بالنسبة إلى المتابع من الخارج ليس هناك ما يدلّ على انّ حزب حركة النهضة يشهد نقلة حقيقيّة في وعيه السّياسي و هيكلته التنظيميّة و رؤيته الفكريّة و خاصّة تصوره لمنوال التنمية … على العكس من ذلك هناك أجوبة مبتسرة مشتّتة من منظوري هذه الحركة لا تستجيب لانتظارات التونسيين … هذا هو الانطباع الحاصل لدى فئات واسعة من التونسيين لا تزال تنظر بريبة و شكّ لهذا الحزب الحركة و تعيب عليه الازدواجيّة و الشموليّة و توظيف الدّين في السياسة و التصوّر الليبيرالي للاقتصاد … اليوم كنت في زيارة لجبل جلود الحيّ الشعبي الذي نشأت فيه و ترعرعت فاستدعاني صديق نهضويّ لحضور الجلسة الافتتاحيّة لمؤتمر مكتبهم المحلّي … تردّدت بادئ الأمر … لكنّ فضول المثقّف و حبّ الاطّلاع أغراني بالحضور خاصّة و أنّ هناك ضيوف آخرون من خارج النهضة … أُذِن لي بمواكبة عرض مشروع اللائحة العامّة للمؤتمر العاشر الذي دام أكثر من ساعتين … بعد العرض غادرت لأنّ النقاش من الأشغال الدّاخليّة للمؤتمر و في داخلي أسئلة كبرى اهمّها : ما الذي يحدث داخل حركة النهضة ؟ هل نحن أمام منعطف تاريخي حقيقي و نقلة نوعية متقدّمة ؟ كيف تكتّم هذا الحزب طول هذه الأشهر على نقاشات بهذا العمق و الخطورة ؟ كيف أفرز مشاريع لوائح بهذه القدرة النظريّة على الحسم في قضايا شائكة طالما أرّقت الحركات السياسيّة ذات المرجعيّة الاسلاميّة ؟ لا أدري إن كان يجوز لي أن أُخرج إلى العلن ما استمعت اليه من أفكار و رؤى و تصورات و توصيات و قرارات عمليّة لم يقع إقرارها بعد بشكل نهائيّ في المؤتمر القادم للحزب … مسائل لامست الهيكلة و الرؤية الفكرية و السياسية فضلا عن سقف المعلن عنه من نقد ذاتي و اعتراف بالثغرات و الأخطاء و القصور منذ التّأسيس إلى اليوم بالإضافة الى الرّؤية الاستراتيجيّة … و يمكن إجمال التحوّلات في النقاط التّالية : هويّة الحزب حيث وقع الاعلان بشكل نهائيّ عن الطابع السياسي الإصلاحي المدني الديمقراطي السلمي للحزب و الحسم مع طابعه الشمولي و إقرار فكّ الارتباط بشكل صريح بينه و بين العمل الدّعوي الموكول للمجتمع المدني و للجمعيات و الهيئات التي تشرف عليها المصالح المعنية في الدّولة و المستقلّة إداريّا و ماليّا و تنظيميّا ومن ناحية الإطار المسيّر عن الحزب المرجعيّة الفكريّة للحزب حيث وقع الإعلان بشكل صريح عن إلغاء ما يسمّى بالرؤية الفكرية و المنهج الأصولي التي اقرّها مؤتمر 1986 و الاستعاضة عنها برؤية تجعل من الاسلام المقاصدي المقاربة الوسطيّة و الحركة الاصلاحيّة التونسية و مكاسب الحداثة و نصّ الدستور مرجعيّة عليا تقوم عليها الرؤية السياسية للحركة في كلّ المجالات من ذلك : الإعلان عن مهمّة حماية الدّولة و الحفاظ عليها من التفكّك و إصلاحها و المصالحة بينها و بين المجتمع / تبنّي نمط اقتصاد السّوق الاجتماعي و الدّعوة لصياغة منوال وطني للتنمية تشارك فيه الاحزاب و المنظمات الوطنيّة و الخبراء / إقرار المساواة الكاملة بين النساء و الرّجال … نقاط عديدة مثيرة للانتباه لم أتمكّمن من تسجيلها لطول العرض و لكن أحيانا يشرد ذهنك عن الإطار و تتذكّر أنّ هذه الأفكار طالما كانت محلّ رفض و مقاومة من طرف هذا التيّار السياسي ، ربّما التطوّر القسري الارتجالي للافكار و التصوّرات لا ينفع في تطوير الحركات السياسيّة و الاجتماعيّة و يخلق الازدواج و التناقض ، حيث يحتاج التطوير الى شروط موضوعيّة أقلّها الحوار و النقد الذّاتي و شجاعة الاعتراف بالقصور و الاخطاء و إرادة التغيير إلى أيّ مدى مكن اعتبار ما يحدث صلب حركة النّهضة على مستوى الوعي و التصورات و الاجراءات العملية و المقرّرات ثورة سياسية قياسا لما عليه حركات إسلاميّة أخرى و ولادة جديدة و تأسيسا ثانيّا ؟ الايّام القادمة كفيلة بالجواب يبقى التحدي الأكبر هو تعميم هذا الوعي على عموم قواعد هذه الحركة و ترجمته عمليا في الواقع