في الذكرى التاسعة والعشرين للإعلان عن حركة النهضة التونسية.
حركة النهضة بين الأمس واليوم.
((( 6 ))).
4 الإنتظام ضمن منهج إصلاحي شعبي جامع.
عالجت الحركة إلى حد اليوم تحديات البلاد بواجهات ثلاث :
أ إختيار الإسلام الجامع بإعتداله المتوسط قاربا أول لإنقاذ البلاد.
ب إختيار الديمقراطية منهجا سياسيا وإداريا قاربا ثانيا.
ج إختيار الإندماج في العمل المعارض المشترك مع الوعي بالمفارقات الثقافية قاربا ثالثا.
كيف كان الإنتظام ضمن منهج إصلاحي شعبي جامع؟ () في دراسة إجتماعية للدكتور الهرماسي عن حركة الإتجاه الإسلامي في النصف الأول من ثمانينيات القرن الميلادي المنصرم خلص البحث إلى أن أكبر نسبة من المنتمين إلى الحركة يومها ينحدرون إجتماعيا من الفئات الفقيرة والمتوسطة من جانب ومن الفئات المتعلمة المثقفة ثقافة عالية أو متوسطة بحسب المعيار المعاصر المرتبط بالمستوى التعليمي الرسمي المعروف من جانب آخر ومن الفئات العمرية الشبابية من جانب ثالث.
() نشأت الحركة كما هو معلوم نشأة تلقائية طبيعية في صفوف الشباب وعلى طريقة جماعة الدعوة والتبليغ على نحو مكنها من مباشرة الناس العاديين في الشارع بطريق عفوي وظلت كذلك حتى نشأ تنظيمها في فترة لاحقة متأخرة وهو تنظيم ظل منفتحا على الخارج حتى نشأت عن ذلك الورقة الثالثة من ورقات المؤتمر المضموني لعام 1986 بعنوان : التنظيم من أجل الفعل خارجه( الورقة الأولى هي الإستراتيجية المؤقتة والورقة الثانية هي الرؤية الفكرية والمنهاج الأصولي ). لذلك ظل التنظيم يلتقط الشباب بصفة خاصة لدمجهم في العملية التربوية الجامعة التي بنت عليها الحركة رؤيتها التغييرية وذلك هو ما يفسر تضخم الجهاز التنظيمي للحركة وتعقد أعماله ومؤسساته سيما أنه يشتغل تحت رقابة السرية المفروضة عليه من النظام البورقيبي البوليسي.
() تميزت الحركة وربما أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة لأسباب معروفة بإقبال الشباب عليها سيما من تلاميذ وطلبة المعاهد الثانوية والجامعية. لا يكمن تفسير ذلك سوى بأن النظام العربي الرسمي فشل فشلا ذريعا في إستقطاب شريحة الشباب وخاصة المثقف منه وأن الإسلام الذي أريد له أن ينأى بنفسه عن مشكلات العصر سرعان ما إلتقط من يأوي به إلى تلك المشكلات ومن باب الحضارة والثقافة والمدنية والحداثة وليس من باب الدروشة والشعوذة التي تشجعها بعض الأنظمة العربية لتخدير الشعوب وتقديم صورة بلهاء عن الإسلام بإعتباره دين الماضي. تطور وجود الحركة في تلك السنوات في المعاهد الثانوية حتى وقع التفكير في بعث منظمة تلمذية مطلبية على غرار الإتحاد العام التونسي للطلبة فيما بعد.
() في الجامعة التونسية مثلا سرعان ما هوت الخيارات اليسارية أمام التيار الإسلامي الذي لم يكن يمثله في ذلك الوقت سوى أبناء حركة النهضة. يروي الذين عايشوا فترة إنتشار الشيوعية في تونس من الطلبة في عقد الستينيات أنهم كانوا يصلون خلسة ويصومون خفية لفرط الجنون الذي أصاب حملة الراية الشيوعية يومها فما إن بادر الطلبة الأتراك بتخصيص مصلى صغير جدا في إحدى المبيتات الجامعية لهم بعد ترخيص رسمي لهم من بورقيبة على أنهم مسلمون غير عرب لا ينتظر منهم نقل الإسلام الذي يخشاه بورقيبة إلى تونس مجددا .. ما إن تم ذلك حتى يسرت أقدار الرحمان سبحانه طلبة مصلين وإنتقلت الجامعة بذلك إلى عهد جديد هو عهد التقوى والصلاة والإلتزام والإسلام الجامع الذي يناطح النظريات الوضعية ويتفوق عليها ويقدم رؤية لحل مشكلات الواقع في كل جوانبه. ثم أفل نجم الشيوعية في الجامعة التونسية يوما بعد يوم وفي مقابل ذلك برز نجم الإسلاميين الذين تعرضوا في منطقة منوبة في العاصمة التونسية عام 1982 لمجزرة شنيعة نظمها الرفاق الشيوعيون ضدهم حقدا وحسدا وسجن على إثرها بعض الطلبة الإسلاميين وظلوا في السجن عشر سنوات كاملات لأجل تعرضهم للدفاع عن أنفسهم من صلف الشيوعيين. ثم آل الأمر إلى تأسيس الإتحاد العام التونسي للطلبة عام 1986 وكان منارة من منارات حرية الرأي وتقديم الحلول الناجعة لطاقم الجامعة وهيئة التدريس وغير ذلك من الحاجات النقابية والثقافية والدراسية ثم وقع حظره بعد الترخيص له ضمن سياسة الأرض المحروقة التي إعتمدها نظام بن علي ضد كل ما يمت إلى الإسلام والحريات بصلة. ثم فرض على الجامعة كما على البلاد بأسرها الصمت الرهيب وعلا صوت البوليس والقمع ولا صوت يعلو فوق صوت عصابة الفساد والنهب والسلب.
() أما في المساجد فكان الحضور الأكبر للحركة التي رتب أبناؤها العمل الإسلامي على أساس عقد حلقة عامة عادة ما تكون مواضيعها فكرية إنسجاما مع التحدي القائم يومها أي محاربة الفكر المادي والشيوعي الماركسي والجدال مع الفكر القومي اليساري سيما أن أغلب الحاضرين في تلك الحلقات هم تلاميذ المعاهد الثانوية الذين يستلهمون بعض الكتابات المتخصصة في الرد على الفكر الوافد من مثل كتابات علي شريعتي وباقر الصدر ومحمد قطب وغيرهم. كما كانت المساجد المكان الأنسب لإلتقاط الشباب المتدين الذي يمكن أن يلتحق بالخلايا التربوية الداخلية للحركة. كانت تلك الخلايا تركز على إعادة بعث الشخصية الإسلامية المعاصرة المعتدلة المتوازنة المتكاملة في بنائها بين المطلب الروحي من خلال حفظ القرآن الكريم وتعلم قواعد تلاوته وتناول بعض المواضيع التربوية التزكوية ومن خلال المطلب الفكري بتناول بعض المواد الفكرية سيما ما يتعلق بالفكر المادي الشيوعي الماركسي تأهلا لنقضه بأسس علمية ثابتة ومن خلال المطلب الحركي تناولا لمواضيع تهم الوضع السياسي المحلي أو الإقليمي أو الدولي أو تناول بعض الكتب أو البحوث التي تتعلق بالبعد الحركي وكذلك تناول بعض الأخبار الداخلية. كانت وظيفة الخلايا مزدوجة منها تعميق الإنتماء ومنها تحصين الشخصية المسلمة المعاصرة من غوائل التفكير المادي ومن أمراض التفكير القابع في قرون عفا عنها الزمن ومنها بطبيعة الحال تأهيل الشباب لتفعيل متطلبات الدعوة الإسلامية المعاصرة في المساجد وخارجها وفي دور الثقافة وغير ذلك.
() كان الوعي بالتغيير والإصلاح من خلال الأطر القائمة مبكرا جدا ولا أدل على ذلك من إنتظام المؤسسين الأوائل ( الغنوشي ومورو وصالح بن عبدالله) في الجمعية القومية للمحافظة على القرآن الكريم مما تسبب لقيادتها في حرج أدى إلى تجميد مؤتمرها ثم طرد المجموعة الجديدة. حبل ذلك التفكير كان هو السائد في الحركة حتى يومنا هذا وهو ما شكل حرجا بالمناسبة للسلطة التي تدرك أن الحركة تستغل أي فضاء من فضاءات الحرية بسبب الطبيعة الحركية العملية لأغلب أبنائها وقيامهم على توظيف كل فضاء لتوسيع مناخات الحرية قدر الممكن ولذلك تختار السلطة غلق أغلب ما يمكن من منافذ الحركة والتعبير لئلا يتسلل إليها الإسلاميون . حبل ذلك التفكير إمتد بعد ذلك إلى مؤسسات أشد فعالية من مثل الإتحاد العام التونسي للشغل ( مؤتمر عام 1989 كان شاهدا على وزن الإسلاميين الذين كانوا في الأعم الغالب على تحالف مع العاشوريين). ثم إلى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من خلال بن عيسى الدمنى بداية ثم من خلال الشهيد سحنون الجوهري من بعد ذلك. كما كان حضور الإسلاميين في نوادي الثقافة ودورها معتبرا تنشيطا لحركيات التفكير والجدال. إلا الحزب الإشتراكي الدستوري الذي إنقلب إلى التجمع.. كان الحاجز النفسي دوما سدا منيعا بسبب أن الحزب هو الدولة والدولة هي الحزب رغم أن ذلك لم يكن كذلك حتى في العهد البورقيبي إلا بنسبة معلومة أما في عهد بن علي فإن التجمع سيما من لدن رجال الحزب الأوائل الذين جمدهم بن علي ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية وهمش الآخرين لا يكاد يساوي شيئا أمام نفوذ القصر وعائلات القصر والمافيا المالية الأمنية التي تنفرد بتسيير دواليب المجتمع والدولة بإستبداد عجيب. العجيب أنه في الحركة لم يطرح ذلك الموضوع طرحا جديا في كل المراحل تقريبا في حين أن عددا غير صغير من الشيوعيين سرعان ما تسلقوا التجمع الدستوري وقصر بن علي وتمكنوا من ناصية التربية والتعليم والإعلام نسبيا ومواطن أخرى نافذة في الدولة بغرض الإجهاز على الحركة الإسلامية التي كانت تهدد السلطة بزعمهم في الأيام الأخيرة لبورقيبة.
() كما توجهت عناية أبناء الحركة في الجهات والمناطق إلى تأسيس النواتات الثقافية والفكرية وخاصة الفرق الغنائية والشعرية التي تحيي المناسبات وهو عمل ترك بصماته الواضحة على الإلتزام الأخلاقي فكرا وممارسة في الإنتاج والأداء الفني من جهة كما توصل إلى إستيعاب قطاع غير صغير من الشعب إستيعابا ثقافيا وفكريا وإجتماعيا بالجملة من جهة أخرى.
() والشيء ذاته ينسحب على النشاط الإغاثي الذي إتخذ وجهين : وجه نجحت فيه الحركة نجاحا باهرا جدا وهو المتعلق بمساندة عائلات المساجين سيما في المحن الأولى التي كان فيها عدد المساجين بالمئات أو العشرات وليس بالآلاف كما هو الحال في المحنة الأخيرة سيما أن المحنة الأخيرة شهدت لأول مرة تهجير المؤسسات القيادية في الحركة وفرض حالة من الطوارئ العامة أو حالة من الإستثناء أو المرحلية المطولة. أما الوجه الثاني من وجوه النشاط الإغاثي فكان موسميا من جهة وخاضعا لإجتهادات أبناء الحركة في مناطقهم من مثل الإحاطة بآثار إعصار هنا أو فيضانات هناك بمثل ما وقع في منطقة توزر عام 1989 بسبب أن الحركة يومها تعيش ما سمي بشهر العسل مع سلطة بن علي وما هو بعسل ولكنه غض طرف محكوم بإستحقاقات معروفة. الوجه الثاني كان له أثره الطيب في إستيعاب الحركة لقطاع من الناس إستيعابا إجتماعيا بينما ظل الوجه الأول حبيس المتضررين من أبناء الحركة.
() العلاقة مع الزيتونيين : بالرغم من أن المؤسسين الأوائل ( الغنوشي ومورو) عرضا الأمر أمر قيام عمل إصلاحي جديد يجبر نكبات العالمانية البورقيبية على بعض مشايخ الزيتونة من مثل المرحوم إبن عاشور الحفيد عليهما جميعا رحمة الله سبحانه إلا أن التوجه لم يكن مؤسسا على نحو أدى إعتذار أولئك المشايخ عن قبول تلك المهمة إلى ما يشبه التجاهل غير المقصود وهو ما أضحى سمة عامة من بعد ذلك بسنوات لأداء الحركة بصفة عامة حيث يممت قبلتها إلى الأداء المشرقي الإخوان في مصر تفكيرا وتنظيما غير أن إنفتاح الحركة على مدارس أخرى أو قل عقلية الإنفتاح في حد ذاتها ( من مثل تجربة المودودي ومالك إبن نبي والتجربة السودانية التي قادها الترابي بعد خروجه من إخوان السودان وغير ذلك حتى من التجارب اليسارية في الجامعة التونسية وبعض التجارب التونسية الليبرالية) طامن من ذلك التوجه وسرعان ما جعل الحركة توسع دائرة إنفتاحها على كل ما تقدره مفيدا في التراث الإنساني العام. لم تكن العلاقة مع الزيتونيين متوترة ولكنها لم تكن في مقابل ذلك علاقة حركة إصلاحية تجديدية تونسية يتوجب عليها ربط الصلة بالإرث الزيتوني بما يستحقه ذلك الإرث مما جعل العلاقة في نهاية المطاف تتخذ الطابع الفردي حتى تيقظت الحركة إلى ذلك في تقويماتها اللاحقة وبدأت تستدرك شيئا من ذلك من خلال الكتابة حينا ومن خلال تعاهد بعض رموز الزيتونة الذين قبرهم بورقيبة في بيوتهم قبرا حينا آخر ثم رحل أولئك جميعا عليهم رحمة الله سبحانه.
() ما تقدم يحيل إلى سؤال هو : ما هو إذن المنهج الإصلاحي التغييري الذي إعتمدته الحركة؟ ذلك ما نتبينه بإذنه سبحانه فيما يأتي من حلقات.