مثلت انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014 منعرجا تاريخيا في تونس، بما أفرزته من نتائج فرضت إعادة تشكيل المشهد السياسي بمعطيات جديدة مختلفة تماما عن سابقتها في أكتوبر/تشرين الأول 2011. فحركة النهضة التي أتت ثانية في هذه الانتخابات بعد حركة نداء تونس بزعامة الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي وجدت نفسها أمام سيل من الأسئلة جزء منها يتعلق بأسباب تراجعها في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014 و الجزء الأكثر أهمية يتعلق بحاضر الحركة و خاصة بمستقبلها. وعلى الرغم من نجاح النهضة في صناعة توافقات مهمة أفرزت أهم مكسب وطني في التاريخ الحديث لتونس متمثلا في "دستور يناير/كانون الثاني2014" و الوصول بالبلاد إلى ثاني انتخابات حرة بعد الحوار الوطني، لم تنجح الحركة في إقناع الناخب التونسي بالتجديد لها أولا في الانتخابات التشريعية الاخيرة. أول سؤال تبادر لأذهان قيادة النهضة ومؤيديها: هل كانت حصيلة حكم الترويكا سلبية بعدما اعتقد النهضويون أنهم نجحوا في قيادة المرحلة؟! لم يكن هذا السؤال إلا فاتحة لأسئلة أكبر وأكثر تعقيدا جعلت الحركة في مفترق طرق بين خيارات صعبة. أولى هذه المفترقات وأخطرها: هل تواصل النهضة الرهان على عمقها الشعبي المحافظ، أم تستجيب لطلبات النخبة المتكررة والمحرجة بضرورة التطور ومراجعة خيارها الأصلي في انتمائها لما عرف بالإسلام السياسي؟ سؤال يتناول في العمق هوية الحركة وحجم المكون الإسلامي فيها وعلاقتها بالتيار الإسلامي في المنطقة وموقفها من بعض القضايا وعلى رأسها الأزمة المصرية إبان الانقلاب العسكري الأخير. من وجه آخر هل تحافظ الحركة على التزامها بقضايا الطبقة الشعبية المحافظة وفئات الشباب الثوري أم تقدم تنازلات لصالح النخبة وجزء آخر من الفئات الشعبية التي تحمل ملاحظات عديدة على سلوك النهضة وخياراتها. أم هناك خيار بين هذين وإن بدا صعبا؟ مفترق آخر في استتباع لسؤال هوية الحركة ويتعلق بموقعها ضمن المنتظم السياسي. إذ كانت الحركة تقريبا في كل تاريخها تجد نفسها أقرب لما بات يسمى اليوم بالعائلة الاجتماعية الديمقراطية ولم يكن دعم اسم المستيري مثلا خلال الحوار الوطني كمرشح لخلافة العريض إلا عنوانا من عناوين ذلك، ولكن الحركة اختارت إبان تشكيل حكومة الصيد أن تكون ضمن الائتلاف الحاكم الذي يجمعها مع نداء تونس أحد أبرز مكونات الساحة الدستورية - رغم احتوائه على مكونات أخرى يسارية و نقابية كحزب- في خطوة لم تكن متوقعة عند أغلب المراقبين. وهذا الخيار ليس مجرد خيار سياسي يتعلق بتحقيق الاستقرار في الحالة السياسية التونسية يجمع أهم قطبين فيها وإنما هو خيار استراتيجي كما عبر عن ذلك زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي في مؤتمر النداء الأخير بسوسة والذي حضره رئيس الدولة وحظي فيه الغنوشي بترحيب كبير من طرف المؤتمرين. السؤال هنا: هل ينجح هذا الخيار في ظل الأزمة المتواصلة لنداء تونس؟ والأكثر أهمية من ذلك: هل ينجح في ظل تشتت العائلة الدستورية الموزعة على أكثر من حزب التي لم تجد بعد أرضية مشتركة بين مختلف زعاماتها؟ قد يكون من مصلحة تونس كما حركة النهضة أن تدفع إلى دعم الائتلاف الحاكم بالعائلة الاجتماعية الديمقراطية لمزيد تعزيز الاستقرار السياسي ولم لا؟ لتحقيق توافق وطني واسع يضم أبرز مكونات الساحة السياسية التونسية خاصة مع الدور التعديلي الإيجابي الذي تلعبه الكتلة الديمقراطية الاجتماعية في مجلس نواب الشعب طيلة الفترة الماضية. يبرز هنا تحد اخر ضمن التركيبة السياسية يتعلق بالموقف من اليسار خاصة منه المتوتر جدا تجاه النهضة ومن مشاركتها النداء في الائتلاف الحاكم والذي اعتبرته الجبهة الشعبية خيانة لائتلاف الإنقاذ الوطني الذي تشكل أبان الأزمة السياسية في صيف 2013. إذ تعبر الجبهة الشعبية باستمرار عن أنها لا ترى مكانا للنهضة في الساحة السياسية وتتهمها على لسان قيادتها بتهم متكررة. التحدي هنا هل تنجح الحركة في ترويض هذا اليسار أو في الحد الأدنى التخفيض من حدة التوتر بينها وبينه ويبدو أن البوابة الأكثر أهمية في هذا الصدد هي منظمة الشغيلة أين تتمترس قوى اليسار الراديكالي في جملة من النقابات التي تستخدمها في الغالب كقوة ضغط على التوازنات السياسية في البلاد. هنا تأتي أهمية التفاهمات التي يمكن أن تعقد مع قيادة اتحاد الشغل في خصوص القضية الاجتماعية و خاصة دوره السياسي في مقابل عقلنة خطاب و سلوك الجبهة الشعبية. و يكتسي المؤتمر القادم المرتقب للاتحاد أهمية قصوى باعتباره محددا رئيسيا في علاقته بالتوازنات داخل المنظمة العتيدة خاصة في ظل الرهانات الكثيرة لمختلف الأطراف على هذا المؤتمر. ان حركة النهضة اليوم و هي تستقبل مؤتمرها العاشر الذي أقر ايام 20 و 21 و 22 من مايو توجد أمام خيارات صعبة وإن بدا أنها حسمت في كثير منها. ويأتي مؤتمر النهضة في ظل أوضاع اجتماعية صعبة تعيشها البلاد و تعثر المفاوضات في جملة من الملفات مع اتحاد الشغل وإرباك بسيط مس استقرار الائتلاف الحاكم إثر موقف حزب افاق تونس أحد أضلع الائتلاف الذي طرحت رئيسة كتلته البرلمانية فكرة تشكيل ائتلاف جديد يستثني النهضة بالإضافة إلى تصويتهم ككتلة ضد مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة في خصوص البنك المركزي بما جعل مروره مهددا وما كان يمكن أن يسببه ذلك من احراج للدولة التونسية أمام الجهات الدولية المانحة. يأتي مؤتمر النهضة في هذا السياق الذي يطلب فيه من الحركة أن تنجح في الإجابة على جملة كبيرة من هذه الأسئلة المحرجة. إذ يبقى الرهان الأساسي في هذا المؤتمر أن تلتقي أجندة النهضة مع الأجندة الوطنية وأن تدفع من موقعها المؤثر داخل الساحة السياسية والإقليمية إلى تدشين مشاريع الإصلاح الكبرى في جملة من القطاعات الأساسية في البلاد التي تأخرت كثيرا وذلك تمهيدا لإيجاد مناخ سليم للاستثمار الداخلي والخارجي وتعزيز الانتقال السياسي بالانتقال الاجتماعي والاقتصادي. ورغم أن النهضة هي أكثر الأحزاب دعما للحكومة فإنها تبدو للأسف كباقي الأحزاب منشغلة بوضعها الداخلي وهذا ما يجعل النخبة السياسية في تونس في وضعية صعبة أمام الشارع وبما يعزز حالة الفراغ في الحياة السياسية بتونس. إن حركة النهضة هي أكثر الأحزاب التونسية تأهلا للقيام بدور وطني يعزز تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، إذ تبرز مؤسسات سبر الآراء أن حزب النهضة في عيون التونسيين هو حزب منظم وقوي ويتطور باستمرار ويثمن أغلب التونسيين دوره المحوري في قيادة سفينة تونس لبر الأمان. إذا هل تنجح حركة النهضة في كسب الرهان في ظل حالة الانتقال التي تعيشها هي ذاتها؟