نحن نرى و نسمع -بشكل لا تشويش فيه و لا تدليس- أن عدداً غير قليل من أحرار العالم، وبخاصة منهم مَن على الساحة الأوروبية، يصدعون بمواقف إنسانية منقطعة النظير, يبذلون في سبيلها أوقاتهم وأموالهم ، بل –وأحياناً- نفوسهم، يناصرون بكل جد وحماس القضايا العادلة في عالم اليوم المائج بالظلم و الاضطهاد . وحسبي دليلاً على ما ذكرت ما رصدته كاميرات العالم كله قبل بضعة أسابيع من أمواج بشرية غاضبة، تدفقت من مختلف البلدان الأوروبية على مؤتمر البيئة في الدنمرك، للمطالبة بحق فقراء العالم بنصيب من العيش الكريم، الذي احتكره دونهم رعاة هذا المؤتمر المترفون. بيد أن عجبك لا ينقضي، ودهشتك لا تريم، حينما ترى جل أبناء المسلمين عموماً، وكثيراً من أبناء الجاليات المسلمة المقيمة في أوروبا خصوصاً منغمسين في اللهو غير آبهين لشيء، وترى هؤلاء الأحرار يؤلبون الجموع، ويحشدون الأنصار لمناصرة قضايا المسلمين، ويلاقون في سبيل ذلك من الجهد والعنت ما لا يعلمه إلاّ الله. فما أكثر ما سابقونا وزاحمونا في مهرجانات المناصرة لقضايانا العادلة والمشروعة، كحق شعوبنا المستضعفة في صد العدوان الواقع عليها من فلسطين إلى العراق إلى أفغانستان والبوسنة والشيشان. بلى والله ما نسيناهم وهم يتظاهرون بمئات الآلاف، مطالبين بوقف الحرب على العراق، في بداية العدوان عليه من قبل القوات الأمريكية وحلفائها، ووضعنا أيدينا في أيديهم في تحركات متنوعة ووقفات مشهودة للمطالبة برفع الحصار الجائر المفروض على غزة ... رأينا منهم الساسة أعضاء البرلمانات الأوروبية الذين ذهبوا بأنفسهم لكسر الحصار عن غزة, رأينا الأطباء و الصحفيين..، وعاينّا قادة المؤسسات الإنسانية والحقوقية يسبقون أهل الإسلام في نصرة إخوانهم المظلومين في كل مكان، وما أخبار قافلة شريان الحياة بقيادة النائب البريطاني جورج جلوي عنا ببعيد. و السؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا هنا هو: كيف نتعامل مع هذه المواقف الإنسانية الرائعة؟ وبماذا يأمرنا ديننا الحنيف إزاء هذا النبل والكرم؟ وإلى أي قيمة يرشدنا لنكافئ هؤلاء؟! آمل أن يكون في هذه العجالة بعض من الجواب عن ذلك. و لعلنا نعبر إلى ما نريد من مقابلة إحسان هؤلاء من بوابة المنهج الإسلامي الأصيل، المؤسس على قاعدة: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس". فقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه و سلم أنه قال: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"، و في رواية: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله". فنبينا صلى الله عليه و سلم يعلمنا ويرشدنا إلى قيمة أخلاقية تربوية عظيمة، وهي شكر الناس الذين يحسنون إلينا بأي نوع من الإحسان . ودلالة الأحاديث تؤكد على أن من تهاون في شكر الناس الذين أسدوا إليه معروفاً، هو أحرى أن يغفل عن شكر الله تعالى, ورحم الله الإمام الخطابي إذ يقول عند شرحه لهذا الحديث: "وهذا الحديث يُتناول على و جهين: أحدهما: أن من كان من طبعه و عادته كفران نعمة الناس، وترك الشكر لمعروفهم، كان من عادته كفران نعمة الله، وترك الشكر له. و الوجه الآخر: أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه، إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس، و يكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر". و عليه فإن المنهج الإسلامي واضح في الاعتناء بهذه القيمة العظيمة، وهو ينبهنا إلى أن نتوجه إلى كل من أحسن إلينا صغيراً أم كبيراً، قريباً أم بعيداً بالشكر والامتنان. ويحدد لنا نبينا -صلى الله عليه و سلم- في حديث آخر المنهج العملي لهذا الشكر بقوله: "و من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه". فالنبي صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى أمرين هما: مكافأة المحسن أيَّاً كانت هذه المكافأة, فإن عجزنا عن ذلك فإننا نكثر من الدعاء لهذا المحسن، حتى يغلب على ظنّنا أننا قد أدّينا بعض شكره. وهل لسائل بعد هذا أن يسأل: لماذا نحرص على شكر هؤلاء الأحرار؟ إن هناك أسباباً ثلاثة تدعونا للتأكيد على أهمية تقديم الشكر لكل الأحرار الذين وقفوا مع قضايانا العادلة وهي: السبب الأول:- السبب الديني . وهو الذي بيّنّا جانباً منه سابقاً، وهو الملخص في قوله سبحانه وتعالى: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ). و السبب الثاني:- السبب الإنساني. فالإسلام دين الإنسانية والفطرة السوية، والإنسان بفطرته وطبيعته - مهما علا منصبه في هذه الدنيا وارتفعت مكانته - يحب أن يُشكر, بل ويزيد حماسه لفعل الخير، كلما قوبل إحسانه بالشكر و الثناء عليه، والإسلام يلبي داعي هذه الفطرة؛ ولذا أكّد على ضرورة شكر المحسن على إحسانه. و السبب الثالث:- السبب الدعوي الرسالي. فالناس الذين يسدون إلينا المعروف, ويبذلون ما استطاعوا لتقديم الخير لنا، ومواساتنا -ولو بكلمة صادقة- ينظرون إلى ردود أفعالنا تجاه ما يقدمون من معروف, وسوف يربطون لا محالة بين ردود أفعالنا وديننا، من خلال تصرّفاتنا وسلوكنا؛ ولذا فإننا إذا التزمنا بمنهجنا الإسلامي السويّ في مكافئة المحسنين, فإننا سوف نبلغ من خلال ذلك بعضاً من قيم ديننا، وجزءًا من رسالته الإنسانية، وسوف نحبّب الآخرين فيه، من خلال حبهم لسلوكنا معهم, و أمَّا إذا انحرفنا عن هذا النهج الإسلامي الأصيل، وتحقق فينا قول نبينا صلى الله عليه و سلم: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" فإننا سوف نسيء إلى ديننا قبل أن نسيء إلى أنفسنا، ونصد عن سبيل الله قبل أن نشوه صورتنا في أذهان الآخرين، ونظهر ديننا بمظهر الجفاء والغلظة المصادمة لأرقى معاني الذوق والسلوك الاجتماعي المطلوب، بل والمصادمة لطبيعة ديننا السمحة المباركة. و يبقى الجواب عن الكيفية التى يمكن أن نجسد بها هذا الشكر على أديم الواقع, محتاجاً إلى تفكير جماعي بطريقة إبداعية، توصل لصياغة مشاريع عملية، نحوّل من خلالها هذه القيمة من عالم الفكر والنظر إلى عالم الواقع والتطبيق، ولذا فإنني قبل أن أطرح بعض المقدمات التأصيلية لهذه المشاريع أدعو المؤسسات الإسلامية على كافة تخصصاتها في الغرب عموماً، وفي أوروبا على وجه الخصوص، إلى التفكير في طرح مشاريع الشكر العملية لهؤلاء الأحرار، لعلنا نؤدي بعضاً من واجب الشكر المتحتم علينا تجاه هؤلاء . أمّا عن المقدمات التأصيلية الخادمة لهذه المشاريع فإنني أدعو إلى تفعيل حقيقة هذا الشكر على النحو التالي: أولاً: شكر القلوب.. وفيض المشاعر والأحاسيس. أي أن يبدأ هذا الشكر من أعماق قلوبنا ومشاعرنا، وأن نقر في أعماقنا بإحسان الآخرين إلينا. إن هؤلاء الأحرار من أبناء أوروبا الذين ناصروا قضايانا، على الرغم من اختلاف الدين بيننا، ووقفوا معنا وقفة صادقة يجب أن نشعر في أعماق قلوبنا بالامتنان الحقيقي تجاههم, ويجب أن نكون صادقين مع أنفسنا ومعهم حتى يشعروا بحرارة الصدق في شكرهم، وتفضي به قلوبنا إلى قلوبهم، أي أننا لا نريد شكراً بارداً برودة الجو في أوروبا, بل نريده شكراً حيَّاً دافئاً يصل إلى أعماق قلوبهم و نفوسهم. ثانياً: شكر اللسان.. وعذوبة المنطق والخطاب. أي أن نحسن اختيار ألفاظ الشكر، وقد علّمنا نبينا -صلى الله عليه و سلم- أن نقول لمن أحسن إلينا: "جزاك الله خيراً"، وأن ندعو له بظهر الغيب بأحسن ما نتمناه له. وعلينا أن نختار من الألفاظ والأساليب أجملها وأحسنها، مما يناسب أعراف وعادات الشعوب الغربية في شكر الآخرين والاعتراف لهم [إنهم أحسنوا إلينا]. ثالثاً: المكافأة باليد.. وجزالة الجائزة وهي التي علمنا إيَّاها نبينا صلى الله عليه وسلم عندما قال: "ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه" والمكافأة تقتضي منا أن نقف مع من نصر قضايانا، وضحّى في سبيلها بالغالي لا ينتظر منا جزاءً ولا شكوراً. ولعل من صور هذه المكافأة أن نقف مع الذين تأذوا في قافلة شريان الحياة الأخيرة، وأن ندفع بقضيتهم إلى المؤسسات القضائية؛ ليرد لهم الاعتبار، وليعتذر إليهم على الملأ من قبل الذين أساؤوا إليهم وإلينا بأذيتهم المادية والمعنوية، كما وقع في مدينة العريش ورفح وغيرها. بل ومن صور المكافأة لهؤلاء الأحرار أن نردّ على الذين هاجموهم عبر المقالات الساقطة، والتصريحات السيئة، واتهموهم بما ليس فيهم بحجج واهية وتبريرات زائفة. وإنني في الختام أتقدم بين يدي إخواني وأخواتي من قيادات ومسؤولي المؤسسات والمراكز الإسلامية في أوروبا ببعض المقترحات العملية، لعلنا بذلك نحقق بعض الشكر تجاه هؤلاء: 1_ أن تُشكّل لجان خاصة بإحصاء كل الأحرار على الساحة الأوروبية، أفراداً ومؤسسات؛ ليُضمّن بعد ذلك في قاعدة بيانات شاملة، تسهل الاتصال وإقامة العلاقات معهم وفق عملية تخطيطية دقيقة. 2_ الترتيب لمهرجانات واحتفاليات في المدن الكبرى في أوروبا، واستضافة هؤلاء الأحرار لتقديم بعض الهدايا والجوائز تعبيراً من المسلمين عن شكرهم وامتنانهم العميق بمواقفهم وجهودهم . 3_ إصدار بيانات ورسائل موقعة من المؤسسات والمراكز الإسلامية، تتضمن الشكر مع البيان للأعمال الشريفة التي قام بها هؤلاء. 4_ تصميم الشعارات والإبداعات في الإعلانات الإعلامية تعبيراً عن شكرنا لهؤلاء الأبطال. 5_ رصد جوائز سنوية تُمنح لأكثر هؤلاء مناصرةً لقضايانا. والحمد لله رب العالمين.