منذ تسمية محمد الصيّاح مديرا على الحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1964.. دخل الحزب طورا فاشيا.. وانعكس ذلك كثيرا على الاتحاد العام لطلبة تونس وعلى حياة الطلبة التونسيين بباريس".. هذا ما ذكره الأستاذ فريد مميش عند جلوسه أمس على منبر الذاكرة الوطنية بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات للحديث عن المناخ الطلابي في باريس في الستينات..
وكان مميش خلال هذه الفترة من بين الطلبة الدساترة الذين اضطلعوا بمسؤوليات قاعدية في هيئات الشعب والتنظيمات الطلابية والهيئة الإدارية للاتحاد العام لطلبة تونس.. وعن الأسباب التي جعلته يعتبر محمد الصياح أدخل الحزب في طور فاشي، قال مميش: "لأنه هو الذي أوجد المليشيات داخل الحزب.. وهو الذي أدخلها لاتحاد الطلبة"..
وأضاف: "لقد نددنا في فرع اتحاد الطلبة بباريس بالعنف الذي كانت تمارسه المليشيات ضد اليساريين وعارضنا ما عرف وقتها بالسواعد المفتولة.. وحاولنا كطلبة دساترة الحد من هذا العنف لكن هناك أمور كانت تتجاوزنا.. لقد اعتبرنا تسمية الصياح مديرا للحزب منعرجا خطيرا وبداية صراع مرير معه إذ شكّل تدخله في شؤون الطلبة صدمة كبيرة لهم وخاصة الطلبة التونسيين بباريس وكان يردد خلال الاجتماعات التي يشرف عليها كلمة "ما فماش مشكلة وسائل الإقناع متوفرة".. وكان يقصد بوسائل الإقناع السواعد المفتولة". وتحدث فريد مميش عن مؤتمر الاتحاد العام لطلبة تونس المنعقد في الكاف في أوت سنة 1963 وتحديدا عن استعدادات طلبة باريس لهذا المؤتمر.. والانتخابات التي انتظمت في ماي من نفس السنة لتحديد من سيمثلهم فيه..
وبين مميش أنّ عدد الطلبة الدساترة في باريس كان وقتها "في حدود 19".. (من بين ألف وخمسمائة طالب) لكنهم "حققوا نصرا كبيرا".. وعن ملابسات هذا النصر كشف أنه بعد اجتماع ساخن ونقاشات حادة.. وبعد أن انتهت عملية التصويت تقرر إرسال صندوق الاقتراع إلى تونس كي تتولى "أياد بريئة فرز الأصوات"..
وفي هذا الصدد لاحظ المؤرخ محمد ضيف الله أنّ: "الطلبة الدستوريين لم يكونوا أغلبية في باريس لذلك خيروا تهريب صندوق الاقتراع إلى تونس.. فتم تنجيحهم للمشاركة في مؤتمر الكاف.. هذا المؤتمر الذي انعقد في أوت 1963 والذي تم فيه تبني ميثاق طالبي جديد نص على ربط اتحاد الطلبة عضويا بالحزب الحاكم".
واستغرب المؤرخ كيف أطنب الأستاذ مميش في الحديث عن الأجواء الديمقراطية التي كانت تسود نقاشات الطلبة في باريس وكيف كان الطلبة الدساترة ينادون بالديمقراطية ولكنهم في نفس الوقت يهرّبون صندوق الاقتراع ويأتون ممارسات تتنافى مع الديمقراطية.
واعتبر المؤرخ أن ما حدث في مؤتمر إتحاد الطلبة بالكاف وقبله الهروب بصندوق الاقتراع من باريس هو تزييف لإرادة الطلبة وتدشين لمرحلة جديدة من تاريخ الاتحاد مرحلة لا يسمع فيها صوت الطالب"..
فترة ذهبية
وصف الأستاذ فريد مميش فترة الطلبة التونسيين بباريس خلال الستينات ب "الذهبية"، وبين أنّ ما "كان يميّز لقاءات هؤلاء الطلبة هو أنها كانت ساخنة جدا تطبعها نقاشات حادة واختلاف في الآراء وتضارب في وجهات النظر، ولكنها كانت في نهاية المطاف بناءة وتتم في كنف الديمقراطية".. وقال :"إنّ ما كان يميّز طالبا عن آخر ليس الانتماء الأسري أو الجهوي وإنما قدرته على مقارعة الحجة بالحجة، وعلى الإقناع وعلى الدفاع عن آرائه وأفكاره"..
وذكر أنّ من أبرز الطلبة الدساترة وقتها عيسى البكوش ومصطفى بن جعفر ومحمد بن أحمد وعبد الحي شويخة.. أما الطلبة اليساريون فكان أبرزهم محمد الشرفي وخميس الشماري وأحمد السماوي وصالح الزغيدي..
ولاحظ أن الطلبة بباريس ناقشوا جميع المسائل الشائكة لعل أهمها حرب فيتنام ودافعوا بشراسة عن فيتنام وعارضوا بمن فيهم الطلبة الدساترة موقف الحكومة والحزب المساند للامبريالية الأمريكية. كما اختلف الطلبة الدساترة مع الحزب حول مسائل فكرية أخرى منها ما يتعلق بتعريف الاشتراكية والاشتراكية التي يجب اختيارها مدافعين عن امتيازات القطاع التعاضدي. وتواصلت الاختلافات في وجهات النظر بين الطلبة والحزب حتى في السبعينات وخاصة عند نقاش قضية الديمقراطية داخل الحزب ودعا الطلبة لأن تكون هذه الديمقراطية كاملة وشاملة تعكسها انتخابات تتم في جميع مستويات هياكل الحزب.