اللغة وعاء الفكر والحضارة، لعل القارئ لخطاب الحركة الأمازيغية لا يجد صعوبة في رصد ملامحه. فالحركة لم تستطع أن تبلور خطابا ذاتيا خاصا بها تستطيع به أن تخاطب الجمهور الأمازيغي العريض. ولعل الانقسام التنظيمي له تجل واضح على مستوى الخطاب فبينما تجد فئة من الفعاليات الأمازيغية لا يتسع خطابها إلا للغة الفرنسية ولا تجيد اللغة العربية ولا حتى الأمازيغية. هذه الفئة تتعامل مع الفرنسية على أنها لغة مقدسة تسعفهم في مخاطبتهم للمغاربة الذين لا يجيدونها لدرجة أن خطاب هذه الفئة يتيه بمجرد ابتعاده عن البوصلة الفرانكفونية. وتجد فئة أخرى تتبنى خطابا انتقاميا شوفينيا جنائزيا لا يجيد سوى لغة العزاء والهلكوست، فأصبحت الكلمات المستعملة في هذا الخطاب محفوظة (التهميش، الإقصاء، الشعب الأمازيغي، الربيع الأمازيغي، السنة الأمازيغية، الحكم الذاتي، تقرير المصير، التطهير العرقي، المخزن القومجي العروبي...الخ (1). في كثير من الأحيان تبدو الطائفية هي التي تؤطر هذا الخطاب، فأصبحنا نسمع كلاما من قبيل: «نحن أمة موزعة على تسعة أقطار في إفريقيا تمتد من المحيط الأطلسي إلى نهر النيجر وسط إفريقيا، ونهر النيل بمصر، والبحر الأبيض المتوسط في الشمال...لذلك بدأنا نؤسس عودتنا إلى التاريخ الحديث بإنشاء منظماتنا الدولية وتأسيس آلاف الجمعيات لتأطير مجتمعنا وقيادته ثقافيا وسياسيا» (2). أكثر من ذلك، هذا الخطاب المليء بالشعوذة الثقافية الذي لا يمل من مخض الماء وطحن الهواء وجعجعة البخار تجده بلبوس عربوفوني يتغذى على سمعة العنصر العربي واللغة العربية، ويبحث عن كل مظاهر التناقض معهما، لأن اللغة العربية في نظر هذه الفئة لا تعدو أن تكون لغة الغازي المستعمر العربي، القادم من الشرق، وأن الثقافة العربية «لم يعد لديها الكثير مما يمكن أن تقدمه للعالم المعاصر سوى العنف والتعصب. وهذا ما يعطي شرعية للأمازيغية كثقافة أرضية متحررة من كل العوائق التي يفرضها ثقل المقدس والمحرم» (3). ويضيف آخر "ليعلم الجميع أن المسؤول المباشر والفاعل الأصلي لمخطط إبادة شعبنا هو الأمويون... لقد طبع الأمويون أجدادنا إلى إسلام منحرف غير بريء...إذاً فالأمويون هم دهاقنة السياسة اللغوية الممارَسة في بلادنا... وهم الذين برمجوا شعبنا على إبادة نفسه» (4). مثل هذا الخطاب تجاوز مسألة الدفاع عن الأمازيغية إلى التعصب في التعاطي مع اللغة العربية والفتح الإسلامي وإلى نتوءات شعوبية تطفو إلى السطح في مرحلة الفتور الحضاري للأمة الواحدة القوية. خطاب أقرب إلى أسطورة شعب الله المختار في شمال إفريقيا المضطهد والمفعم بالاعتزاز بالانتماء مع الإحساس بالضعف والعجز وانعدام القيمة. من هنا التعصب المفرط للثقافة والتقاليد مما أوجد حالة من الانشطار العاطفي تجاه قيم المجتمع الإسلامية (5). الحلقة الأخرى التي وصل إليها الخطاب الأمازيغي، وهي لا تقل عدمية من سابقاتها، هي الحلقة اليسارية، حيث أن هناك أطرافا أمازيغية سقطت في «فخ التوجه العدمي لليسار الراديكالي» (6) حيث قامت مجموعة كبيرة من يتامى الشيوعية بعد موت إيديولوجيتهم التي لم تعمر طويلا، قاموا بهجرة جماعية نحو العدوى الأمازيغية لإطالة عمرهم السياسي ما أمكن، ريثما يسترجعوا قُواهم. حتى الدغرني نفسه كان في صفوف حزب التقدم والاشتراكية وكان يصف الأمازيغيين بالبرغواطيين، الآن وقد "تاب" وهاجر من اليسار إلى الأمازيغية من ضيق إلى أضيق منه «مستبدلا غصن شجرة بغصن... علا شجرة اللايكية الثورية اليسارية حتى تقصفت أغصانها، فتراءت له شجرة أصالته على ضوء الديمقراطية ودستور الديمقراطية، فهو هابط صاعد» (7). أصبح الحديث عن ضرورة تبني الطرح التقدمي للقضية الأمازيغية حديث الساعة، على اعتبار أن الأمازيغيين منذ القدم هم اشتراكيون عفويون يعيشون وفق نمط إنتاج يرتكز إلى الملكية الجماعية للأفراد في ظل النمط الاشتراكي العفوي، وانتقلت المعركة إلى التصدي للإقطاع البورجوازي العروبي الذي يعمل على حرمان الفلاحين الفقراء من الحق في الأرض والماء وتنمية اللغة والثقافة الأمازيغيتين. أي تحول هذا الذي أقدمت عليه الفلول اليسارية من خطاب اشتراكي يتغنى بالقومية العربية إلى خطاب أمازيغي بلباس الصراع الطبقي «من أجل بناء المجتمع الاشتراكي ومواجهة الطرح الرجعي للنظام القائم المدعوم من طرف الأحزاب البرجوازية» (8)؟ كيف تحولت الأمازيغية في رمشة عين إلى مفتاح النجاة لهؤلاء اليتامى اليساريين وإلى الأمس القريب يصفون الطرح الأمازيغي بالرجعي وأن النضال من أجل الأمازيغية يشوه النضال الطبقي. بعد أفول الاشتراكية ووصولها سن اليأس في كل مكان، فقدت تلك العناصر كل مبرر وجودها السياسي، فكان لابد لها من البحث عن خيط يبقيها حية ولو في غرفة الإنعاش ريثما تتحقق ثورة العمال، فلم يجدوا إلا الأمازيغية أمرا ضروريا في الصراع من أجل البقاء. لقد استنجد غريق بغريق، ومن يدري بما وبمن يستنجد هؤلاء بعد أفول مخلصهم الجديد، ﴿اَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوَ اذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[الحج:44]. --------------- الهوامش: 1- جريدة الجسر، عدد 35، محرم 1417ه / يونيو 1996م 2- أنظر حوار الجزيرة نت مع أحمد الدغرني www.aljazeera.net 3- المسألة الأمازيغية بالمغرب. مصطفى عنترة، ص 34 4- جريدة المستقل، العدد الصادر من 26 يوليوز إلى 1 غشت 2001 5- التخلف الإجتماعي سيكولوجية الإنسان المقهور. د مصطفى حجازي، ص115-116 6- جريدة ملفات، عدد 18، نونبر 2008 7- حوار مع صديق أمازيغي. عبد السلام ياسين، ص 76 8- جريدة النتدى الأمازيغي، العدد1، دجنبر