ان من اهم سمات النظام العالمي الجديد الهجوم على الهويات بصورة مبرمجة ومدروسة , الهدف من ذلك تعبيد الطريق أمام خطط الهيمنة على ثروات ومقدرات الشعوب المستضعفة . يعد الهجوم على الهوية الاسلامية هو احدى اهم بنود هذا المخطط الاستعماري...فان كانت حرب الطائرات والدبابات والقنابل العنقودية والفسفور الابيض هي السمة البارزة أو الصورة المباشرة التي لا تفارق شاشاتنا , وكل مشاهد الدمار والخراب والاجرام والقتل الممنهج الممتدة من فلسطين , مرورا بالعراق وباكستان ,وصولا الى افغانستان ..شعارها المعلن القضاء على الارهاب و تجفيف منابعه ....فأن حربا صامتة تدور رحاها في مواقع لا تدركها العين المجردة ..شعارها تجفيف منابع ثقافتنا وحضارتنا ....حرب أثرها أشد فتكا على مستقبل الامة وبنائها الحضاري من أثر القنابل والفسفور الابيض وغيره , لانها تقتحم وبشكل خفي مغاليق الابواب والنوافذ ... وهي سم تم بصورة ذكية ومدروسة ادخال متغيرات على تركيبته فصرنا نلتهمه ونستلذه على انه عسل : سم بطعم العسل ... ما الهوية ؟؟ وما الدافع لاستهدافها ؟؟ ولماذا الهوية الاسلامية بالذات هي المستهدفة قبل غيرها ..؟؟ ان الهوية تمثل المرجعية العليا أو العقل الجمعي لاي كيان أو أي جماعة وهي مجموعة الخصائص والصفات التي تميز هذا الكيان , من خلالها يحدد ذاته ويعطي لحياته معنى وغاية . لذلك لا بد لكل مجتمع من هوية يتبناها ويعتز بها وينتصر لها ...عادة ما تتشكل الهوية عبر مئات السنين من خلال نوع من التفاعل مع ما حولنا , ومن خلال تطلعاتنا ورؤانا وهي ليست انعكاسا بسيطا لبيئتنا بل تتشكل عبر ''نموذج ادراكي'' ينطلق من مرجعية تمتلك رؤية شاملة للكون ... كلمة الهوية يدور حولها كثير من الجدل , جدل حول مفهومها ...هل الهوية أمر مطلق أم نسبي ؟ ماهي حدود الهوية ؟ هل هي جغرافية أم أثنية أم ثقافية ( أقصد المعنى الاثني للثقافة ) ؟ ثم ماهي العلاقة بين الخصوصية الثقافية والمشترك الانساني ؟ هل هناك صراع أم تدافع بين الهويات ؟؟؟. ان مفهوم الهوية انطلاقا من مرجعيتنا الاسلامية , فيه من الحكمة ومراعاة الطبيعة البشرية ما لم يتوصل اليه أي عالم اجتماع أو انثروبولوجيا في العصر الحديث , لسبب بسيط ان أسس هذا المفهوم رسم حدودها الخالق عز وجل . رسم لها حدود الثبات وفي نفس الوقت رسم لها مجالا من النسبية تتحول فيه وتتجدد انطلاقا من عدة مؤثرات خارجية وداخلية , تحول أو تجدد تتطلبه ضرورات المرحلة ....لكل ظاهرة في الكون ثوابت ومتغيرات , وهوية الانسان هي كالبصمة التي تميزه عن غيره , هي الثوابت التي تتجدد دون أن تتغير لتدع المجال لغيرها أو لنقيضها ,لان في ذلك ( التغير )اندثار وذوبان لها وانصهار في مجالات غيرها , فتغيب ملامحها وبصماتها ... يمكن أن نقول أن هناك نوعا من التجاذب أو التدافع داخل المنظومة الفكرية المكونة للهوية بين معطياتها الثابتة والمتغيرة . وهذا التدافع هو ظاهرة صحية اذا ما تم داخل المنظومة ودون تدخل لعناصر خارجية , أو دون زرع لفيروسات لاستهدافه من الداخل واعاقة تجدده الطبيعي والصحي خدمة لمشاريع الهيمنة ... ذلك ان ضرورة تجديد العناصر الثابتة من حيث وظيفتها داخل المجتمع أو لنقل حوار النص مع الواقع هي من الامور الملحة للقضاء على ما يصيب المجتمع من جمود وسكون , يكون عادة سببا في تقلص مردوده وعطائه داخل حركة الكون بأسره. اذ ان الدين ليس نصا وأحكاما الاهية فحسب بل هو تنزيل بشري وجب ان يخضع لسنة التجدد كما أكدت على ذلك السنة النبوية وأكد ذلك القرآن في مسألة الكسب :تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون . لقد وعى الغرب البعد الفلسفي للهوية الاسلامية ودورها الجذاب في استمالة الشعوب عبر عالمية أساسها الرحمة ببني البشر والاخوة الشاملة : أخ في الدين وأخ في الخلقة والمشترك الانساني ...عالمية مناقضة في جوهرها للعولمة التي تعني هيمنة القطب الواحد : النموذج الغربي ونزوعه لاحتواء العالم عبر ارادة فرض قيمه بقوة السلاح حينا والتهديد والابتزاز حينا آخر , فرض قيمه الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتربوية , الهدف هو القضاء او على الاقل الاختراق والتشويه واعادة صياغة الخصوصيات الثقافية والحضارية لبلاد المسلمين ...أدرك الغرب وسطية الاسلام وعالميته التي تقبل التعايش مع الآخر دون أن تدمر أو تلغي خصوصيته وتمايزه , عالمية مقرونة بالحرية والاختيار ( لا اكراه في الدين ) ...أدرك دور الهوية والقيم والمعايير الاسلامية في البناء الصلب للحضارة الاسلامية , وأهميتها في الوقوف كسد منيع أمام أي تيار تغريبي يحاول أن يقزم دورها في حماية الامة من الاستعمار بأشكاله المختلفة ..كل ذلك يعد مصداقا للآية الكريمة : وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة 109.انطلاقا من ذلك أدرك أهمية الحرب الثقافية في زعزعة ذاك البناء , أهمية دورها في تجويف الامة من الداخل : اعادة صاغة القيم واعادة تشكيل الوعي . لقد تفطن الغرب أن عملية اختراق الاسلام واجتثاثه من الجذور , وفرض النموذج الغربي بصورة كلية وحرفية على المسلمين عمل عبثي لا يفضي الى النتائج المرجوة ... وهذا ما اثبتته دراسة بريطانية في أوائل التسعينات لعالم اجتماع بارز وهو ادوارد مورتيمر عن الاسلام والمسيحية , ودراسة ثانية لعالم الانثروبولوجيا ارنست جيلنر عن الاسلام والماركسية . ما خلص اليه الباحثان هو أن الاسلام يعد الحضارة الوحيدة التي مثلت تحديا فعليا أمام انتشار النموذج الغربي . فهي تظل (الحضارة الاسلامية ) تمثل حصن ممانعة وتحد حقيقي للعلمانية الغربية , رغم ما اعترى هذه الحضارة من هزات واعتداءات وحروب وسلب ونهب ممنهج بغية القضاء عليها كلية وذلك عبر مختلف مراحلها التاريخية ..فالاسلام في نظر هؤلاء عصي على العلمنة وذلك لرسوخ الاسلام في النسيج الاجتماعي . عبر عن هذا ارنست جيلنر في نفس الدراسة حين قال : أن النظرية الاجتماعية التي تقول ان المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يقوض الايمان الديني مقولة العلمنة صالحة على العموم ' لكن عالم الاسلام استثناء مدهش وتام جدا من هذا , انه لم تتم أي علمنة في عالم الاسلام . ان سيطرة الاسلام على المؤمنين قوية , وهي أقوى من مائة سنة مضت , ان الاسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين ...والاصلاح الذاتي , استجابة لدواعي الحداثة في عالم الاسلام يمكن ان يتم باسم الايمان المحلي . هذه الدراسة وغيرها من المعطيات أججت العداء للاسلام ونمط عيشه ونموذجه الفكري , جعلت الغرب يبحث عن أساليب تتلاءم مع حجم التحدي : تفطنوا الى أن الاسلام متغلغل في النسيج الاجتماعي باعتباره منهاجا شاملا لكل مناحي الحياة وليس مجرد نزعة لذلك انهمكوا في التفكير حول خطط تساهم في فك الارتباط بين الاسلام العقيدة والاسلام التشريع أو الثقافة والهوية الاسلامية وكل القيم والمعايير التي نتخذها كمقياس ومعيار لتسيير حياتنا والحكم بها على صحة أو فساد أعمالنا ... فقد حققوا نجاحات في تجريدنا من سلاحنا الحربي كما نجحوا في استغلالنا اقتصاديا عن طريق نهب ثرواتنا وتكبيل ارادتنا السياسية ...المطلوب اليوم تجريدنا وسلخنا عن هويتنا , تجفيف منابع ديننا لانه الشوكة التي جعلت امتنا تستعصي على الالحاق والذوبان بل يطمحون الى اقتلاعه من الجذور ومحوه من الخارطة ...انها حرب خفية تتعدد جبهاتها ومواقعها وتتنوع وسائلها ...وسائل وأساليب تفنن الغرب في بلورتها وتكييفها حسب الزمان والمكان . وحسب متطلبات المرحلة وحسب المتاح ... اعتمدت هذه الأساليب بالاساس على وسائل الاعلام بمختلف فروعها وتقنياتها ... في أمان الله