالجة الخاطئة المتمثلة في رفض الجديد كله بجرة قلم ما كان منه غثا أو سمينا وتقلد موقف المقاومة وكان اللجوء إلى بطون الكتب التي صيغت لتحل مشاكل غير مشاكلنا.
هنا وقع الصدام بين تيارين كلاهما مر : تيار ينادي بالعودة إلى الدين من النافذة التراثية التي أكل عليها الدهر وشرب وتيار ينادي بإستيعاب الحداثة أو أسلمتها أو معالجة المسألة من هذه النافذة وإحتدم الصراع فكريا وتطور سياسيا وحدث الإحتقان وظل الموقف الثالث الوسطي المعتدل المتوازن شبه غائب أو قل شبه مغيب لأسباب لا نلج تحليلها الآن.
ذلك هو تصويري للوضع المسؤول عن غياب البعد الترفيهي في الحياة بما هو ذوق وعاطفة وأحاسيس ولعب ولهو ومرح وغناء وطرب وترويح في الحدود المباحة وهي حدود واسعة جدا ولكن أكثر المسلمين اليوم يتأثمون من المشهد الفني بسبب أنه محتكر من الجانب العالماني وفيه الخبائث المعلومة من مثل العراء النسوي والخمر وغير ذلك. وبذلك طغت علينا آلية الأخذ بالجملة كالعادة فلا نفصل في المشهد ولا نرجح ولا نوازن وهنا حدث الحرج وطغى التدين التقليدي الأسطوري الخرافي الذي لا يرى مانعا من الشرك بالله سبحانه ولكنه يرى ألف مانع من حفل فني موسيقي لا عراء فيه ولا بذاءة فيه ولا غير ذلك من المحرمات كما طغى في العقود الأخيرة التدين السلفي المغشوش الذي ينبذ الإجتهاد ويعادي التجديد وله دوائر عربية خليجية تقوم عليه بعضها إنتقاما من الأزهر الشريف في مصر وبعضها لدوافع أخرى لا حاجة لنا الآن بها.
ذلك فهمي للوضع الديني سيما فيما يتصل بالحياة الفنية.
مشهد عجيب بين ضيف ومضيف.
1 إنهالت الدعوات له عليه السلام لإضافته فكان نصيب أبي الأيوب الأنصاري وزوجه هو الأوفر حظا إذ أوى به عليه السلام إلى بيته لنتعلم نحن اليوم عبرا عظيمة وعظات كريمة في أدب الضيافة وفن الحياء وتوقير محمد عليه السلام.
2 توقير الزعماء والقادة عندما يكونون أهلا لذلك من أقوى أسباب النصر وتشيد المجتمعات والأمم على أسس صحيحة. إذ قذف الله الرعب في قريش ذات مرة بسبب قالة لأبي سفيان وكان يومها مشركا قوامها أن أصحاب محمد عليه السلام أحرص على طاعته والوفاء له وتوقيره من أي شيء آخر. وكذلك قال بعضهم في مناسبة أخرى ( مارأيت أشد حبا من أصحاب محمد محمدا عليه السلام ).
3 وفي فن التوقير والإجلال لنا سورة مدنية إسمها سورة الحجرات وشيء آخر في آخر النور أيام حفر الخندق وكذا النهي في البقرة عن مشايعة يهود لما تلوي ألسنتها بالسلام ليسمعه السامع سلاما وتحية وهو دعاء بالسأم وهو الموت.
4 كان لأبي أيوب في بيته طابقان فما تركه ذوقه ومعه زوجه الكريمة أن يكون محمد عليه السلام في الأسفل وهما في الأعلى ولكن تخلص منهما عليه السلام بذريعة أن الطابق الأسفل أيسر للناس الذين يفدون عليه سيما أنه في الأيام الأولى من قدومه المدينة وفيهم الشيخ الكبير وفيهم المرأة العجوز وفيهم المريض فكان ذلك سببا كافيا ألجم الأدب الرفيع والذوق العالي لآل أيوب.
5 كانت أم أيوب تأخذ الطعام إليه عليه السلام وإتفق ذات مرة أنها وضعت فيه وجبة من الثوم دسمة فلما جاءت لتسلم الآنية من بعد الأكل كعادتها وجدت طعامها لم يتغير منه شيء فعادت إلى زوجها كئيبة حزينة أن يكون في صدره عليه السلام عليهما من شيء ولما إستجليا الأمر ألفيا أنه عليه السلام لا يأكل الثوم وكذا البصل لأنه يناجي أي يناجي ربه أو يأتيه جبريل بالوحي والمعنيان محتملان وما منعه سوى ذاك وشكر لهما صنيعهما وأثنى على كرم الوفادة ولين الوسادة. فنون أخرى من فنون أدب الضيافة وربما يكون شطر الضيافة حياء متبادل من المضيف والمضيّف. هل يحرم الواحد منا شيئا لأجل غيره؟ وهل نحن أنبياء؟ ذلك هو الجواب البليد.
6 وتشاء أقدار الرحمان مرة أخرى أن يحدث شيء آخر في الأيام الثلاثة التي نتعلم فيها نحن اليوم فن الضيافة. إذ غفلت أم أيوب عن بعض الماء الذي تطهر به بيتها في الدور الأعلى ليسقط منه شيء على الدور الأسفل حيث يقيم عليه السلام. عندها لم يكن لهما من بد سوى أن يعرضا عليه الصعود إلى الدور الأعلى مرة أخرى إذ لم يعد يحتملان أن يظل أكرم مخلوق يقطن دورا أسفل من دورهما. إبحث اليوم عن مثل هذا الذوق الرفيع العالي ولن تجد له ركزا. بل لعل الحمقى يعيدون ترتيب الأمر في خانة الحلال والحرام وذلك مبلغهم من الجهل والحماقة. الميزان هنا هو ميزان ذوق وليس ميزان حلية أو حرمة.
7 عندما نضيف أحدا أو يضيفنا أحد لا بد لنا اليوم من التقدم بين يدي المضيف بسيل جرار من المقترحات البليدة ( ألا تجعل المطبخ هنا ؟ كيف تكون قاعة الأكل هناك؟ ) بل ربما حشر أنفه في أمور أكثر حساسية ودقة من ذلك. ويظل الواحد منا يحملق في البيت كأنه عون سري أو مخبر ينقل أخبار الناس إلى السلطان وليس هو ضيف يحرس عينه أن تقع على ما لا يحل له أو يحشر أنفه فيما لا يعنيه. ثم ننطلق من بعد ذلك في رواية ما رأينا وسمعنا وما أعجبنا وما لم يعجبنا لتشتغل دبابات الشحناء شغلها الخبيث.
8 كان عليه السلام حتى في بيته لا يذم طعاما أبدا فإما أكله أو تركه. بل كان لفرط حيائه عليه السلام لا يحدق بعينيه في من يسلم عليه إلا مرة واحدة عند اللقاء الأول ليعلم من هو ثم يظل يطرق ببصره إلى الأرض حياء ولا غرو فهو أشد حياء من العذراء في خدرها كما أخبر المحيطون به عليهم الرضوان جميعا. كان عليه السلام إذا سلم أمسك يد صاحبه بقوة في رسالة أني أحبك وأقدرك وأحترمك وكان عليه السلام آخر من يدع يد صاحبه حتى يدعها صاحبه.
9 ربما تكون أمور صغيرة يحقرها المرء ولكنها حاسمة في صناعة الشخصية وتشييد حاسة الذوق وتزكية النفس وإطرها على خلق الحياء إطرا والحياء زينة الإسلام. بل قل لي كيف تكون ضيفا أو كيف تكون مضيفا أقول لك من أنت.
دعائم ثلاث تشيد عليها كل أمة.
1 بيت العبادة.
2 العقد الإجتماعي التكافلي.
3 الدستور السياسي العام.
ملاحظة مكررة لفرط قيمتها الدينية والدنيوية :
لو كانت دعوته عليه السلام لا تغير من شأن الدنيا شيئا ولا من شأن الناس شيئا كما فهمها المشركون أنفسهم بله المؤمنين لما إحتاج إلى هجرة جعلته يذرف دموعا حرى ثم كان مغتربا عن مهد طفولته وهو النبي البشر وهو الرسول الإنسان لعقدين كاملين. إنما فهم الناس كلهم من مشركين ومؤمنين أن الدين الجديد ليس ككل دين إلا في الجذر العقدي الذي ترسخ في الكون المفطور على الحمد والتسبيح وما عدا ذلك فالثمرة غير الثمرة. ثمرة الدين الجديد لم يعبر عنها أحسن تعبير عدا صاحب الدين نفسه عليه السلام مثل ربعي إبن عامرعندما صاح في صولجان كسرى مزمجرا يحكي قوة الفاروق الذي هاجر متحديا ( نحن قوم إبتعثنا الله لتحرير الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس ومن جور الدين إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة). تلك هي الرسالة الدعوية الجديدة التي فهمها الكبراء فحاربوا الدعوة وصاحبها وأهلها. إسمع مني كلمة تؤذيك إذ ليست زعيما سياسيا يقرب إليك ما يحبيك إبتغاء أصوات منك أو من قومك : كان المشركون في عهده سيما كبراؤهم أجلى منا نحن اليوم حسن فهم لرسالة الإسلام. هم فهموه رسالة تحريرية جامعة والمسترق المستعبد إسم فاعل يضيره ذاك إذ أضحى له ذلك إلفا يعسر هجره فيعمد إلى محاربة الداعي إلى ذلك ومن هنا كانت المعركة حامية إنتهت في مكة بالهجرة ثم إنتهت في المدينة بإنتصار الإسلام وإندياحه. الإسلام وعدنا بالتحرير عندما نأخذه كله ولكن قدر المستطاع ودون ذلك آلام وتضحيات ومقاومات أما عندما نأخذه كما أخذ الذين من قبلنا دينهم فأقبلوا على ما يعجبهم ودعوا ما لا يعجبهم .. عندها تنزل السنة : سنة الإستبدال. ليس هو إستبدال مادي بل هو إستبدال جيلي أي يستبدل جيل بجيل وقرن بقرن وربما شرق الأرض بغربها أو غربها بشرقها. ذلك هو معنى ما كتبه أحد علامات الإسلام المعاصرين ( الإسلام عقيدة وشريعة ) وهو الإمام شلتوت عليه الرحمة. نحن إرتضيناه عقيدة فحسب فلنا منه السعادة النفسية ألا ننتحر لفرط وطأة البؤس والشقاء. وعندما نرتضيه شريعة يكون حالنا حالا آخر. الإسلام أرض بالتمام والكمال : يعطيك ما أعطيته ويحجز عنك ما حجزت عنه.
لذلك هاجر عليه السلام ليوفر لهذا الدين الجديد مساحة أرض تقوم عليها دولة ثم حضارة وثقافة ورقي وتمدن وهداية للناس أجمعين وراثة للنبوة. تلك هي طبيعة الدين الجديد. لا بد له من حصن سياسي يحميه كما قال أحد علامات الإسلام الكبار ( الغزالي أبو حامد ) : الدين أس والسلطان حارس فما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. نحن لدينا اليوم أس لذلك نكون على الحق المبين عقديا ولكن أسنا لا حارس له أي لا سلطان يحميه بل أكثر سلطاننا اليوم إما يهمشه أو يقصيه أو يحاربه فهو ضائع أي ضائع أن يحقق طموحه الأعظم الذي لأجله تنزل ( تحرير الإنسان ) كما عقل ذلك الأصحاب ومنهم الفاروق الذي لم يتردد لحظة واحدة في إعلان الصحية ذاتها التي أعلنها ربعي ولكن الفاروق كان بها أسبق ( متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ). هم فقهوا أن رسالة الإسلام رسالة تحريرية فهاجروا وجاهدوا وآمنوا ومات أكثرهم خارج حدود الدولة وفقهنا نحن شيئا آخر فغلبنا الدولة على الدين وجعلناه لها خاضعا.
ولذلك بادر عليه السلام بتشييد أول ما فعل لأول مقدمه الدعائم الثلاث الأولى لمشروعه الإسلامي الكبير وهي التي لا قيام لأي وجود ودولة وحضارة إلا بها يستوي في ذلك أن يكون أهل ذلك مؤمنين أو غير مؤمنين فهي سنن مرعية ونواميس مطردة شرحها علامة الإسلام الكبير إبن خلدون.
الدعامة الأولى لأي دولة إسلامية : تهيئة مواضع للعبادة والتزكية الروحية.
لذلك بادر عليه السلام لأول مقدمه ببناء مسجد قباء بالجريد والطوب وهنا لا بد من ملاحظتين مهمتين جدا :
1 لم يكن يقصد بالمسجد يومها ولنا في العمل خير دليل ما نقصد به نحن اليوم إذ كان المسجد فضاء إجتماعيا عاما لا يلتقي فيه الناس إبتغاء العبادة فحسب بل كان بمثابة مجلس للشورى العامة كما وقع في أحد مثلا وللشورى الخاصة السرية الضيقة مجالسها الأخرى بطبيعة الحال. فالمسجد إذن كان بمثابة الدار الإسلامية العامة التي تحتضن المناشط الإجتماعية والسياسية والثقافية والفنية ( كان مسجده عليه السلام محضنا سنويا قارا لحفل فني ينظمه الأحابش وفق طريقتهم في الإحتفاء وكانت تحرص الأم العظيمة عائشة على حضوره وكان يصحبها إليه بناء على طلبها فلا يقفل منه حتى تمل هي الفرجة والسماع ولم يكن له هو في ذلك أي أرب ). كانت طبيعة الدولة الناشئة الفقيرة يومها وصغيرة العدد ولعوامل أخرى تقتضي جعل المسجد كذلك فلما تطورت الحياة وتوسعت في الآفاق وفي الأرض إستقل المسجد بالنشاط التعبدي الموسع قليلا وأنشئت مؤسسات أخرى لمناشط أخرى.
ما رأيك في ما تسمعه اليوم من مطالبات الفصل بين منشط دعوي وآخر سياسي أو بين تخصص المسجد للضرورة الروحية حتى لكأنه كنيسة مسيحية أو دير يهودي وتخصص مؤسسات أخرى للتعبئة السياسية والفكرية والفنية؟ ما رأيك في دعاوى تحييد المسجد وتحريم التعبئة السياسية فيه؟ هم يميزون أكثر مني ومنك بين التحزب والتسيس ولكنهم يريدون النفاذ وقد نفذوا إلى قطع ما يجب أن يوصل لينضب نهرك فتنثني عن المسير ثم يخور عزمك فلا خرير فيك ولا هدير.
أليست هي الردة عن وظيفة المسجد؟ إسمعها مني مرة أخرى مؤذية وقحة : إستهدفت أمتنا إلا قليلا لخطة تكنيس المسجد أو تمسيح العبادة تمهيدا للضربة العالمانية القاضية.
2 ليس المقصود من التزكية الروحية نفسها ولا ذاتها بل التزكية الروحية التي هي مقصد الإسلام الأعظم الثاني من بعد التوحيد الإلهي الخالص مقصودة لأجل العمران. ذلك هو الثلاثي المقاصدي الأعظم يفضي ثلثه الأول إلى ثلثه الثاني ويصنع ثلثه الثاني ثلثه الثالث. ثلثه الأول إسمه التوحيد الإلهي الخالص قدر الإمكان دون ولوغ كلامي عتيق لا حاجة لنا به الآن ولا هو يرفع تحدياتنا العقدية المعروفة. ذلك التوحيد الإلهي الخالص لا بد له من عمل فعلي يزكيه وينميه ويجدده ولذلك جاءت العبادات وغيرها من المنظومة الأخلاقية العامة وكانت التزكية هي الراجعة على التوحيد بالتنمية والترسيخ من جهة وهي التي تصنع العمارة إذ العمارة بروح خاوية أو بنفس خبيثة تبغي الأثرة لا الإيثار هي خراب مخرب. ذلك هو مدرج الإسلام : توحيد إلهي خالص يترجم في عبادة مهمتها التزكية الروحية وتزكية روحية قصدها العمارة وإقامة العدل والحق والقسط بين الناس.
لذلك جاءت المساجد دور عبادة مخصصة لقيمة العبادة في التزكية الروحية وقيمة التزكية الروحية في العمارة. ما هو حالنا اليوم؟ التزكية الروحية حركات رياضية والقلب مشغول بالدنيا ثم تزكية روحية كنسية مسيحية تقصر الأمر علينا نحن كمن ملأ سيارته بالوقود الكافي الصافي ثم تركها ساكنة لا تتحرك. أليس يلحقها الصدأ؟ لم يملؤها إذن؟ أليس ليسافر بها ويقضي عليها حاجاته؟ نحن نزعم الإمتلاء الروحي ثم نرقد وننام. لو كانت فعلا تزكية روحية صحيحة فإن ذلك يسمى تخمة وإن كانت تزكية روحية مخدرة وهو الأصح نسبيا إلا قليلا فهي أغذية لا تقدم ولا تؤخر بل تؤخر قطعا.
الإمام في المسجد يأمرك بالصدق والسياسي في الساحة يمارس الكذب. ونظل في حلقة مفرغة نأتم بهذا وبهذا ولا حرج ولا تثريب علينا. ثم نصيح ثائرين : كيف تخلفنا؟ نريد أموالنا؟ كلام فارغ. الحياة مبناها السبب والسنة.
لذينك الأمرين إذن ( قيام المسجد بالشأن العام من جهة كما مر بنا وتخصصه للتزكية الروحية ومنها الشعور بالإنتماء لأمة من جهة أخرى ) كانت دار العبادة أي المسجد أول دعامة من دعائم بناء الدولة الإسلامية. ما هو دور خطبة الجمعة مثلا؟ ولم نجتمع لنصلي الظهر من يوم الجمعة صلاة جماعة وجوبا أصلا؟ وما هي خطبه عليه السلام في الجمعة أصلا؟ ولم تجد في السنة والسيرة كلمات كثيرة عنوانها ( الصلاة جامعة ) وما هي بصلاة أصلا؟ يؤذن في الناس الصلاة جامعة فيلبون فلا يحدثون حديثا دينيا أبدا بل يحدثون في قضايا سياسية ومالية وأمنية وإجتماعية وغير ذلك.
ترى من المبتدع : نحن أم هو؟ لا بد من وجود مبتدع هنا لذي لب حصيف.


الدعامة الثانية للدولة الإسلامية : عقد التآخي المبرم عمليا بترتيب حكومي.
ما إن فرع من بناء المسجد الذي لم يشيده عليه السلام لريبته ألا يصلي الأصحاب في ذلك اليوم نفسه ( يوم مقدمه وقد سبقوه إليه ) صلاة جماعة أو جماعات على الأقل كل حسب رحله ومنزله ولكن شيده لجمعهم في مصلى واحد لتعليمهم وتعليمنا أن الجماعة في الإسلام هي أول فريضة وأكبر فريضة وأعظم فريضة مثلها مثل فريضة ( إقرأ ) فهي فرائض مفتاحية لا يحسن واليها إلا بحسنها هي. أجل الجماعة في الإسلام فريضة مقدمة ولو كان ذلك غير كذلك لما جمعهم عليه السلام سرا في ظروف حرجة في مواعيد سرية قارة منتظمة ليفرغهم ويملأهم لا يتخلف عن ذلك لا عبد مأسور ولا أمة مسترقة إلا ما كان فعلا وحقا خارج حدود التكليف البشري. تلك هي الفريضة التي بدأ بها عهده المكي سرا وعلنا إستأنفها في عهده المدني إذ جمعهم في مسجد واحد كما جمعهم من قبل في دار واحدة هي دار الأرقم عليه الرضوان. ..
ما إن فرغ إذن عليه السلام من بناء المسجد حتى نظم الدعامة الثانية ولي فيها كذلك ملاحظات مهمة :
1 لم يفعل هو عليه السلام كما نفعل نحن اليوم أي خطبا عصماء تحرض على التآخي ثم ينتهي الأمر إلى " الإحسان " فمن أحسن إئتمر ومن لم يحسن لا حرج عليه. لا. بل لم يخطبهم أصلا إنما رتب الأمر دعامة التآخي التكافلي العملي الحقيقي لا الشعوري ترتيبا حكوميا لأنه هو رئيس الدولة الجديدة بمقتضى الدستور الكتابي فقال : يا فلانا من الأنصار هذا أخوك فلان من المهاجرين. يأخذه معه إلى بيته فيقتسمان ما هناك بالسوية الساوية كأنهما شريكان شحيحان. وهكذا لم يبق مهاجر واحد إلا وله مال وبيت وربما زوجة أيضا. هو ترتيب حكومي وليس دعوة إلى الإحسان أي دعوة إلى إجابة المتسولين. هؤلاء ليسوا متسولين بل هم بناة الدولة الجديدة الذين جعلهم الله سبحانه أول طبقة من طبقات الإسلام كما نعرض لذلك في إبانه بحوله سبحانه.
2 عقد المؤاخاة لم يكن عقدا شعوريا فحسب بل كان عقدا تكافليا ليقترب الناس من المساواة وليست المساواة مطلوبة في الإسلام في هذا المستوى ولكن المطلوب العدل والقسط قدر الإمكان وأول أسباب العدل بين الناس إجتماعيا هو المساواة بينهم في فرص الكسب والعيش ثم في فرص التعاوض والتبادل والإتجار والإستثمار. فمن فتح ذاك فتح للعدل بابا ومن أوصد ذاك أوصد للقسط ألفي باب.
فعل ذلك عليه السلام لمقصد أوحد كبير عنوانه : أغلى ما في الإسلام صفه الواحد المتكافل على فروقاته المالية والمادية ولتحقيق أغلى ما في الإسلام لا بد من إجتراح السبب الموصل إلى ذلك وهو سبب المؤاخاة والحب ولذلك حطمت الطبقة الأولى الموسعة ( مهاجرين وأنصار) الرقم القياسي الممنوع في دنيا الناس إذ طلق الأنصاري إحدى زوجتيه لينكحها المهاجر وهي روايات لا تروى اليوم وأنا مع عدم روايتها أن يتهم الإسلام والمسلمون الأوائل بالمثالية الحالمة الطائرة التي لا خلاق لها في الأرض وهي فعلا لا خلاق لها في الأرض سوى أن ذلك الجيل هو الجيل القرآني الفريد بتعبير الشهيد سيد قطب عليه الرحمة. يكفينا أننا علمنا ذلك وآمنا به وصدقناه وصدقنا عظمة الإيمان به ولكن ليس مطلوبا منا ذلك ولا مطلوب منا الدعوة إليه. نحن اليوم ندعو إلى أمر واحد هو كف الأذى. تصدق على نفسك بكف الأذى فحسب. الآن يكفينا ذلك وتلك هي فريضة جيلنا وللجيل اللاحق أن يراكم على ما فعلنا إن وجد فيه خيرا.
الدعامة الثالثة للدولة الإسلامية : دستور سياسي مكتوب موثق وإئتلافي
ذلك هو العمل الثالث الذي قام به عليه السلام فور قدومه إلى المدينة مهاجرا. إذ جمع القبائل الإسرائيلية سيما الكبرى منها مثل ( بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع ) ومعهم المسلمون من مهاجرين وأنصار ( أوس وخزرج ) أو رؤساءها الذين ينطقون بإسمها وطرح عليهم رأيه أن يكونوا جميعا مؤتلفين ضد أي هجوم خارجي ضد المدينة وأهلها على أن يكون لكل واحد منهم ما رضي لنفسه من عقيدة وعبادة يصرفها داخليا كما شاء. فلما حصل الوفاق منهم جميعا خط ذلك بواسطة كاتب على وثيقة مكتوبة ( يرجع إليها لمن أراد في كتب السيرة من مثل إبن إسحاق وإبن هشام ) فكانت تلك هي أول دستور سياسي مكتوب وموثق في تاريخ البشرية. الوثيقة طويلة نسبيا ومفصلة سيما فيما يتعلق بواجبات وحقوق الفصائل المؤتلفة إئتلافا سياسيا إذ لا يجمع بينها سوى المواطنة السياسية فهي مختلفة الإعتقاد والعبادة.
فما هي دلالة هذا العمل النبوي العظيم؟ لم لم يترك الأمر يسير دون ضبط دستوري؟ لم جمع اليهود على الصحيفة؟ تلك هي الأسئلة الكبرى التي يعالج بها من يطلب الحق وينشد الخير في قضية الهجرة. صحيح أن ذلك أهمل من لدن كثيرين ممن ظل ينقل المرويات المنخولة سندا والتي تقصر دلالاتها القيمية سيما المعاصرة منها على جزئيات وتفصيلات ليست هي من أم الكتاب ولا من محكماته. ولكن الإسلام بكتابه وسنة نبيه وسيرته هو الحجة علينا ولسنا نحن حجة عليه كائنا من كنا.
دعني أصدمك مرة أخرى لأقول لك أن محمدا عليه السلام هو أو من وضع دستورا سياسيا موثقا مكتوبا إئتلافيا أي جامعا بين مكونات عقدية مختلفة لتكوين مشهد سياسي يحفظ للناس هناك مصالحهم وهو دستور إئتلافي جامع يضمن حق الناس كلهم بأغلبياتهم وبأقلياتهم في الحياة وفق معتقداتهم على إختلافاتها الدينية الكبيرة في مشهد محلي ويقومون جميعا بحراسة الدولة الناشئة الجديدة وذلك هو معنى الدستور الفدرالي أو الكنفدرالي الذي إجترحه ربان السياسة المدنية في أروبا وأمريكا ممن يعيشون على نبض دساتير كنفدرالية ( سويسرا ) أو دساتير فدرالية ( أمريكا وألمانيا ).
معلوم أن أكبر وظائف النظام الكنفدرالي أو الفدرالي بينهما فروق ولكن ينتميان إلى العائلة السياسية ذاتها هي إتاحة أكبر فرصة للناس ( سواء بسبب التعدد الدياني أو العرقي أو اللساني أو غيره أو بسبب الكثرة العددية والكثافة السكانية أو بسببهما معا ) لأجل الحياة وفق معتقداتهم حتى لو كانت لا تتفق مع معتقدات أخرى هناك على الأرض نفسها كما يخدم ذلك النظام مقصدا آخر حاول الدستور التونسي الجديد أي دستور الثورة كما يسمى مقاربة المسألة ولكن ظل حبرا على ورق وهو مقصد البناء المحلي لمختلف مكونات الوطن أي تفعيل الإرادة المحلية التي تقوم بإنتخاب من يخدمها لأنها هي أعرف بهم وهو نظام يحرر النظام المركزي من أعباء تنموية كثيرة ليتفرغ هذا للسياسات الخارجية والدفاعية والمالية العظمى وغير ذلك.
كل تلك القيم والمعاني كان يتضمنها دستور المدينة الأعظم ولكن مع إنهياره في أول إمتحان على أيدي الأمويين الذين إنقلبوا على الإرث الإسلامي في عماده الأكبر أي الشورى بدل الوراثة إنهار كل شيء وأضحينا نقرأ ذلك في الكتب وواقعنا المعيش قطعة أخرى من الوراثية أو الإنقلابية أو الجمهوريات المنافقة التي تنظم الإنتخابات لتأبيد الحكام وليس لإدارة الأمر أن يكون دولة بين عائلات أو أحزاب أو مصالح أو فئات.
فخر وأي فخر للإسلام ونبيه أن يكون ذلك الدستور من إنتاجه. ولكنه فخر مجهول من أكثر أبنائه وأي فخر لك عندما تعلم أن العقل البشري المعاصر في أوج التقدم العلمي والإداري يهدى إلى نظام دستوري سياسي إئتلافي هو نفسه دستور محمد عليه السلام.
تلك هي نكبتنا عندما تكون مضاعفة إذ يلتقط خصومنا بل أعداؤنا مقاصد ديننا سيما مقاصده الحياتية العظمى المتعلقة بإدارة الدنيا فيصلحون أمرهم على تعدده البائن وننبذ نحن ذلك إما بدعوى عالمانية لقيظة قوامها أن الإسلام قضى نحبه وإنقضى أجله أو بدعوى سلفية مغشوشة مدسوسة قوامها الجهل بالإسلام من حيث هو سيرة نبوية لنا بل علينا أن نستهدي بها ونستنير.
تلك هي إذن أكبر أعمال الهجرة أو ما بعد الهجرة أي الدعائم الثلاث التي بنى عليها عليه السلام المجتمع الجديد وهو مجتمع تعددي فكان لا بد له من دستوري تعددي إئتلافي. ولا بد له من فيئة راسخة إلى العقيدة والعبادة التي يزيدها المسجد توهجا وتوقدا ولا بد لها من عقد تكافلي مبناه الأخوة والحب والإيثار فكان عقد المؤاخاة.
لك أن تقول بإطمئنان كبير أن الدولة الإسلامية تقوم على عقد إجتماعي تكافلي روحه التآخي والحب فكان عقد المؤاخاة وعلى عقد سياسي جامع يضمن الحرية العقدية والدينية لكل طائفة حتى لو كانت يهودية إسرائيلية فكان دستور المدينة وعلى عقد بين الجماعة وبين نفسها أن تعبد الله وحده سبحانه وتزكي ذلك بالعبادة فكان المسجد ذي النشاطات المتنوعة في تلك الأيام ناهيك أنه يكون مسرحا للفن الذي نعده نحن اليوم رجسا من عمل الشيطان حتى لو كان في ساحة عامة فكيف إذا زاولناه في المسجد.
أكتب الآن هذا وشرايين فؤادي تقول لي : شتان بين فقههم وبين فقهنا. شتان بين من يضيف في مسجده أحابيش يلعبون ويمرحون وهو يتفرج مع الأم الكريمة عائشة حتى تمل ثم يضيف فيه من بعد ذلك عام الوفود ممثلي قبيلة نصرانية وأخرى مشركة ليقوموا فيه هو نفسه بطقوسهم الدينية .. شتان من كان المسجد عنده هو ذاك وشتان بين من ينادي بتحييده ليكون كنيسة مسيحية نسمع فيها الكتاب المقدس يتلى من في شيخ ثم نمسح على أذقاننا لنخرج إلى زعيم سياسي دجال يبيع لن الكذب فنصفق له ونصوت .. وتمضي الحياة بنا وفينا لا حرج لنا فيها ولا تثريب علينا فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.