من المتعارف عليه أن الانسان لا يتلقى ما يحدث أمامه في موضوعية مطلقة سلبية , أي أنه لا يكتفي بالرصد والتسجيل فقط... بل يتناول ويرصد ما يعرض أمامه سواء داخل حركة المجتمع أو ما تعرضه وسائل الاعلام بمختلف أنواعها ووسائلها عن طريق العقل أو ما يسميه بعض علماء الاجتماع العقل التوليدي الذي يبقي ويستبعد : يضخم هذا الحدث ويهمش غيره ويحذف هذا ويضيف آخر ...وكل ذلك يجري بحسب نموذج إدراكي يشكل مرجعيته وهويته ...الاشكال يتمثل هنا في ما يطرأ على هذه المرجعية أو النموذج الادراكي من تشوهات أو بصفة عامة من مسخ للهوية . تشوه أو مسخ يلعب الاعلام فيه دورا رئيسيا, اذ يخترق بمنظومته وترسانته الهائلة (عالم الطرب و الغناء والمسلسلات, بالخصوص ...) الانسان في كل ابعاده .. مقالتي هذه ستكون بمثابة إضافة او إثراء لما كتبه الشيخ الهادي بريك عن الفاحشة في تونس ...والتي سأحاول أن أبين فيها ان ما ذكره الاخ لا يعدوا ان يكون نقطة في بحر وان عدد مشاهدي تلك النماذج لا يتعدى العشرات وفيهم والحمد لله من احتج على صنيع هؤلاء ..وأكيد من بين هؤلاء الحاضرين نسبة لا بأس بها ممن لا يزالون بصورة نسبية طبعا محافظين على مرجعيتهم الاسلامية ...وحتى سفيان شو وغيره ... أتظنون أن هناك الكثير ممن يشاهد ذلك ؟؟ تأكدوا ان العدد الاكبر من المتابعين لقناة 7 هم من متابعي المسلسلات التركية ...التي أرى ولا أعد نفسي مبالغة في ذلك انها تلعب دور السوس في الخشب ...دور السوس الذي عادة ما يكون أثره على الامد البعيد ولا يحدث التفطن اليه الا بعد فوات الاوان . يتابع التونسي والمشاهد العربي بصفة عامة هذه المسلسلات بصفة عفوية بل يذهب بعضهم للقول: انها على الاقل مسلسلات تأتينا من بلد مسلم , وها هي قد اراحتنا من تلك البرازيلية . للاسف الامر ليس كذلك , اذ أصبحت هذه المسلسلات اضافة الى مستواها التافه والهابط (, سأتناول ذلك ومدى تأثيره على نسيج المجتمع ..وأنها أخطر بكثير, على المدى البعيد , من تأثير شخص قال انه كافر بالله على خشبة المسرح , مكان ليس لعموم الناس كحال الفضائيات التي غزت حتى بيوت أفقر الناس ...) أصبحت تأكل وتفني وقت الشباب عبر الجلوس لساعات أمام التلفاز , أقول ساعات في اليوم لانه يتنقل من فضائية الى أخرى حسب مواعيد وأوقات هذه المسلسلات , حتى ولو كانت في آخر الليل , ختى وان كان ذلك على حساب مشاغله وعمله ودراسته وحتى صلاته ( هذا ان كان يصلي أصلا ).. ولك ان تنزل الى شوارع احدى المدن الكبرى او حتى الصغرى, في الوقت المحدد لهذا المسلسل او ذاك ( في قناة سبعة وغيرها من الفضائيات العربية خاصة الممولة من لبنان أو السعودية) وستلاحظ قلة الحركة فيها خاصة من صنف النساء ...ستلاحظ حتى السكون والهدوء وأنت تمر أمام المنازل ...حدثني أحدهم من المهتمين والمتألمين من هذا الوضع ممن يعيش في تونس أنه لاحظ انه في بعض الاحياء ان هناك بعض التجار يغلقون محلاتهم عندما يحين وقت هذا المسلسل أو ذاك. وفيهم من استحضر تلفازا صغيرا داخل محله . من أجل مشاهدة هذه المسلسلات المسخ ..بل رصد هذا الشخص كثرة النقاشات حولها في الشوارع والمحلات والمقاهي بالخصوص ... قليل من العسل وكثير من السم , هذا الذي تزودنا به تركيا . تركيا البلد المسلم والجار والشقيق , تركيا الماضي : دولة الخلافة بفترات ازدهارها وانحطاطها , بقوتها حينا وضعفها حينا آخر , بكمالها ونقصانها ...تركيا الحاضر : اردوغان ومواقفه المشرفة ...التي كانت لنا كالبلسم في زمن شح فيه الدواء ...فصرنا نتعلق ونستبشر بموقف هنا أو هناك ...في ثنايا ذلك , منطقة مظلمة سوداء ارى من الملح التفطن اليها والى خطورتها على أجيالنا ...انها هذه المسلسلات التركية المدبلجة التي اصبحت تغزوا فضائياتنا العربية بشكل لم يسبق له مثيل من حيث عددها وكثافتها ونوعية المادة التي تعرض للجمهور العربي المسلم .... ظل المشاهد العربي لأكثر من عقد ونصف من الزمن يسبح في بحر عميق وخطير هو المسلسلات البرازيلية , التي كانت تبثها تقريبا وبدون استثناء القنوات العربية والرسمية منها بالخصوص , ها هي اليوم تطل علينا المسلسلات التركية المدبلجة ,أراها أكثر خطورة من الاولى , أكثر خطورة لانها تبث نموذجا للمسلم الذي أفرغ من محتواه : بامكانك أن تكون مسلما وأنت شارب للخمرة و أن تكوني مسلمة شبه عارية وسلوكيات لا تمت بصلة للاسلام هذا اولا ( أغلب المسلسلات التركية عناوينها باسماء نساء : نور ' علياء ' لمياء, عاصي ...لتصدر لنا النموذج الذي يجب أن تكون عليه المرأة المتقدمة , هؤلاء نساء مسلمات , بامكانك ايتها المرأة العربية أن تفعلي مثلهم وفي نفس الوقت تحافظين على اسمك : مسلمة بدون جوهر ...) ...ثم ثانيا هي مسلسلات تحاول بالنيابة عن الغرب علمنة النموذج الاجتماعي الغربي داخل مجتمعاتنا المسلمة لتقويضها من الداخل وبصورة بطيئة , وهي تستهدف بالاساس الاسرة التي هي أهم نواة داخل المجتمع والتي باستقرارها يستقر المجتمع ...عبر اجتثاث الانسان من واقعه وتحويله الى الانسان الشيء الذي لا يعرف الحدود أو الهوية أو المرجعية الاخلاقية ....فهي مسلسلات تعرض نموذجا من الحياة الاجتماعية الخالية من أي خصوصية ثقافية , حياة ممسوخة : بدون مرجعية قيمية وبدون هوية ... وأنا هنا أوجه ندائي الى علماء الامة وعلى رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي أن يتدخلوا لاقناع مالكي الفضائيات التي تبث هذه السموم ليكفوا عن بث ذلك ويتقوا الله في شعوب الامة وشبابها بالخصوص ...الذي أصبح عقله في أذنيه وعيونه من جراء تأثير تلك المسلسلات وما تبثه من مغريات ...فأصبح يكرر ما يقال ويعيد انتاج المشاهد وتقليدها عبر سلوكه الاجتماعي , لقد غزت الحياة اليومية للانسان العربي, وحياته الخاصة أو الاسرية بوجه التحديد : كثرة نسب الطلاق والشجار بين الازواج , عزوف الشباب عن الزواج ,اذ يجد هذا الاخير نفسه في صراع بين واقع مرير يعيشه , يحاول الهروب منه ووضعية ( في أغلب الاحيان غير واع بها ) أفرزها ما تعرض له من اختراق من طرف ما تبثه هذه المسلسلات من أحلام وأوهام ورغبات لا يدرك تضميناتها الاجتماعية والاخلاقية رغم انها وفي غالب الاحيان تحدد أولوياته وتوجهاته في الحياة دون وعي منه . فيتحول الى انسان فاقد لهويته , فاقد لدوره في المجتمع والانسان الذي لا هوية له لا يمكنه ان يبدع , لان الفرد لا يبدع الا اذا نظر للعالم بمنظاره ومرجعيته الخاصة به وليس بنموذج غيره المرتبط بزمان ومكان وقيمة مختلفة عما لديه ... انها مسلسلات , ايها العلماء والمشايخ , تضرب في الصميم ثوابتنا الاسلامية عن طريق محاولة زرع نموذج من الحياة منفصل عن القيمة والمرجعية الاخلاقية الاسلامية .الهدف من ذلك هو محاولة عولمة فكرة خطيرة وهي نسبية القيم , أو خال من القيم تماما ...حتى تصبح كل الامور متساوية ومن ثم تصبح كلها نسبية . وفي حال تحقيق ذلك في مجتمع ما فأنه يصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين الحق والباطل والعدل والظلم و ما يعد من الفاحشة وما يعد من الاخلاق والجوهري والنسبي ...فلا قيم مطلقة اذا , وهذه الاخيرة ( القيم المطلقة ) هي التي عادة ما نحتكم اليها في كل الصراعات والنزاعات ...ما الحل اذا أو ما مقياس العدالة والاخلاق والحق عندما يصبح كل شيء نسبي وكل شيء مجرد رأي ؟؟ في أمان الله مريم حمدي