لم أكن أتصور أن المرأة الأربعينية التي تجلس قريبا مني أنا وصديقتي في إحدى المنتزهات ستكون جريئة إلى حد أن تفتح معنا موضوعا يخصّها شخصيا تسرد من خلاله شريط حياة عاشتها مع أهلها وزوجها وتكشف أسرارا لا يمكن كشفها من جلسة أولى ولم أكن أعرف نفسي أنني سأتحمل هذا الكم الهائل من الشكوى لأنني بطبعي ملولة من الأحاديث الطويلة خاصة من السرد عن أمور ومشاكل الناس الخاصة بعوائلهم ، لم أستطع الهروب منها حيث لا يوجد كرسي آخر أذهب إليه إلا في الجانب الآخر لها الأمر الذي سيجعل ابني بعيدا عن عيني ثانيا ستكون هذه الخطوة حركة واضحة مني بالملل إن انتقلت لمكان آخر.. على ما يبدو أنها كانت تنصت بإمعان لكلامي مع صديقتي لأنها بدأت حديثها باستفسار عن أصلي وبلدي عندما لاحظت اختلاف لهجتي ومن ثم بدأت تحدثنا عن عملها الذي بدأته منذ عشر سنوات حيث أنها تعمل على تحضير خلطات طبيعية علاجية للحروق والندوب أو زيوت معالجة للكثير من المشاكل.. وفجأة وبلا مقدمات نسيت أمر عملها وانخرطت في الحديث عن أمور حياتها الخاصّة جدا عن غربتها في بداية زواجها وعودتها بدون زوجها وأولادها الأربعة وعن مشاكل حدثت معها مع أقارب زوجها وافتراءات قامت بتأليفها قريبتها حينما فكرت باللجوء وحدها دون أبنائها إلى بيت أهلها هربا من ظلم زوجها وتعديه عليها وسرقة مالها على حد تعبيرها الأمر الذي تسبب بنشوب قطيعة بينها وبين إخوتها وأخواتها تسببت به هذه القريبة لتمتد القطيعة فيما بعد إلى أمها وأبيها اللذين صدقا أيضا هذه الافتراءات ولم يقتصر الأمر على الجدال والتلاسن فيما بينهم فقط بل تعداه إلى الضرب المبرح بأدوات حادة على حد قولها إلى مقاطعته هو الآخر لأهله بسبب كرههم لها .. الغريب في الأمر أن ابنتها ذات العشر سنوات كانت تجلس بجانبها تستمع إليها وهي تتكلم عن الزوج والأب ، كان أسلوبها مستفزا ومنفرا لدرجة أنّ المصطلحات التي كانت تستخدمها مقرفة ومن العيب أن يتفوه بها الرجال فكيف بامرأة.. لم تقتصر على الكلام بل كانت تلوح بيديها يمينا وشمالا وتقوم بحركات غريبة بعينيها الجاحظتين ربع ساعة أو أكثر بقليل كانت المدة التي احتاجتها لكل هذا أحسست بضيق كبير لدرجة أنّني كنت سأصرخ بوجهها لتفادي هذا حاولت الانشغال بهاتفي قليلا وهي تتكلم لكنّني تفاجئت بيدها الضخمة تمسك بيدي التي أحمل بها هاتفي تنزلها قليلا مكملة حديثها المتناقض عن سطوة زوجها الذي تقول أنه أنقذها من براثن أهلها وجورهم عليها حين تأذت منهم .. كانت حركتها مستفزة جدا تمالكت معها أعصابي ونظرت إلى صديقتي نظرة استغراب من تصرفها الوقح فوجدتها واجمة هي الأخرى مما تسمعه وتراه، ناداني ابني من بعيد فأحسست وكأنها النجدة أتت تسعفني فهممت لأقوم عن المقعد وجدتها أمسكت بيدي وسألتني "لوين؟".. سحبت يدي بقوة وتجاهلتها سألت مرّة أخرى"لوين ؟" "رايحة؟" ثم أضافت "مزعوجة؟؟".. أجبتها "بالإذن منك" ... قالت "خليني أجيب لك قائمة الزيوت وفوائدهم تشوفيهم" .. قلت لها " مرّة تانية" ابتسمت ابتسامة باهتة وقالت لي "أعطيني رقم موبايلك"، أجبتها وأنا أبتسم " أعطيني أنت رقم موبايلك وإذا احتجت أيّ شي بحكي معك"... ناديت على ابني كي نعود إلى البيت كون هذا كان الحلّ الأفضل بل الأسلم فالهروب منها هو ما قدرت عليه.. نسيت الملل الذي أتى بي لهذا المنتزه مشيت مع صديقتي التي قالت لي " هو الواحد ناقصو وجع راس؟".. تنهدت بتأفف التفت إلى الخلف ولم أر من المنتزه الفسيح بأشجاره الكثيرة سواها وهي تتكلم بهاتفها.. قلت لصديقتي "ما هذه المرأة الغريبة ؟ هل كانت تستعطفنا من خلال القصص التي سردتها علينا لنشتري من بضاعتها أم ماذ؟".. لقد جعلتني بأسلوب سردها الجاف بل الحاد أنفر ليس منها فحسب بل من بضاعتها ولو عادت علي بالفائدة.. ضحكت صديقتي وقالت : "غريب أنها ما تحس بغلاظتها والأغرب أنها تمدح حالها". تركنا المكان رغم هدوئه وجماله وبقيت أنا في حيرة، أفكر في هذه المرأة وفي زينتها الصارخة.. في أسلوبها وحركاتها الرجولية.. في السيجارة التي كلما أطفأت واحدة أشعلت من بعدها أخرى.. في مدحها المبالغ بنفسها وجمالها الذي لم ألمسه ولم أراه أبدا.. كنت أفكر في الطفلة الصغيرة التي تتابع كل ما يحكى عن والدها وأجدادها وأعمامها وأخوالها ما لا تطيقه الأذن من تعابير وأوصاف وكلمات منافية للأدب والبرّ .