قضية فلسطين اليوم وغزة الصامدة بحصارها بصفة خاصة تصنع الحدث الدولي وهي مادة إعلامه في شرق الأرض وغربها على إمتداد السنوات الطويلة المنصرمة. معنى ذلك أن القضية حية ولن تزال حية. غير أن الذين يصنعون حياة القضية ليسوا هم العرب ولا حتى المسلمين ولكنهم أطفال الحجارة الذين ولدوا عام 1987 في حجر رجل مقعد دوخ الصهاينة والأمريكان ومعهم منافقي العرب ممن يسمون معتدلين.. أطفال الحجارة وهم اليوم جنرالات الإباء والصمود والمقاومة والشموخ.. أطفال الحجارة أولئك الذين لم تكن تأبه بهم الجيوش العربية التي تمسك الثكنات العتيقة أن تتهاوى .. أطفال الحجارة هم الذين فرضوا قضيتهم على العالم كله وإعلامه كله بفضل منه وحده سبحانه ولا نامت أعين الجبناء كما قال سلفهم خالد إبن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.. ذلك هو المأمول دوما من مقاومة تطلب الموت تحريرا لبلادها من الإحتلال.. ومن طلب الموت في سبيل الله سبحانه وهبت له الحياة .. سنة مسنونة وقانون حاكم وناموس مطرد لا يتخلف.. إسرائيل لأول مرة في مأزق حقيقي. نجح الغرب بقيادة أروبا في غرس السرطان الصهيوني في قلب أمتنا في إثر مؤتمر بازل عام 1897. نجح نجاحا باهرا بسبب أنه نفذ خطته تنفيذا دقيقا إذ وعد الإسرائيليين عامها بوطن قومي لهم في فلسطين بعد نصف قرن بالتحديد فكان ذلك عام 1948. غير أن ذلك النجاح ليس لعبقرية غربية ولا مهارة أروبية ولكن لقانون إجتماعي غفلنا عنه كثيرا : „ قل هو من عند أنفسكم “. ما كان من عند أنفسنا يومها كان يتمثل في تداعي الخلافة العثمانية إلى السقوط لذات السبب الذي سقطت به الإندلس عام 1492 أي : الخلود إلى الدعة والسكينة فرارا من “ جحيم” الجهاد وتكاليفه الباهظة. كان الإختراق الغربي الأروبي الصهيوني إذن مفهوم جدا. ولكن الأشد منه فهما أن الأمة محصنة بجهاز دفاعي ذاتي إسمه : النفير إلى المقاومة. كلما ظن الناس أن الأمة ماتت وآن أوان دفنها تحرك ذلك الجهاز الدفاعي الذاتي في إتجاه المقاومة وها هي المقاومة اليوم بعد نصف قرن ونيف من تحقق الوعد الصهيوني تتأهل لمرحلة جديدة.
1979 : تعرضت إسرائيل لخسارة أكبر حلفائها في المنطقة أي شاه إيران. 1987 : تأسس حركة حماس الفلسطينية التي ستكون أكبر شوكة في الخاصرة الصهيونية. 2000 : طرد إسرائيل من لبنان لأول مرة بعد مقاومة عنيدة من حزب الله اللبناني المؤسس عام 1983 في إثر خروج من قياداته من حركة أمل المعروفة ( نبيه بري). 2006 : إنتصار باهر آخر لحزب الله اللبناني ( المعروفة بحرب تموز). 2010 : تتعرض إسرائيل لخسارة أكبر حليف بعد إيران الشاهنشاهية أي تركيا أوردوغان.
خسارات سياسية بالجملة لأول مرة. 1 موريطانيا تقطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني قبل سنوات قليلة منصرمة. 2 نيكاراغو : تقطع علاقاتها مع الكيان المحتل. في 2010. 3 الإكوادور وجنوب إفريقيا : سحب سفيريهما من فلسطينالمحتلة.2010. 4 عمال موانئ السويد يقاطعون سفن الشحن الإسرائيلية لمدة أسبوع كامل في إثر فضيحة الصهيونية ضد أسطول الحرية. 5 عميدة صحفيي البيت الأبيض ( هيلين توماس 89 عاما) أجبرت على الإستقالة من منصبها الذي تشغله منذ أزيد من ثلاثة عقود كاملة بسبب تصريحها في إثر العدوان على أسطول الحرية بقولها : „ على الإسرائيليين أن يعودوا من حيث أتوا.. عليهم أن يعودوا إلى ألمانيا وبولندا “.
مرحلة جديدة واعدة من المقاومة.
1 أثبتت الأيام بالرغم من الخنوع العربي البخس أن سبيل المقاومة هو السبيل الذي يردع إسرائيل أو يوقعها في وحل الهزيمة السياسية لحلفائها واحدا من بعد الآخر ومن بعد ذلك تكون عبئا ثقيلا عليهم. لم يكن إختناق إسرائيل بمثل ما نشهد في هذه الأيام ثمرة مهزلة السلام والمفاوضات العبثية ولكن ثمرة ناضجة طيبة للمقاومة من جانب وللصبر على الحصار من جانب آخر. ليس هينا أبدا في الميزان الدولي ومصائر المقاومة أن تكتسب أية قضية مقاومة عدالتها دوليا وهو ما تمثل في محاولات إختراق الحصار أروبيا وقوافل ذلك الإختراق تترى كلما وصلت قافلة أعقبتها قافلة.
2 أثبتت الأيام أن التطبيع والخنوع من الجانبين المصري ( إسطبل داوود عام 1978) والأردني ( وادي عربة عام 1994 ) لم يصمدا في وجه المقاومة من الجانبين اللبناني أي حزب الله والفلسطيني ( حماس وبقية الفصائل الفلسطينية في الداخل).أثبتت الأيام أن الأمة أقوى من الدولة العربية وأن المقاومة أقوى من الخيانة وأن الصبر أقوى من الطيش والحمق والعجلة.
3 أثبتت الأيام أن التعاون العربي السافل مع الجهاز الصهيوني الأمريكي لعزل إيران هو طريق مسدود. إذا كان ذلك بدافع الحمية العربية الجاهلية ضد الفرس فهاهي تركيا الأعجمية تلتحق بركب المقاومة من بابه الواسع وإذا كان ذلك بدافع الحمية السنية ضد الشيعة فهاهم الشيعة ينصرون قضيتنا المركزية العظمى بينما نخذلها نحن أهل السنة.
4 أثبتت الأيام أن النووي الإسرائيلي أخطر علينا ألف ألف مرة من النووي الإيراني. أثبتت الأيام أنه كلما ضاق الخناق على النووي الإسرائيلي تجند “ العالم الحر “ بمؤسساته التي تحتلها أمريكا من مثل مجلس الأمن ( أكبر خنجر مغروس في خاصرتينا بإسم حق النقض والشرعية الدولية) إلى الإلتفات نحو إيران وملفها النووي وهو اليوم يتبرج ويعربد بإتخاذ أقسى عقوبات دولية ضد إيران في الوقت الذي يأمل فيه الناس أن تحاكم إسرائيل على عدوانها ضد قافلة أسطول الحرية فضلا عن محرقة غزة قبل زهاء عامين أو عن جريمة صبرا وشاتيلا ومجزرة قانا وغير ذلك مما هو مدون في سجل التاريخ المحفوظ.
5 أثبتت الأيام أن الإدارة الأمريكية يحكمها اللوبي الصهيوني بقبضة من حديد وهو الذي يأتي بذنب فج غليظ من مثل السفاح بوش حين يكون ذلك صالحا وفي حين آخر يأتي بذنب مثله لا يختلف عنه سوى في حلاوة اللسان أما مرارة السياسة في قضايانا العربية والإسلامية فهي هي. أثبتت الأيام صحة القالة العربية : ما حك جلدك غير ظفرك فتول أمرك أنت بنفسك.
6 أثبتت الأيام أن إسرائيل بقاء وأمنا وتفوقا عسكريا قضية تفوق الساسة الغربيين أجمعين ومجتمعين. هي قضية غربية أروبية مقدسة لا مساومة فيها ولا عليها. أثبتت الأيام أن تحدياتنا الداخلية من مثل الحرية والنماء والوحدة والتقدم والنهضة لا يمكن فصلها يوما واحدا عن القضية المركزية الأم التي هي قضية العالم الغربي الأوربي الأمريكي الأم كذلك. قضية مركزية أم لها وجهان : وجه عربي إسلامي تحرري يلوذ أهله بالسلبية ووجه غربي أروبي أمريكي صهيوني يلوذ أهله بالهيمنة والإستعباد والقهر.
اليوم تعاقب إيران وغدا تركيا. ذلك هو الطريق المعروف والسبيل المفهوم. طريق عنوانه واضح جلي : إنما تعاقب إيران لأجل موقفها من المقاومة وليس لأجل توجهها الإسلامي. لسنا متفقين مع كثير من تفاصيل ذلك التوجه الإسلامي الإيراني بسبب منزعه الطائفي الحاد الذي يصل حد العداء والإقصاء. ولكن سوء ترتيب الأولويات مقتل أيما مقتل في رسم خارطة الإستراتيجيا.أليس الأولى بنا إذن أن نرفض تضامن دول إشتراكية ( ماركسية) من أمريكا اللاتينية مع قضيتنا الأم بسبب أنها دول لا نختلف معها إختلافا مذهبيا ولكنه إختلاف ديني عقدي أصلا. الميزان هنا هو ميزان العدل والظلم وليس ميزان الإيمان والكفر. هما ميزانان منصوبان وعلينا تفعيل كل واحد منهما في الوقت المناسب وفي حقله المناسب وكل خطإ في ذلك هو مقتل وأي مقتل!
إذا مضت تركيا في طريقها المنتصر للمقاومة وهي ماضية في ذلك بحوله سبحانه فإنها ستعاقب يوما بمثل ما تعاقب إيران اليوم. كانت تركيا بالأمس القريب حليفا لأمريكا وصديقا لإسرائيل رغم توجهها الإسلامي أي في بدايات عهد أردوغان وأي مصلحة لأمريكا والصهيونية في أن تبتعد عن حليف إسلامي يقدم لها الخدمة؟ تركيا اليوم التي تنتصر للمقاومة ولغزة المحاصرة لم تعد تركيا الأمس. من حيث التوجه الإسلامي هي هي. ولكن عاملا جديدا قلب الموازين هو عامل : القضية المركزية العظمى للغرب وأروبا وأمريكا والصهيونية أي قضية إسرائيل وجودا وبقاء وتفوقا عسكريا وتمددا في كل الإتجاهات. تركيا اليوم لامست ذلك الخط الأحمر فهي إذن معرضة للعقوبة بالضرورة شأنها شأن إيران. كلاهما عجم وكلاهما إسلامي وكلاهما حليف للمقاومة ولغزة المحاصرة. ذلك درس إما أن نعيه بجد ووعي غير قابل للغفلة وتلف الذاكرة .. وإما أن نمكن أعداءنا منا والجهل لا يحمي المغفلين كما يقولون..
نحن بالتأكيد في مقتبل مرحلة جديدة. ذلك هو أبلغ درس فجره العدوان على أسطول الحرية. لم يكن دور ذلك الأسطول سوى تفجير ذلك الدرس البليغ. ولكنه درس كامن في التاريخ والواقع وقانون المقاومة منذ عرف الإنسان المقاومة. نحن بالتأكيد في مقتبل مرحلة جديدة تتطلب :
1 إيقاظ الضمير الغربي والأروبي ممكن جدا على المستوى الشعبي بما هو إحراج سياسي غربي يتوسع يوما بعد يوم مع لجوء إسرائيل إلى العنف المنفلت. 2 الثبات على سبيل المقاومة الجامعة التي لا تفرط في أي حقل من حقول المقاومة.
3 قال الفيلسوف أبو يعرب المرزوقي منذ سنوات : الإسلام طائر ا، لعروبة قلبه وإيران جناحه الأيمن وتركيا جناحه الأيسر. اليوم تحرك الجناح التركي مع الجناح الإيراني ولا بد لهما أن يجمعا حطام قلب عربي أنهكته سنون الخنوع. أما من يفكر في عملية زرع قلب جديد لذلك الطائر فإنما يفكر في قتله.