في الذكرى التاسعة والعشرين للإعلان عن حركة النهضة التونسية حركة النهضة بين الأمس واليوم.
((( 10 ))).
الحركة بين المؤتمرات والتحولات.
هل نحن حركة أم حزب أم تيار أم تجمع وهل نحن في تجانس أو في نشاز. المقصد من تلك الأسئلة هو : إذا كنا حركة ذات تيار أقرب منه إلى التجمع من الحزب وأدنى منه إلى التجانس المشوب بالإختلاف ومفارقا في كل الأحوال إلى التماثل .. إذا كنا كذلك فالسؤال هو : كيف حافظت الحركة على وحدتها من جانب وعلى ذلك الخيط الرفيع الدقيق من التجانس الأدنى إلى النشاز والإختلاف منه إلى التماثل بل هو أبعد ما يكون عن التماثل من جانب آخر. السؤال هو : كيف إستطاعت المؤسسات إحتضان مثل ذلك على إمتداد أربعة عقود كاملة؟ أنى لثماني مؤتمرات حتى اليوم ( يونيو 2010) أن تستوعب ذلك رغم تحولات كبيرة وعميقة وكثيرة في الحركة والبلاد والعالم؟. معلوم أن الحركة هي أوسع جسم سياسي وفكري في البلاد. ومعلوم كذلك أن الحركة تحولت من جماعة على الطريقة التبليغية إلى نخبة تنظر في تنظم أكثر حذرا يجنبها إعاقات البوليس ثم إلى تنظيم يبلغ الدعوة إلى الناس ويستقطب بعضهم إليه ليعدهم في مصنع الدعوة ثم إلى حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية ثم إلى حركة جامعة لها في كل موضع في البلاد قدم راسخة رغم غلبة الطابع الثقافي والفكري والشبابي عليها ثم إلى حزب فرضت عليه الدولة المواجهة فإضطر إليها وخاضها ثم لعق جراحاته وإحتسب ما أصابه ثم إلى جزء لا يتجزأ من النسيج النخبوي المعارض في البلاد ثم إلى معطى سياسي ترقب الدوائر المعادية للمشروع الإسلامي في العالم حركته وأفق تطوره ثم إلى جسم مترامي الأطراف تداهمه دبابة بن علي فتسحق الذي تسحق وتسجن الذي تسجن وتشرد الذي تشرد وتجمد الذي تجمد وتفرض الصمت على البلاد كلها والمعارضة كلها وتتوارى حركة النهضة وتتراجع وتجبر على الخروج من البلاد وتهجر مؤسساتها القيادية لأول مرة في حياتها. تلك تحولات كبرى في حياة الحركة وهي تحولات بعضها فكري وبعضها سياسي وبعضها تنظيمي داخلي. لا أظن أن من يتدبر الأمر بتحولاته وعقوده الأربعة يمكنه مقاربة السؤال آنف الذكر بيسر. السؤال هو : أنى لمؤسسة المؤتمر بصفة خاصة أن تستوعب تلك التحولات ومعها تلك الضربات القمعية القاصمة؟ إما أن تكون الحركة تستبطن إستعصاء عجيبا عن الإهلاك والإستئصال وتفتيت الوحدة الداخلية بما لا عودة معه إلى حياة داخلية ضمن مؤسسات الحركة وإما أن الحركة توفقت إلى إمتصاص الضربات وربما تحويل بعضها إلى قوة داخلية وفي كل الحالات فإن الأمر في تقديري يحتاج إلى تفسير أو تأويل أو حسن قراءة. أما أن يكون الأمر عاديا طبيعيا ينظر إليه على أنه لا يحتاج إلى قراءة وتفسير.. ذلك أمر يستعصي عن الفهم نظرا إلى حجم الضربات الإستئصالية المتوالية.
المؤتمر الأول : صيف 1979. ( مؤتمر تأسيسي عادي).
عنوان التحول الذي أنشأه هذا المؤتمر هو : ضبط وتدوين الإنتقال من الحالة التبليغية الدعوية الفردية العامة إلى مرحلة جديدة قوامها : مأسسة الدعوة فكرا من خلال التركيز على الطابع الجامع ( الشمولي بالمصطلح الذي لا أحبه) للدعوة الإسلامية بصفتها لصيقة للإسلام من جهة ومأسسة الوعاء التنظيمي الذي يرعى مأسسة الدعوة فكرا من جهة أخرى. لك أن تقول أنها مجرد ضبط وتدوين بسبب أن تلك المأسسة ( الفكرية والتنظيمية) نشأت قبل ذلك وعملت في البلاد قبل ذلك. ولكنه تحول من أكبر التحولات بل أول التحولات التي شهدتها الحركة. لك أن تختار عنوانا آخر إن شئت لذلك التحول هو : ضبط الدعوة ضمن مؤسسة. الوثيقة المركزية التي أفرزها ذلك المؤتمر التأسيسي الأول هي : القانون الأساسي للجماعة الإسلامية التي تحدثت عنها آنفا وهي في الحقيقة أول وثيقة من وثائق الهوية لهذه الحركة. وثيقة ثبتت بشكل صريح أن هوية الحركة : الدعوة إلى الإسلام في تونس. والمقصود بالدعوة إلى الإسلام هو الدعوة إلى الإلتزام بالإسلام فكرا ومسلكا بسبب أن التونسيين مسلمون كلهم بفضله سبحانه وذلك مما حفظ الحركة بفضله سبحانه من السقوط في مهاوي التكفير ومرادي التفجير.
المؤتمر الثاني : ربيع 1981. ( مؤتمر إستثنائي).
عنوان التحول الذي أنشأه هذا المؤتمر الإستثنائي هو : إهتبال مناسبتين لإعلان الإهتمام السياسي من لدن حركة أسست من أول يوم على أساس الجماع العقدي الإسلامي وهي الفكرة المركزية الكبرى التي تأسست عليها مشاريع الإحياء الإسلامي المعاصرة من لدن الإمام البنا والمودودي عليهما جميعا رحمة الله سبحانه. المناسبتان هما : إنكشاف تنظيم الحركة في الخامس من ديسمبر ( كانون الأول) من عام 1980 وهو أول إنكشاف سببه الإستبداد البوليسي الذي يفرضه نظام بورقيبة ضد المعارضة بعدما أغراه سحقه لليوسفيين والزيتونيين. أما المناسبة الثانية فهي إعلان بورقيبة ذاته رد فعل على إنكشاف تنظيم الحركة بعد ذلك بزهاء ثلاثة أشهر فحسب ( نيسان 1981) عن عدم ممانعته من إنشاء تنظيمات وأحزاب سياسية بالشروط العربية المجحفة المعروفة. كانت تلك الحركة من الحركة تتسم بضرب من الذكاء وبضرب من المبادرة وإتخاذ أسباب الحيطة والتوقي للشر قبل وقوعه. ذلك من جانب صحيح ولكن من جانب آخر لك أن تقول أن الخطوة من لدن الحركة في وجه بورقيبة كانت مفاجئة جدا وقوية جدا وصاعقة جدا. لك أن تقول بكلمة واحدة : كانت الخطوة من لدن الحركة تجمع بين الذكاء وبين المواجهة في آن واحد. لا زلت أقدر أن الإعلان في وجه بورقيبة وهو من هو عداء للمشروع الإسلامي الذي إنما جاء مشروعه التغريبي على أنقاضه بالتمام والكمال عن إنشاء حزب إسلامي سياسي يتسلل إليه وجه زيتوني نجا من بطش بورقيبة وهو الشيخ المرحوم محمد صالح النيفر مجتمعا إلى وجه حقوقي قضائي حديث وهو الشيخ عبد الفتاح موور وإلى شاب من المفترض أنه يدرس الفلسفة الغربية في الحياة تحت سقف النظام البورقيبي .. لا زلت أقدر أن كل ذلك كان كافيا ليكون أكبر تحد لبورقيبة في عقر دار بورقيبة. لا زلت أقدر أن الأمر يومئذ لم يكن ليقدر من الإخوة حق قدره ولو كان ذلك كذلك فإن مواجهة بورقيبة بذلك الثالوث الكفيل بالإجهاز على الحلم البورقيبي ( الزيتونة والفلسفة والقانون الحديث).. مواجهة بورقيبة بما لم يكن يخطر له على بال .. مواجهة بورقيبة بالإسلام الجامع أو الإسلام السياسي بالتعبير الإعلامي المعاصر وهو تعبير خاطئ بسبب إجتزائه .. مواجهة بورقيبة بالإسلام المقاوم الذي يتخذ الديمقراطية ذلك المنتوج الغربي وسيلة لإفتكاك السلطة من بورقيبة بالوسائل الغربية التي درسها بورقيبة ونال فيها شهادة المحاماة .. لا زلت أقدر أن ذلك كان لا يعني في العقل البورقيبي سوى أنه إنقلاب سياسي ضد سلطانه من لدن الذين إنما إنتصب لوأدهم وقتلهم وإبعاد شبحهم عن البلاد بالجملة والتفصيل.
لا يعني ذلك أن الخطوة كانت خاطئة أو أن التقدير لم يكن في محله زمانا ومكانا. لا بل إن الخطوة جمعت إليها من أسباب الذكاء السياسي الذي جمعت ولكنها جمعت إليها من المواجهة السياسية السلمية الذي جمعت كذلك. ولكن الحديث هنا ومخه هو عن بورقيبة وليس عن الخطوة. لحسن فهم ذلك لا بد من فهم بورقيبة والبورقيبية.
السؤال هو : لم إقتصر بورقيبة على السجن المخفف نسبيا بالمقارنة مع بن علي . حتى التعذيب يومها كان مناسبا للدولة العربية ولا مقارنة بينه وبين الذي حدث ويحدث اليوم في دولة بن علي.
ذلك سؤال يهمني جدا. جوابي عليه مزدوج. إقتصر بورقيبة على السجن المخفف والتعذيب المخفف لسببين : أولهما لأن الرجل غربي حتى النخاع بل أشد غربية من الغربيين ومقتضى ذلك هو أنه يريد الوفاء لغربيته حتى في مواجهة خصومه بما لا يجعل صورته الغربية تهتز وفضلا عن ذلك فإن الرجل مثقف ثقافة عالية جدا ولا جدال في حبه لتونس ولكنه يحبها بمثل ما تراها عيناه هو ويسطر لها مصيرها بمثل ما يريد هو .. أي هو وحده. السبب الثاني هو أن ذكاء الإسلاميين قصره عن مواجهتهم بما هو أكثر من السجن المخفف والتعذيب المخفف. ذكاء تمثل في الإعلان بصراحة لا لجاجة فيها عن تبني الديمقراطية آلية لحسم الخلافات ونبذ العنف. لم يكن بورقيبة من الغباء في ذلك الوقت على الأقل حتى يواجه من إستلف من بضاعته الغربية جزء منها بأكثر مما واجهه به. بورقيبة كان رجل سياسة بإمتياز شديد وله فيها صولات وجولات ومناورات على مدى عقود منصرمة طويلة.
بالمحصلة فإن هذا المؤتمر الإستثنائي الأول كان أكبر تحول في الحركة ربما حتى اليوم . ولا بد من كلمة حول التحول في الحركة. التحول السياسي هنا ليس معناه أن الحركة تبنت السياسة إهتماما جديدا عليها ولكن معناه أن الحركة كانت متشوفة إلى الأداء السياسي المباشر أي ضمن حزب أوهيئة أو غير ذلك ولكن لم تتح الظروف قبل ذلك فكانت المناسبتين آنفتي الذكر ( إنكشاف 5 كانون الأول + خطاب بورقيبة) فرصة مواتية للتعبير عن ذلك الإهتمام وتصريفه تحت سقف حزب سياسي فكان المؤتمر الأستثنائي ثم كان الإعلان بعده بخمسة أيام.
ولكن ليس معنى ذلك أن التهوين من ذلك التحول جائز. لا. التحول كبير جدا بل ربما هو الأكبر في تاريخ الحركة بسبب أنها أول حركة في التاريخ البشري تلتزم عمليا بالقانون الوضعي القائم وتتقدم له بمطلب تأشيرة وتشكل حزبا سياسيا ذا مرجعية إسلامية في دولة لا يحكمها بل يملكها سوى أتاتورك العرب طرا مطلقا.
لذلك التحول إيجابياته دون ريب وعليه سلبياته كذلك دون ريب. أما ما نشأ من بعد ذلك في بعض التقويمات الداخلية من حديث عن كون ذلك التحول كان إستراتيجيا أم تكتيكيا.. ذلك لا يعكس حالة صحية بالكامل بسبب أن التكتيك السياسي هو ما يمكنك التراجع عنه كلما شئت أو تجميد أثره. وليس ذلك الإعلان في ذلك من شيء. هو تحول إستراتيجي بأتم معاني كلمة التحول الإستراتيجي. هو كذلك وهذا هو الأهم في السياسة بنتائجه وآثاره بسبب أنك أصبحت مقاولا في حقل عام تشترك فيه مع غيرك والنتيجة ليست دوما : تغرم بغرمه وتغنم بغنمه بل قد تغرم بغنمه أو تغنم بغرمه. حقل إما أن يكون لك فيه حلفاء وشركاء أو أن تلقى فيه حتفك بالضرورة. حقل قوته ( من القوت وليس من القوة) القوة وليس غير القوة. ولكن يمكن أن تكون الضعيف القوي من خلال حسن التخطيط وحسن الأداء وحسن الصبر. تحول تكتيكي لتوقي ضربة قمعية قاصمة في إثر إنكشاف كانون الأول 1980؟ لا يجدر بنا حتى اليوم وما بعد اليوم إلا أن نقول أن ذلك التحول كان إستراتيجيا واعيا وتحملنا آثاره بشجاعة وبتوفيق من الله سبحانه قبل ذلك كله. تحول ولجته الحركة فكسبت خيرا كثيرا جدا ولكن أصابها شر كثير جدا كذلك. والمحصلة من ذلك التحول الإستراتيجي الذكي هي : كسبت الحركة أهم ما تكسبه أي حركة سياسية أي الإحاطة الصحيحة بواقعها في كل مستوياته وذلك هو أكبر مؤهل لها على الإصلاح والتغيير. أما ما أصابها من شر في ذلك فهو شر السجون والقتل والمنافي وما سماه القرآن الكريم”.. إلا أذى “. شر الأذى إذا قيس بخير فقه الواقع يصبح هو الآخر كسبا. وعلى كل حال فإن أول عنوان لمختلف تقويمات الحركة في هذا الصدد هو أن المشكلة لم تكن في التحول ولكن المشكلة في أن ذلك التحول حابى الحقل الجديد الذي ولجه التحول أي السياسة على حساب الإهتمامات الأخرى التي كانت تحظى بالرعاية في الحركة أي التربية والتعليم والتأهيل وغير ذلك. بكلمة إذن : التحول إستراتيجي ذكي ولكن الحركة لم تكن مهيأة داخليا لحسن إستيعابه فجار الضيف نسبيا على مضيفه.
الحركة تستخدم الإستفتاء الشعبي العام المفتوح لأول مرة.
كان ذلك بمناسبة الحوار الداخلي الدائر يومها في شأن ذلك التحول الأكبر في حياة الحركة. نظمت الحركة في صفوف أبنائها كلهم أي المستويات التنظيمية الثلاثة التي تشكل تنظيم الحركة يومها إستفتاء شعبيا عاما مفتوحا موضوعه ورقتان مدونتان : ورقة تدعم رأي الإعلان عن الحركة حزبا سياسيا بمرجعية إسلامية وورقة أخرى تدعم رأي عدم الإعلان عن ذلك. لك أن تقول أن الحركة كانت سباقة بشكل جدي إلى أسلوب الرأي والرأي المخالف من جهة وإلى أسلوب الإستفتاءات الشعبية العامة المفتوحة من جهة أخرى. ذلك حدث يعكس إنبناء الحركة على قيمة الشورى والديمقراطية داخلها وما كان غير ذلك في مناسبات إستثنائية قليلة جدا كان إستثنائيا لا يعبر عن الحالة العامة. نسيت بالضبط نتيجة ذلك الإستفتاء ولكنها تجاوزت بالتأكيد الستين بالمائة أو قل كانت في تلك الحدود أي حوالي ثلثي أبناء الحركة كلهم أجمعين في ذلك الوقت. أعطى ذلك للحركة دفعا قيميا جديدا و للحياة الداخلية ولأبناء الحركة بسبب أن القضية كبيرة جدا تعبر عن خطورة التحول وبسبب أن العملية كانت مبكرة في حياة الحركة. ذلك مما تعتز به الحركة في مشوارها الطويل. لم يكن الإستفتاء يومها آلية قانونية مدونة ولكن إستوحتها ثقافة الشورى في الحركة وعندما تسود مناخات الحرية في أي كيان تستجيب القوانين لذلك أما إذا تكلست العقول وإمتلأت بالإستبداد فإن أغنى القوانين حرية لا تغني ولا تسمن من جوع.