مشاهد من خلق الصادق الأمين ( 2 ) كيف نُربَّى وكيف نربِّي؟ مشاهد من مربي البشرية الأكبر. 1 بينما كان يردف خلفه صلى الله عليه وسلم على ظهر دابته إبن عمه الشاب الفضل إبن العباس حتى إعترضت سبيله إمرأة قال فيها رواة هذا الحديث ( هذا نوع من السنة يسمى السنة العملية إلى جانب السنة القولية والسنة التقريرية فضلا عن الصفة والأرجح أن قوة الحجية بينها إنما تتحدد من خلال أمور منها السياق).. أنها باهرة الجمال. إستوقفته المرأة وظلت تسأله آخذة بخطام دابته أن تعاجلها بالمسير بينما كان الشاب الفضل رديفه يحدق فيها بشهوة وكلما صرف عليه الصلاة والسلام وجهه عنها بيمناه رجع الفضل إليها من الجهة الأخرى وإستمر المشهد على تلك الحال طويلا فما إن يصرف وجه الفضل عن المرأة بيمنى النبي عليه الصلاة والسلام أو يسراه حتى عاد إلى الجهة الأخرى فلا إنزجر الفضل ولا قطع النبي عليه الصلاة والسلام حديثه مع المرأة حتى قضت منها وطرها. وهنا صمت الرواة ولم يضيفوا شيئا بما يعني أنه عليه الصلاة والسلام قصر في تربيته للفضل على ما كان منه وإنتهى المشهد. أبرز العبر من المشهد التربوي النبوي الكريم. أ لو كان النقاب ( وليس الخمار) واجبا لما أقر المرأة في هذا المشهد عليه الصلاة والسلام بل لما أمرنا سبحانه وتعالى بقوله “ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم” ولما نقل إلينا الصحابة أسماء النساء في السنة والسيرة ثم في الخلافة الراشدة إسما بإسم فليحذر الذين يفرضون ما لم يفرضه الله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام ولو سدا للذريعة التي تأباها الأصول لئلا يتورطوا في الكفر بقوله سبحانه ( اليوم أكملت لكم دينكم )أو في أعظم ذنب مطلقا أي القول على الله بغير علم ولك أن تراجع قوله “ ومن أظلم ..“ لتدرك بالإحصاء الثابت أن ذاك هو أعظم ذنب مطلقا فإن قيل لك والشرك؟ قل : الشرك جزء من ذلك الكل وليس العكس.. ب من أول أسس التربية بالنسبة للقادة والمقدمين في المجتمعات خفض جناحهم للناس وتواضعهم لهم وإجابة حاجاتهم. هاهو أكرم الخلق طرا تعترض سبيله إمرأة وتحبسه ما شاءت أن تحبسه لتقضي منها وطره كاملا فلا يملك غير الإجابة. أول الدروس من هذا المشهد هو أن النبي عليه الصلاة والسلام قريب جدا من الناس ولو كان ذلك غير كذلك لما تجرأت المرأة في ذلك الزمان وذلك المكان وهي لما تتخلص بالكلية من كونها سقط متاع تورث وتعضل بمثل ما يورث المتاع وتوأد العجماوات .. لما تجرأت على حبسه وفي السنة والسيرة عشرات من أمثلة ذلك بما ينبؤنا أنه عليه الصلاة والسلام كان في متناول كل من هب ودب لا يحجزه عنهم حاجز ولو كان فظا غليظا لإحتاجت النساء في ذلك الزمان وذلك المكان إلى ألف حيلة وحيلة لمجرد الحديث معه. ج قولك أن فلانة باهرة الجمال أو جميلة أو دميمة (بغير هزء) ليس مما يستحى منه دينا أما عرفا فلا شأن لنا بذلك بسبب إختلاف الأعراف. نقل الصحابة الكرام عن النساء في جمالهن مرات ومرات وذلك بسبب أن المسألة هنا وصفية يقتضيها المقام إذ لو لم ينقل إلينا أن المرأة التي إستوقفته هنا باهرة الجمال لفقد الحديث جزءا كبيرا من دروسه. فضلا عن ذلك قال سبحانه لنبيه ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن).. هل يتورط جاهل لينبئنا هنا أن الله يقول ما لا يقصد وهو الذي علمنا أن مفتاح فقه كتابه اللغة العربية؟ إنما يريد أن يعلمنا أن حسن النساء أمر موضوع لمقاصد كثيرة أكبرها : تدبر جمال خلق الرحمان سبحانه كيف لا وهو الذي وصفه أعرف الناس به بأنه “ جميل يحب الجمال “ ومنها كذلك مقصد الإبتلاء.. يريد أن يعلمنا هنا مشهدا آخر لم يقف عليه أغلب المفسرين إن لم يكونوا كلهم وهو في الحقيقة أسمى مقاصد الكتاب العزيز أي : الفصل بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين أي إتصال مع الألوهية لا من قريب ولا من بعيد بسبب أن رسالة الكتاب العزيز عقدية بالأساس وأن الحملات القرآنية ضد النصارى ودون منهم اليهود الذين إتخذوا عيسى عليه السلام إلها أو شيئا قريبا من ذلك .. حملات ضارية إنما الغرض الأسنى منها تنفيرنا نحن من إعتبار محمد عليه الصلاة والسلام بشرا فوق البشر فيما يعرض للغرائز والشهوات والعواطف والأحاسيس.. ألم تأته المرأة التي قال فيها سبحانه “ وإمرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي “ فقال الصحابة : صعد فيها النظر وصوبه ثم إنصرف.. ألم يقل لجابر عليه الرضوان : فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك.. وسطية الإسلام تقتضي أمرين : الفرار من الإسفاف الجنسي الذي يلجأ إليه الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا بإسم الفن والواقعية وقوعا تحت نيران الشهوات المتبرجة المتمردة المتبطرة وبمثل ذلك عدم الفرار من النساء فرارك من المجدوم عندما تتوفر مناخات الطهر والعفة لئلا تتهيأ أسباب الإغتصاب البشعة التي تفيض بها بعض المجتمعات الخليجية المسماة محافظة.. أنت مأمور بالغض من البصر ولست مأمورا بغض البصر.. إن كنت عربيا تميز بين الأمر المبعض والأمر المشمول.. د كيف عالج الوضع عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن يسعه أن يصرف المرأة بسرعة حتى ينصرف عنها نظر الفضل؟ ألم يكن يسعه أمرها بتغطية وجهها في ذلك الموقف بالذات للغرض ذاته؟ ألم يكن يسعه تأديب الفضل على نحو لا يعيد فيه نظره إليها؟ لم يفعل من ذلك من شيء. لم يا ترى؟ خذ المشهد كاملا غير منقوص. الفضل شاب تفور فيه غرائز الشباب والتعامل مع الغرائز التي لم نخترها لأنفسنا وإنما خلقنا بها وعليها لا يكون بغير التلبية الكريمة ولذلك لم يعنفه عليه الصلاة والسلام ويؤيد ذلك إفتاءه للشيخ تقبيل زوجه في نهار رمضان ومنعه الشاب من ذلك معللا ب” أحفظ لإربه “. أقدار الرحمان هي التي ساقت المرأة الجميلة إلى الفضل ولم يسع إليها الفضل والفرق بين الأمرين كبير. الجمال الأخاذ للمرأة عامل آخر من عوامل التخفيف. ورغم كل ذلك عمد عليه الصلاة والسلام إلى تربيته بأبلغ وسيلة أي العمل وليس القول وهو الأمر الذي تفتقده العملية التربوية اليوم في الأغلب. القول والعمل يتكاملان تربويا وليس أحدهما بأبلغ من الآخر إلا بحسب المشهد والسياق والحاجة إلى هذا أو إلى ذاك. ولكن الأبلغ من القول والعمل تربويا هو : توفير مناخات الطهر والعفاف ولذلك قال بعض الفقهاء بتغريب الزاني المحصن عاما بعد الجلد مائة. إستتباعا لذلك قال الشهيد سيد قطب عليه رحمة الله سبحانه أن أكبر منكر يتصدى له اليوم هو المنكر السياسي لإقامة المناخ الطاهر العفيف أما الخطب الرنانة وتحريك عيدان المنابر فضلا عن الأقلام وغير ذلك في مجتمعات إسلامية حاصرها الطغيان السياسي الذي يفرض عليها منهاجه التغريبي في نشر الفاحشة.. كل ذلك قد يهدي به الله شابا أو أكثر ولكنه لا يصنع المناخ المثال الذي يأوي إليه المهدود.. يجب أن تعير حركات الإصلاح الإسلامية اليوم فرادى وجماعات وهيئات على ذلك الأساس أي على الأساس المنهجي وليس على الأساس الكمي.. ه ليس معنى ذلك كله أن الغض من البصر ( وليس غض البصر) ليس منكرا. أبدا والله. ولكن رغم ذلك يبقى الغض من البصر وسيلة إنما حرمت لإفضائها في العادة إلى الفاحشة المغلظة الكبرى التي رتب عليها سبحانه حدا في الدنيا. الحرام في الإسلام ليس درجة واحدة بل درجات أهمها : الحرام لذاته وهو الأغلظ ورغم ذلك فإن الحرام لذاته يجوز للضرورة التي تقدر بقدرها وغير ذلك من ضوابط الضرورة المعروفة ( إرجع إلى كتاب الدكتور البوطي مثلا في الموضوع ).. والحرام لغيره وهو الأقل تغليظا بل هو المباح في الأصل أو المكروه كراهة تحريم أو تنزيه بتعبير الأحناف وإنما حرم لإفضائه في العادة إلى المفسدة حتى لو كان ذلك ظنا راجحا والحرام لغيره يجوز للحاجة التي هي أدنى من الضرورة ولكن الحاجة تنزل منزلة الضرورة .. بل إن المكروهات تسقط لأدنى حاجة.. أرأيت كيف أن الفقه في الشريعة خريطة متشابكة معقدة الشرايين بمثل خريطة مفصلة لبلد من البلدان لا تستوي طرقاتها وإشارات دروبها فكلما إجتمع الناس كثرت المحاذير وإنتصبت العلامات وكلما تفرقوا قل ذلك.. بمثل ذلك بالضبط والتحديد تكون الشريعة أو قل بالأحرى فقهها لأن الشريعة أصل ثابت والفقه إجتهاد بشري فيها.. العبرة من ذلك كله. 1 إلزم نفسك بالمنهاج النبوي الأرشد شريعة وفقها كلما توفر لك ذلك وليس بقول فلان أو إجتهاد علان لأنك ملزم بإتباع المعصوم وليس بإتباع غيره إلا فيما يعرفه أهل النظر.. 2 التربية أمر جامع ولكم يخطئ من يمزقها شذر مذر ليظن أنها تربية روحية ولكنها ليست فكرية أو سياسية أو جهادية أو بدنية.. التربية بعد ذلك كله لها أصول وضوابط ومنهاج ولكن ذلك فيها قليل مبسوط في مظانه من القرآن والسنة ولكن تركت مساحاتها الأخرى للإجتهاد لأن التربية أمر لصيق بالواقع فالسياق هو الذي يأخذ من تلك الأصول ما يناسبه. 3 متى تستخدم الرفق ومتى تستخدم العنف؟ ذلك هو الفقه كله. ذلك هو الفقه التربوي كله.المعيار في ذلك هو حسن قراءة المخالف أو العاصي وحسن قراءة الدافع وحسن قراءة كل زوايا المشهد من كل جوانبه وحسن قراءة المعصية ودرجتها وأثرها وغير ذلك .. ليس في التربية الإسلامية علاج قار ثابت لكل معصية ولكل زمان ومكان ومخالف.. عندئذ نغتال أنفسنا بعضل عقولنا عن فريضة الإجتهاد.. والله أعلم. وحتى مشهد تال من مشاهد خلق الصادق الأمين. الهادي بريك ألمانيا