سلام عليك وأنت تتناسلين باستمرار كما الأمطار والرياح وأشعة الشمس ، وكتعاقب الليل والنهار ... أيتها المقاهي التي تتنافس في إغواء واستقطاب واحتواء ولفت انتباه العابرين كنساء الإشهار الجميلات الفاتنات لحظات التصوير فقط ... ، سلام عليك وأنت تتزينين بكل المساحيق ، وبشتى أنواع الملابس من أجل إثارة إعجاب الشيوخ المتصابين ، والكهول المراهقين ، والشباب النَّزِقِينَ على السواء ... كفتيات الليل تماما ... أيتها المقاهي الحاضرة أبدا في كل زقاق ، وفي كل شارع ... وفي كل حي ، وفي كل حارة هلا تحدثت إِلَيَّ قليلا ... كيف انتشرت بهذا الشكل المهول الخطير ؟ وكيف أقنعت كل روادك بالمكوث فيك لساعات طويلة طويلة لا تكاد تنتهي ؟ ما الذي يفعلونه في أحضانك طوال هذه الأوقات ؟ عم يتحدثون ؟ وكيف يحتسون فُنَيْجِينَ القهوة وهم يتبادلون نظرات بلا عد وكلمات بلا حصر ؟ وَلِمَ تتكرر الوجوه نفسها على المقاعد نفسها كل يوم ؟ عندما يمر عبر الشارع هو الذي لم يستسغ في يوم من الأيام جلسة المقهى ، يشعر بنفس الأصابع تترصد به تُتَابِعُ خُطْواتِهِ ، يشعر بنفس الشفاه تنسج حوله الحكايات والقصص ، وبنفس الكاميرات تلتقط له صورا بلا عد ولا حصر ، يستمر في المشي ، لا يعبأ بكل ذلك لأنه اكتسب مناعة ضد كل تلك المضايقات ... ولكنه يتساءل بمرارة في قرارة نفسه ، ألا يتعلق الأمر بمؤامرة دبرت بليل ؟! هذه المقاهي التي تنتشر كالخلايا السرطانية في جسم مدينته ، أليست من تدبير مدبر ماكر ؟! لماذا تتزايد أعدادها باستمرار ؟! رب قائل يقول إنها ظاهرة عالمية ، والدليل على ذلك أن المدن الأوربية والأميركية تعرف نفس الظاهرة ، فلماذا تضخم الأحزان ؟ وتريد أن تثير الغبار بدون سبب ؟ أقول هذا حق أريد به باطل ، لأن عدد المقاهي هناك يزداد بموازاة مع ازدياد عدد المعامل والمصانع والمدارس والجامعات ومراكز البحوث والمكتبات والأندية الرياضية ومعاهد التكوين المختلفة ... أما هنا فما الذي يوازي انتشار المقاهي غير انتشار الرذائل والموبقات ، والبطالة والضياع ؟ ! أصبحت جلسة المقهى جزءا لا يتجزأ من البرنامج اليومي لأغلب الناس ، بل أصبحت ضرورة من الضرورات التي لا غنى عنها ، ولا سبيل للتنازل عنها أو استبدالها ، بل لا شك في أنها أصبحت موضة اجتماعية ، والدليل على ذلك هذا التنافس المحموم المنقطع النظير بين أرباب المقاهي في توفير وسائل الراحة والاستقطاب ، فهذا المقهى يتميز بكراسيه الوثيرة ، والآخر بشاشة تلفازه الكبيرة المثيرة الجذابة ... بل ما يثير الانتباه فعلا هو إدخال العنصر النسوي في حلبة المنافسة ، أذكر أن مهنة " نادل " كانت حكرا على الرجال فقط ، ولكن إمعانا في التنافس وفي كسب أكبر عدد من الرواد الزبناء وقع التنافس بتوظيف بنات حواء ، كان الأمر في البداية _ ككل بداية _ غريبا ومثيرا للغاية ، تبادل الناس الهمسات والنظرات ، وبعد حين أصبح الأمر عاديا جدا ، توزع النادلة الابتسامات على كل الزبناء ، لكل شيء ثمن ، ولا بأس ... " العمل شرف " !!! ... ويستمر مسلسل التطبيع مع " الحرام " ... " النادلة " / الأنثى أفضل بكثير من " النادل " / الذكر ، فهي علاوة على قدرتها الساحرة على جلب أكبر عدد ممكن من الزبناء ، تقنع بأجرة رب المقهى مهما كانت هزيلة وتافهة ... ربما ... لأنها ... ربما ... " إن بعد الظن إثم " ... و " كاد الفقر أن يكون كفرا " ... وما يثير الانتباه فعلا هو التسمية الجديدة التي أصبحت متداولة على كافة الألسن " مقاهي الأنترنيت " ، الأكيد أن الأمر يتعلق باستعارة جديدة أفرزتها موجات العولمة العاتية الغازية ، لأن كلمة " مقهى " لغويا اسم لمكان احتساء القهوة ، و " مقاهى الأنترنيت " كما نعلم عبارة عن فضاءات تتوفر فيها أجهزة كمبيوتر مرتبطة بشبكة الأنترنيت ، وهي فضاءات تعرف إقبالا كبيرا بحيث لا تخلو من روادها ليلا ونهارا ، مما يفرض دق ناقوس الخطر فعلا ، لأن الأمر يمس كل مؤسسات المجتمع بدءا بمؤسسة الأسرة التي تعتبر أول المتأثرين بهذا الهوس التكنولوجي الذي شد إليه الشرائح العريضة من الشباب ، وليس انتهاء بمؤسسة المدرسة التي تعكس أزمتها الأزمة الخانقة التي يعيشها المجتمع على جميع المستويات ... لقد آن الأوان لفتح نقاش جدي وهادف بين كل الفضلاء المثقفين والفاعلين الجمعويين ورجال الدعوة و التربية عن" ظاهرة المقاهي " ، التي أصبحت معطى اجتماعيا لا يمكن تجاوزه بأي شكل من الأشكال ، لماذا لا نفكر في أشكال حضارية لتحويلها إلى فضاءات للتواصل الإيجابي و المفيد والبناء ؟! لماذا لا نتحايل على هذا الزمن المغربي الرديء الذي همش الكتاب ورمى به في سلة المهملات ، فنحول مقاهينا إلى مكتبات بمواصفات جديدة !! أو إلى مقرات لندوات فكرية وعلمية بأشكال مغايرة !! أو إلى مسارح في حلل أخر !! أو إلى فرص للوعظ والإرشاد وللتذكير بحقيقة هذه الحياة الدنيا ، أو لاستشعار معاني الآذان الذي يتردد خمس مرات في اليوم والليلة داعيا كل المسلمين بلا استثناء " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " !! هي أفكار ليست جديدة بالتأكيد ، فقد شاع الحديث في بعض الدول عن " المقاهي الأدبية " ، و" مسارح المقاهي " ... لماذا لا نقلدهم في هذا التقاليد الثقافية أيضا ؟! أم أننا لا نتقن إلا التقليد الأعمى في الأمور السلبية القاتلة ...بحيث " أخذنا من أوربا ليلها ولم نأخذ نهارها " كما قال الشيخ كشك رحمة الله عليه ... للأسف الشديد هذه هي الحقيقة ... هذه مجرد اقتراحات لعلها تجد آذانا صاغية ...