يتوقف النّاس عند الثورة التونسيّة يصفونها بالياسمين في إشارة إلى اتّسامها بالسلميّة دون غيرها ممّا تبعها من الثورات في العالم العربي الذي جاس خلاله الصهاينة والشيعة، فجعلوا منه موردا تُشرَب فيه دماء أهل السنّة دفّاقة رخيصة تحت أنظار العالم "الحرّ" البغيض اللاإنساني... أو أنّهم ينسبونها للياسمين إشارة إلى غرام أهل القطر بالياسمين، أو تعريضا على عدم صلابتهم، أو تنسية وإنساء للمطالب التي قامت من أجلها الثورة، وهي أساسا الحريّة والكرامة ووضع حدّ للفساد والضرب خاصّة على أيادي المفسدين الذين أرهقوا البلاد واستعبدوا العباد وأذلّوهم، وقد يأتي أمثلهم طريقة فينفي قيام الثورة من الأساس ويسمّي ما حدث انتفاضة كتلك التي حدثت أيّام بورقيبة نهاية سنة 1983 بداية سنة 1984 م، ثمّ لا يجد الحرج في التأسّف على أيّام تونس الخوالي حتّى يكون كلامُ "النّاس" وأمنياتُهم: "إنشالّا ترجع تونس كيما كانت قْبَلْ"!!!... ولئن حرص الثوّار على تحقيق مطالبهم، فقد حرص الثورويون على منع الثوّار تلكم المطالب، فعملوا جاهدين على إفناء كلّ ملحقات الثورة... كانت الوسائل هي نفسها: الحريّة وحقوق الإنسان والبلد... يستعملها الثوري لمنع تكميم الأفواه وعدم استعباد النّاس وخدمة البلد اقتصادا وثقافة واعتزازا بالهويّة، ويستعملها الثورجي تجاوزا لكلّ الحدود ولا سيّما منها الأخلاقيّة، وصيانة للتافهين الخارجين عن السمت... يحرسهم بحقوق الإنسان عراة معربدين، زناة مكثّرين للقطاء والأمهات العازبات، نتوءات من التاريخ ضمن الأقليّات التي تحفظها الديمقراطيّة، شيعة نتنة تعوّدت العيش ثملة من دماء المسلمين، "مبدعين" غسّالي أيادي المستعمر القديم مكرميه بما يهيّؤون له من لحم حرام يدّعون أنّ البلاد لا تتقدّم إلّا به، "مقاومين" لإرهاب تمنّوه لزعزة الاستقرار وجعل البلاد تابعة لا تثبت إلّا إذا أسلمت النّفس للقواعد المانعة وطائرات الاستطلاع الحائمة والمال الإمراتيّ النّجس، "تونسيين" يبغّضون للنّاس دينهم بما يبرزوا لهم بدينهم من "أنصار شريعة" و"دواعش" "ومجاهدات نكاح"!... ولئن حرص بعض السّاسة على الوفاق، فإنّهم قد فقدوا معه الاتّفاق على أهمّ مقوّمات الوفاق!... فقد كان ينبغي أن يكون الوفاق حريصا على مصلحة الشعب من حيث مراعاة راحته النّفسية بحفظ دينه وعرضه، ومن حيث مراعاة كرامته بحفظ حرّيته وسيادته، ومن حيث مراعاة استقلاله بالعمل على استقلاله الاقتصادي وفرض لونه في المحافل بعيدا عن التبعيّة المردية... إنّه ليس مستساغا أن يكون الوفاق عامل إفناء لكلّ الفوارق المحرّضة على التنافس، أو أن يكون الوفاق عامل إشاعة للمفاسد كأن يتّفق أبناء بلد مسلم على استيراد ما يسمّونه "المشروبات النّبيلة" من الخمور باهضة الثمن، في وقت لا يجد بعض التونسيين ما يسدّون به رمقهم، وفي الوقت الذي ترزح فيه البلاد تحت ثقل الديون الخارجيّة التي أرهقت أحفاد أحفادنا، أو أن يكون الوفاق متناولا أو مشكّكا في ضرورة حفظ الكلّيات التي جاءت الشريعة حافظة لها!... فكان لا بدّ أن يمكّن الوفاق من حفظ الدّين، والدّين لا يُحفظ إلّا بالحريّة. فلا يمكن أن يكون مصير المتلقّي بأيادي وزارة شؤون دينيّة بيّنت الأيّام أنّ شؤونها لم تخرج تاريخيّا عن محاصرة المتديّنين وإيذائهم والإساءة إليهم والتلبيس عليهم. لا يمكن أن يُعزل بالوفاق إمام ما في مسجد ما إرضاء لمجموعة معربدة ما في خمّارة ما!... وكان لا بدّ أن يمكّن الوفاق من حفظ النّفس، فإنّ المجهودات المبذولة إلى حدّ الآن - والتي نحمد الله عليها ونستحثّ القائمين على شؤوننا لمضاعفتها - غير كافية لجعل التونسي عزيزا مكرّما لا يخشى إلّا الله تعالى، بدل أن يظلّ متحسّبا لمداهمة ما أو صفعة ما من رجل أمن ما وسباب ما من فاقد أدب وضيع ما!... وكان لا بدّ أن يضمن الوفاق حفظ العقل، وحفظه يكون بالتنافس والسياحة فيما ينمّيه علميّا ومعرفيّا وثقافيّا. فلا تقف وزارة الثقافة مشجّعة للرّداءة كما يبيّن ذلك قائمة الأفلام الساقطة التي أنتجها "المبدعون"، مانعة للفعل الحسن الذي يقترفه الرّساليون كما فعلت مع فلم صراع الذي عرض أخيرا على قناة "حنّبعل"، كما يكون حفظه بمنع ما يغيّبه عن الوجود كالخمر وجميع أنواع المسكرات!... وكان لا بدّ أن يضمن الوفاق حفظ النّسب وحفظ العِرض، بدل أن نكثر كما هو حالنا قبل الثورة وبعدها من جحافل الأمّهات العازبات ونستر عليهنّ بالبكارات الاصطناعيّة، وبدل أن يراقص أصحاب المحارم محارمهم ويقترفون معهم ما قد حرّم بين المحارم ومحارمهم فينتج عن ذلك جيشٌ من أبناء الحرام المختلطة أنسابهم ممّن لن يحرصوا مستقبلا على الذود عن أنسابهم!... وكان لا بدّ من حفظ المال وصيانته والنأي به عن الحرام، فلا نسرقه بالصولة أو بعدم الإخلاص في العمل أو بالتواكل على الدولة أو بحماية الفاسدين ومساعدتهم على الهروب من العدالة تشجيعا لهم على الإفساد!... كان على الساسة أن يراعوا بالوفاق ما ذكرت أو أكثر ممّا ذكرت، لو أخلصوا عملهم ووفاقهم وثبتوا على المبادئ الخيّرة فيهم... وأمّا أن يكون "الوفاق" مجرّد ملجإ يُلجأ إليه للحفاظ على الوجود، فهو حرص على وجود على حساب عدم وجود لا يتمنّاه أيّ مؤمن قد فَقِهَ المعنى من الوجود!... تلك بعض الخواطر حول حالنا في بلدنا العزيزة تونس، التي أراد الله تعالى لأهلها هذه الأيّام، أن يتحرّكوا مذكّرين السّاسة بواجباتهم الغائبة على المستوى الميداني... تلك الواجبات التي لا بدّ أن تكون مشتركة بين الحاكم والمحكوم... فلا ينبغي أن يكتفي المواطن بالمطالبة بالعمل، ولكن عليه أن ينبّه إلى الأماكن والميادين التي يمكن فيها بجهته العمل... علينا جميعا أن نُشعِر الحاكم بأنّه ليس وصيّا علينا بل هو مسؤول عنّا بموجب تكليفنا له، ولن يشعر الحاكم بذلك إلّا إذا رآنا حقّا منتجين متعاونين مبتكِرين، وأمّا أن نظلّ مطالبين دون قدرة على الخلق والإبداع فهو ما يرهق الحاكم ويرقنا... علينا نحن الشعب أن نفرض توجّهاتنا الفاعلة باتّجاه الكرامة حتّى يعاملنا الحاكم بكرامة رآنا أهلا لها... علينا جميعا حكّاما ومحكومين أن نتنافس من أجل الخير بما نوفّر لبلدنا من خير، وإنّ ذلك لفارض علينا لا محالة محاصرة أهل الشرّ وأهل البدعة والوضاعة و"الإبداع" المسيء للقيمة!... علينا أن نكون في المحصّلة مؤمنين يخافون الله وينبذون الإساءة ويفرّون من الحرام، ويعيشون بالوفاق الخادم المصلحة العامّة والمبادئ السامية في وئام!... والله من وراء القصد...
عبدالحميد العدّاسي، الدّنمارك يوم 24 جانفي / يناير 2016