نحن الآن في سنوات البعثة الأولى، مازال عمر لم يلتحق بالركب مازال خالد مازال مازال ابن العاص، مازال الكثير.. لم تعتنق غير ثلّة قليلة، تلك الهامات الشّامخة التي أثّثت دار الأرقم بن أبي الأرقم مفخرة الإسلام وفسيلة الدعوة ولذّة المحنة وعذوبة اللبنة الأولى.. كلّ الذين التحقوا بشكل مبكر كانت لهم دوافعهم "ودوافع الهداية أعلى وأجلّ"، إلاّ هذا الفتى المدلّل الرقيق الذي لا يكاد يطأ الأرض حين يمشي، هذا الذي لا تمشي باسمه الفرسان وإنّما تعجّ بذكره مجالس النّساء، نساء مكّة.. قيل أنّه كان فتى مكّة المدلّل والأجمل والأكثر ترفا حتى أنّ عطره يأتي خصّيصا من الشّام، ذكر له صاحب الطبقات مناقب كثيرة تثبّت ذلك وتزيد.. الملفت أنّ هذا الشّاب الذي يخشى من والدته "بل حبسته حين سمعت بإسلامه" غلبت عليه الرقّة وطغى الدلال على سمته العامّ، حتى أنّه حين خرج في هجرة الحبشة الأولى وقبل أن يصل إلى السفينة، تقول ليلى بنت أبي حثمة" وكان مصعب بن عمير رقيق البشر ليس بصاحب رجله, ولقد رأيت رجليه يقطران دمًا من الرقّة فرأيت عامر خلع حذاءه فأعطاها...."!!! امرأة سلِمت أقدامها بينما أقدام مصعب دميت، رقّة متناهية، لكنّه أسلم وتردّد على دار الأرقم وهاجر إلى الحبشة، لقد كانت" اقرأ باسم ربك الذي خلق" أقوى بكثير من كلّ أنواع الترف ومن كلّ أنواع الخوف ومن كلّ أنواع الموروثات والمعتقدات.. فماذا أيضا؟! هناك على سفح جبل الصفا جنوب شرق الكعبة الشريفة تقع المدرسة التي تعلم فيها مصعب بن عمير وتخرّج منها بامتياز، تلك مدرسة الأرقم إبن أبي الأرقم.. "الله الله.. اللهم إنّي أحبّ دار الأرقم، اللهم إنّي أحنّ إلى دار الأرقم.." من تلك المدرسة عرج مصعب على تربّص الحبشة، هناك حدثت النقلة النوعيّة التي حيّرت الصحابة أنفسهم، لقد اخشوشن الفتى بعد رقّة عارمة وجنح إلى الزهد بعد كلّ ذلك البذخ الطافح، ثمّ عاد من الحبشة ليكلّفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأعظم وأنبل وأدق مهمّة في تاريخ الدعوة الخالدة، إنّها المدينة وما أدراك ما المدينة، معقل الدولة وملاذ الدعوة ومستقرّ الجثمان الأطهر على وجه البسيطة. وصل فتى قريش المدينة وشرع في الدعوة بشكل سرّي، فتفطّن كبار القوم، وعزموا على إجلائه، لكنّه عرض عليهم أن يستمعوا فإن قبلوا فهو ذاك وإن رفضوا تنحّى عنهم، قالوا له هات، فقال لهم " حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، ثم أذن الله.. وفي يوم واحد دخل الإسلام قلوب أسياد المدينة بل قبيلة أو قبيلتين كاملتين. كما الكثير من الصحابة كان مصعب أحد اكتشافات الدعوة الإسلاميّة، قيل أنّ المسلمين بعد إسلام فتى مكة نسوا مصعب المظهر وتعلّقوا بمصعب اللسان، قدرة فائقة على الإقناع، وهدوء كبير أمام العتاة الذين يدعوهم فيفتتحون الحوار بالزمجرة ويختتمونه ب" أشهد أنّ لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله". قدم مصعب إلى المدينة ثمّ التحق به بلال وعمّار وسعد، مصعب الثريّ المدلّل وسعد الوجيه خال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وعمّار الفقير اليتيم وبلال العبد الأسمر الذي أعتقه أبو بكر، خليط من المجتمع المكّي، خليط من المجتمع الإسلامي الجديد، وصفة جميلة ومتوازنة وحكيمة، عيّنة أرسلها النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ليعلن من خلالها نظرة الإسلام للإنسان.. علاقة الإنسان بالإنسان.. كلّ الإنسان. قال سعد بن أبي وقاص كان مصعب أنعم غلام بمكة وأجوده حلّة مع أبويّه، ثمّ رأيته جُهِد في الإسلام جُهدا شديدا، حتى رأيت جلده يسقط كما يسقط جلد الحيّة.. قال عنه أبو هريرة : رجل لم أرَ مثله كأنّه من رجال الجنّة.. كان أعطر أهل مكّة يلبس الحضرمي من النعال، ثم ما لبث أن شغلته الدعوة إلى الله وغاص في عالم الفقراء.. هذا الفتى الرقيق المترف، يمكن أن يكون عذب اللسان صريح الكلام يحسن الخطابة، لكن كيف تحوّل إلى صاحب اللواء؟!. كيف انتقل في سنوات من مترف تدمى قدمه من مجرد المشي إلى حامل للواء الإسلام في ملحمة بدر! في سرديّة أحد! ربّما هي العزيمة الفولاذيّة، ربّما هو الحبّ الكبير لهذا الدين، ارتفع الإيمان فارتفعت الهمم، ربّما هي العناية الإلهيّة حين تقتنص الدّرر! وأيّ درّة أروع وأسمى من هذا المصعب الرائع، سفير الإسلام ونبراسه الذي شكّ به الله ظلمة يثرب فحوّلها إلى المدينة المنوّرة. الآن نحن في السنة الثالثة للهجرة، تلك قريش على بعد سويعات من ساحة أحد تقرع طبول الحرب، اليوم السبت السابع من شهر شوال في العام الثالث للهجرة، ها هي حمنة الأسدية تعدّ أغراض القتال لزوجها، تعدّل درعه إن كان أصلا للفتى درعا! تجهّز زوجها حين كان يستعد إلى حمل لواء الإسلام في معركة أحد، ربّما ألحّ منادي الجيش فلم يسعف الوقت مصعب كي يقبّل زينب النائمة فلذة كبده الوحيدة، ربّما قبّلها واستودعها الله والأكيد أنّ الأبّ لم يوقظ ابنته الصغيرة لكي لا يفزعها، قبلة نوم لذيذة على خدّ زينوبته، ثمّ خرج الفتى الرائع بعد وداع رفيقة دربه، لم تكن الفتاة الأسديّة تدرك أنّه اللقاء الأخير وأنها النظرة الاخيرة وانه ايضا الوداع الأخير! وأنّ الفتى القريشي الجميل، النبيل، الأصيل، سيذهب بعد ساعات إلى الله.. سيتركها مع زينب الصغيرة بقيّة عمرها.. استشهد فتى قريش مساء السبت السابع من شهر شوال لثلاث سنوات خلت من الهجرة والأرجح قبل صلاة المغرب بقليل، كان آخر كلامه بعد أن فقد ذراعه اليمنى ثمّ اليسرى وانحنى على اللواء حتى لا يسقط، كان آخر ما قاله مصعب بن عمير قبل أن يغادر هذه الدنيا" وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين"، وإنّ آخر ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين لمح جسده فوق أرض المعركة وقد اختلطت دماؤه بالتراب "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا"... عاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أرض المعركة، توجّه إلى زوجة مصعب، أخبرها بوفاة شقيقها فاسترجعت، أخبرها بوفاة خالها فاسترجعت، أخبرها بوفاة زوجها فصرخت... كانت لوعة الفراق أقوى بكثير من صبر الفتاة الأسديّة.. بين عطور مكة الفاخرة ودماء المدينة الزكيّة، رحلة مضرجة بالعطاء، قدّم الفتى موطنه قدم عطره قدم بذخه قدم ماله قدم راحته.. وحين لم يبق له ما يقدم، قدم حياته.. لقد سبق النبي والصديق والفاروق إلى هناك.. نصرالدّين السويلمي