لم لا تكون ذكرى المولد النبوي محطة تعبئة جديدة. ((( 6 ))). سؤالنا اليوم هو : أي دور للسنة النبوية في تحدياتنا الراهنة. 1 تحدي مقاومة الإحتلال الصهيوني. لم يتعرض النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام في تاريخه إلى إحتلال أجنبي بالمرة والحديث طبعا عن دولة المدينة التي ظلت تتوسع سيما بعد صلح الحديبية شيئا فشيئا ولكن تعرض عليه الصلاة والسلام إلى محاولات داخلية كثيرة تستهدف حياته ( بني النضير ) أو تستهدف الإطاحة بالنظام السياسي في المدينة في إثر التحالف القرشي الغطفاني العربي الأوسع في الخندق ( بني قريظة ). أما التعرض لمحاولات إحتلال خارجية أو محاولات إبادة بالكامل فهو غني عن الذكر لكثرته. يكون الحديث إذن إستئناسا بالنبوة لمقاومة الإحتلال عن مقاومة محاولات الإحتلال الخارجي بسبب أن الإحتلال ذاته لم ينجح ولو مرة واحدة في التسلل. في هذا الصدد لنا مرجعيتان للإستئناس : أولهما عملية وثانيهما قولية. تعرضت المدينة إلى محاولات كثيرة للإحتلال بعضها من جانب قريش ( بدر أحد الخندق ).. فإذا كانت ملابسات بدر يمكن أن تؤطر ضمن إستجابة قريس للتحدي الإسلامي بسبب أن السبب المباشر لغزوة بدر هو رد فعل قريش على تعرض محمد عليه الصلاة والسلام لقافلتها التجارية.. فإن ملابسات أحد لا تند عن محاولة قرشية ثابتة للإحتلال أو الإبادة بالمرة لأن قريش كانت فيها المعتدي المباشر دون أدنى سبب إلا ثأرا من هزيمة بدر المدوية. أما مثال الخندق فهو أشد صراحة ووقاحة في أشد محاولات الإحتلال أو الإبادة. لا نظن أن القياس هنا يبعد بنا قيد أنملة بسبب أنه إذا كانت النبوة قد قامت على التصدي للإحتلال أو الإبادة قبل وقوعها أو وهي على طريق التنفيذ فإن مقاومة المحتل الذي تسلل إلى الدار أولى بالقياس.. الهدي النبوي في حالي أحد والخندق كان هديا صريحا في إستجماع ما أمكن من شروط الدحر.. شرط الشورى الداخلية التي مارسها في أحد وإلتزم بنتائجها رغم أنها ضد بغيته هو ذاته عليه الصلاة والسلام.. وشرط التخطيط العسكري الحكيم من خلال تثبيت فرقة عسكرية خاصة فوق جبل الرماة بأحد تكون ظهرا حاميا.. وشرط الإقتباس من التقنيات العسكرية الجديدة إذا ناسبت الزمان والمكان من مثل الأخذ بفكرة حماية المدينة بخندق غائر يحجز الخيول أن تطأه.. وشرط بعث العيون الإستخبارية لتأتي بخبر القوم بمثل ما وقع في الخندق رغم سلطان الخوف الذي بسط رداءه على كل الناس تقريبا حتى إضطر عليه الصلاة والسلام إلى تعيين واحد منهم بنفسه .. وشروط أخرى كثيرة لسنا في محل رصدها.. والشأن ذاته مقاومة لخطر الإحتلال وقع مع محاولات الرومان الزحف على دار الإسلام يومها فكانت مؤتة وكانت تبوك وغير ذلك .. ( أو ما يمكن أن نسميه بلغة العصر : الحرب الدفاعية الإستباقية أو المقاومة الإستباقية ).. كما لا يتسع المجال هنا لرصد الهدي النبوي مقالا ( أي حديثا ) يدفع إلى مقاومة المحتل بل إلى الحيلولة دون تسلله أصلا .. حتى أضحى ذلك معلوما من الدين بالضرورة إذا جمعت له الآي القرآني والحديث النبوي والسيرة وغير ذلك.. 2 تحدي الإستبداد السياسي. أما هديه عليه الصلاة والسلام في شأن مقاومة الإستبداد السياسي فهو مختلف قليلا بسبب أنه لم يكن يوما تحت سلطان إستبداد سياسي مباشر إلا عندما كان في مكة مستضعفا عددا وعدة فضلا عن معايير أخرى تجعله يتصرف في مقاومة الإستبداد القرشي ( رؤساء القبائل ورؤوس القوم عامة من المترفين الذين يستعبدون الناس إسترقاقا إلخ ..) بحسب نتائج ميزان المصالح والمفاسد. كما يمكن إدراج محاولاته المتكررة لتحرير الناس من جبروت الأكاسرة والقياصرة في مرحلة متأخرة من حياته .. ضمن هديه العام في مقاومة الإستبداد السياسي. أما في المرحلة المكية فإنه كان يتوخى المنهاج المعروف ( البلاغ المبين والصبر الجميل ) معرضا في الجملة عن الإشتباك مع قريش مؤثرا الصبر والتوغل في المجتمع بالهداية بهدوء بل بسرية بادئ الأمر ولا شك أن المناخ العام يومها هو الذي يدعوه إلى توخي ذلك المنهاج لمعطيات معلومة في موازين القوى الثقافية والمادية سواء بسواء. أما ثقافيا فإن الشرك خلق عام ناهيك أن القرآن الكريم سماه في أوائل ما نزل ( دينا = سورة الكافرون ) وبمثل ذلك كانت قوة قريش ضاربة في الأعماق عددا وعدة فضلا عن كون محمد عليه الصلاة والسلام منها بل من الذؤابة فيها بما يجعل الإشتباك غير مناسب بالمرة.. غير أن كل مؤمن جديد يعرف حق المعرفة أن الدخول في دين محمد عليه الصلاة والسلام يعني بالضرورة خلع ربقة الطاعة من قريش وسادتها وهو شأن شمل حتى العبيد المكبلين بعصا الطاعة تكبيلا.. أما بعد صلح الحديبية حيث إنفتحت له سبل مخاطبة العالمين لأول مرة دون عقابيل ولا عراقيل أي بعد إنزياح العقبة القرشية فإنه ظل يقاوم الإستبداد الروماني والفارسي سواء في الإمارات العربية التي تخضع لسلطانهم قريبا من الجزيرة العربية أو أم المملكات وذلك من خلال إرسال الرسل والسفراء معزرين بالكتب المختومة وقد بلغت حوالي 15 سفارة تعرض بعضها للقتل على غير عادة الناس والعرب خاصة في تلك الأعراف.. لا يندرج ذلك إلا ضمن مقاومة الإستبداد السياسي الذي يحتمي به فراعنة الرومان وغيرهم لبسط نفوذهم الغاشم على رعاياهم وكثير منهم في ذلك الوقت من الإسرائيليين الذين يخضعون للقهر الروماني.. ولعل صيحة أحد أبرز سفرائه إلى كسرى ( ربعي إبن عامر ) كانت كافية بل لن تزال لتصوير عناية الإسلام بتحرير الناس من أسر الحكومات الغاشمة والعائلات المتحكمة .. أما هديه الحديثي في مقاومة الإستبداد السياسي فهو أشد خصوبة ومعلوم في مظانه وعلى ألسنة المسلمين ولكن يضيق المجال عنه هنا .. 3 تحدي الغزو الثقافي الكاسح ( العالمانية). هذا تحد ربما تجد عناية الكتاب العزيز به غير مسبوقة بل وافية ثرية حتى بأكثر ما ورد في الهدي النبوي ذاته قالة وعملا بسبب أن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام لم يتعرض لا في مكة ولا في المدينة إلى شيء شبيه من غزو فكري إلا ما كان موجودا قبله من ثقافة شركية في مكة أو إسرائيليات في المدينة.. الغزو الثقافي في ذلك الوقت كان بطيئا جدا بسبب تأخر التواصل بين الناس وبسبب أنه ليس هناك دين أو حضارة أو ثقافة قوية مؤثرة يمكن أن تغزو غيرها أو يطمع غيرها في غزوها حسدا منه أو غيرة أو غير ذلك.. كان الإنحطاط يخيم على المعمورة كلها تقريبا فاليهودية والنصرانية تحولتا إلى طقوس ميتة إنما يتكسب منهما الأحبار والرهبان والعرب معزولون في الجملة عن ذلك التأثير غارقين في تفرقهم وتفاخرهم بعضهم على بعض أما الإتصال بالرومان وغيرهم من أهل الحضارات الدولية الضاربة في تلك الأيام فلم يكن وثيقا ولا متينا.. إنما حوى القرآن الكريم جولات مطولة في مقاومة الغزو الفكري وذلك من خلال إيراده لمقولات مطولة جدا لأفكار المشركين العرب تارة وللإسرائيليين من يهود ونصارى تارة أخرى ولغيرهم من أهل النفاق مثلا بعد ذلك.. يوردها كما هي ثم يكر عليها كرا ليعرض الحقيقة بين يدي القارئ عارية ولسان حاله يقول له ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ).. من مظاهر الغزو الفكري الذي قاومه محمد عليه الصلاة والسلام ( قضية التبني التي كانت عسيرة عليه جدا بسبب ما ترسب في العرف العربي العام يومها قضية تبديل القبلة التي كانت كذلك عسيرة بسبب موافقة الإسلام للقبلة الإسرائيلية ردحا من الزمن قضية القتال في الأشهر الحرم التي صحح فيه القرآن النظرة فأثبت أن حرمة الإنسان أولى من حرمة الزمان لأن الزمان مسخر للإنسان وليس الإنسان مسخر للزمان إلخ ..) 4 تحدي التفرق والتجزئة. في هذا المستوى من الهدي النبوي أمثلة رائعة كثيرة منها ما هو في العهد المكي ومنها ما هو في العهد المدني. بلغ حرصه عليه الصلاة والسلام على الوحدة حدودا لا تدانى حتى أنه حرص على عدم تفريق المجتمع العربي الجاهلي في مكة فلم يصنع مجتمعا مسلما موازيا يتميز بلباس أو مأكل أو مشرب أو مظهر أو بقعة من الأرض حتى إضطرت قريش ذاتها إلى حصاره ومن معه حتى إنضمت إليه عائلته من بني هاشم وبذلك كانت قريش هي من فرقت الشمل على أساس ديني وليس محمد عليه الصلاة والسلام وكانت النتيجة أن سعى الحكماء من قريش ذاتها إلى تمزيق الصحيفة التي شرعت حصار الإسلام بعد ما فشل سلاح الحصار.. آثر الهجرة مرات على تفريق شمل قريش ومن حولها من قبائل مستهديا بأخيه موسى عليه السلام الذي أوصى أخاه هارون عليه السلام بعدم تفريق شمل الإسرائيليين في غيبته ( خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ).. رغم أن سبب الفرقة التي كانت لتحدث يومها هو سبب ديني محض إذ أن بعضهم آثر عبادة العجل بينما تحصن بعضهم بالتوحيد.. أما في المدينة فالأمثلة كثيرة وغنية لعل أخصبها دلالة أنه عليه الصلاة والسلام بادر إلى تأديب بني قريظة ليس بسبب يهوديتهم ولكن بسبب نقضهم لميثاق الوحدة الذي وقعوه مختارين معه عليه الصلاة والسلام.. والأمر ذاته مع بني النضير الذين حاولوا إغتياله وإذا أغتيل رئيس الدولة يومها فقد ذهبت الصحيفة الوفاقية الجامعة لشتى الأديان والأعراق وتفرق الشمل وعاد الشرك أو الإستكبار الإسرائيلي إلى المدينة من الباب الواسع.. كما تندرج واقعة الحديبية في الدائرة ذاتها حرصا منه عليه الصلاة والسلام على لم شمل العرب وسكان الجزيرة العربية على أرض أمن وسلام ليحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.. وبمثل ذلك كان فتح مكة ذاتها.. بما يتضح لك أنه عليه الصلاة والسلام لا يفوت أي فرصة مواتية لجمع كلمة العرب على الإسلام فإن أبوا فعلى الأمن والسلام والتعايش الذي لا عدوان فيه من أحد على أحد.. لم يكن ذلك بمحض صدفة ولا عن غير تخطيط ولكن كان عليه الصلاة والسلام يخطط لإرساء قواعد متينة من الحياة الحرة الكريمة حتى يخرج من أصلاب تلك الحياة الحرة الكريمة من يعتنق الإسلام عن رضى وإختيار وإرادة وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك حتى يومنا هذا .. أما الأحاديث الدالة على أن أمر الوحدة والإعتصام والإجتماع من لدن المسلمين أمر عظيم مقدم فإنها لا تكاد تحصى وليس هنا مجال عرضها .. 5 تحدي الثروة الوطنية المهدورة داخليا المنهوبة خارجيا. الثروة في عهده عليه الصلاة والسلام لم تكن كبيرة وكان أكثرها من التجارة في مكة بسبب قيام الإقتصادي المكي على التجارة ( رحلة الشتاء والصيف ) وفي جزء آخر منه على واردات البضاعة والتبادل السلعي بمناسبة سوق عكاظ السنوي العربي الشهير كما كان الإقتصاد في تلك الأيام عائليا محليا قبليا يغلب عليه الطابع الفردي غير المنظم ولا الخاضع لإحصاء لطبيعة الحال الإجتماعية يومها.. فلما إنتقل إلى المدينة تغير الحال قليلا بسبب قيام المدينة على ضرب من الزراعة والفلاحة وما يناسب سهولها وتضاريسها وكذلك بسبب دخول معطى الغنائم والأنفال في إثر الحروب في ذلك الوقت وهو الأمر الذي شدد القرآن الكريم في عدالة توزيعه حتى عد الأخذ منه غلولا وتوعد صاحبه بالعذاب ومعلوم أن الخطاب القرآني مليء بالنص على حق الفئات الضعيفة من مثل اليتامى والفقراء والمساكين حقا محقوقا وليس تطوعا من محسن. وحتى لقاء قابل.