هناك دكتاتوريّة تعتمد على الحكم المطلق، لا مكان فيه للشعب ولا مجال للرأي الآخر، تحت هذه اللافتة تندرج الدكتاتوريّة القاتمة والماكرة والمخادعة والمهادنة.. مقابل ذلك هناك ديمقراطيّة تعتمد حكم الشعب، يشارك فيها العاقل والراشد وتكفل حقّ الغير عاقل الغير راشد.. ويتحتّم على الديمقراطيّة في بعدها الانتخابي أن تنزل عند شروط صناديق الاقتراع، تنظّم ذلك قوانين تفصيليّة تسمى قانون الانتخاب وتحكمها قوانين كليّة تسمّى الدستور. تلك فقرة بسيطة إذا توفّرت الإرادة وخلصت النيّة ستكون صالحة لإدارة المشهد السياسي برمّته، أمّا إذا غابت الإرادة وفسدت النيّة فإن الدواوين الثقال الجسام والمجلّدات والمكتبات لا يمكنها إدارة شأن عام قرّرت أطرافه الاعتماد على التحايل القانوني أو الدستوري واستبطنت العبث بالمسلّم الديمقراطي لصالح الدخيل والسقيم الديمقراطي، إذْ لا يمكن بحال للنوايا السيئة المبيّتة أن تحوّل حاويات من الدساتير الجميلة إلى واقع سياسي جميل، لأنّ النيّة الفاسدة أقوى من مليون دستور، خاصّة إذا كانت نوايا كثيفة و متعاضدة، مارست المكر خلال مراحل الانتقال الديمقراطي، حين تكون المؤسّسات الضامنة متعثّرة هشّة مرتبكة لا تحسن التصدّي للاستعمال السياسي المجانب. هذا الخلط بين الديمقراطيّة والدكتاتوريّة، تحاول العديد من الأطراف انتهاجه اليوم في تونس، يرغبون في المحافظة على التداول على السلطة ولا يريدونه دائما تداولا سلميّا، مرّة سلميّا حين يخدمهم ومرّة التفافيّا حين لا تنفع السلمية في خدمتهم، هذه خميرة حزبيّة سياسيّة متواجدة وتتكاثر في تونس، لا تصبر على الديمقراطيّة ولا ترغب في النزوح النهائي نحو الدكتاتوريّة، فهي تدرك أنّها أقلّ شعبيّة من الديمقراطيّة وأجبن من اقتحام النزاع القاتل للتسيّد بالدكتاتوريّة، لا هي شرسة فتراهن على الدم ولا هي محبوبة فتراهن على الشعب. وإلّا فإنّه لو توفّرت النوايا الطيبة والإرادة ليس أسهل من تطبيق الديمقراطيّة في تونس وليس أسهل من نبذ الدكتاتوريّة وملاحقتها ووأدها في مهدها، ولو جفّف كلّ طامع طمعه واقتنع الكلّ بالشارع كخيار وكرهان وكبوصلة، ثمّ اقتنعوا بالدستور فلا هم تغوّلوا ولا مدّوا أعينهم إلى ما مُتّعت به صناديق غيرهم، لانتهى الأمر في بضعة أيام بين الحملات الانتخابيّة والاقتراع والتنصيب ثمّ يمضي كلّ إلى وجهته يخدم هذه البلاد من موقعه، لكن حين تغطس الأحزاب في الانتهازيّة ثمّ تنزل إلى حقول الشارع فتعجز عن العودة بمحصول يشفي شراهتها، حينها تشرع في مخاتلة محاصل الأحزاب الأخرى، وحتى تصل إلى مبتغاها الالتفافي، تفتح قناتين، قناة للتآمر على المنطوق الدستوري وعرقلته، وقناة لتهجين البديل الدستوري وتحويله إلى أصل، ومن داخل ذلك البديل تتوسّع في العبث تلبية لشهواتها الفاشلة شعبيّا. يُقال أنّ في تونس مشكلة، وفي الأصل لا مشكلة، دعونا من الجملي والفخفاخ واللعب في الخواصر والمحاضن، لنتحدّث عن ديمقراطيّة ما بعد الفخفاخ، ونفترض أنّ النيّة الطيبة متوفّرة والإرادة جاهزة بالعودة إلى الجادة، إذا لوجدنا رئيس جمهوريّة يسارع بإعادة الأمر إلى الحزب الأول في البلاد ولا يندفع في مغامرة وخطط وتوقيت واستعلامات.. من أجل السبق! السبق لماذا؟! السبق للإبقاء على الوضع الاستثنائي وعدم العودة إلى منطوق الدستور السلس. وبدورها الأحزاب لو كانت ترغب في تثبيت ديمقراطيّة غير ركيكة ولا مخاتلة ولا ممزوجة بمسحوق الدكتاتوريّة، إذا لعادت إلى جادة الأرقام وأسلمت أمرها إلى إرادة الشعب وأثّثت سلطتها وفق صريح الصندوق وليس وفق الالتفاف و"اللهمڨة" والسطو السياسي باستعمال العجرفة. إنّه ليس أسهل من تطبيق الديمقراطيّة في تونس، وإنّ قوى الثورة المضادّة الإقليميّة لو جيّشت ما جيّشت، ثمّ وجدت مشهدا متماسكا مؤمنا بالتحاكم إلى الشعب والدستور، عازما على احترام الأرقام ثمّ احترام فصول الدستور وتقديم منطوقها وصريحها، ما أمكنها أن تعطّل مسيرة شعب قرّر أن يخرج من ربقة الديكتاتوريّة إلى رحابة الديمقراطيّة. نصرالدّين السويلمي