في الذكرى التاسعة و العشرين للإعلان عن حركة النهضة التونسية. حركة النهضة بين الأمس واليوم.
((( 11 ))).
المؤتمر الثالث :شتاء 1984. ( مؤتمر عادي).
عنوان التحول الذي أنشأه هذ المؤتمر العادي مزدوج. عنوانان داخليان وعنوانان خارجيان.
العنوان الداخلي الأول :إضفاء الشرعية على مؤسسات الحركة.
سبب ذلك هو أن القيادة المنتخبة من صف الحركة ( أنظر القانون الأساسي للحركة بمثل ما هو مدون في كتب كثيرة أغلبها ضمن نشر أعمال التقويم الداخلية للحركة من مثل كتاب : ..) حال السجن دونها ودون أدائها لمهامها فرممت تلك المؤسسات في ظروف قمعية قاسية جدا من الملاحقة والمتابعة ( إختفاء قيادات وملاحقة أخرى وفرار آخرين) بشكل إستثنائي فلما خرجت تلك القيادة من السجن في صيف 1984 كان لا بد لتلك المؤسسات أن تتمتع بالشرعية القانونية وكان لا بد من إجراء مؤتمر سمي يومها إنتخابيا ولكنه لم يكن إنتخابيا فحسب بل كان مؤتمرا عاديا تقدم فيه التقارير الأدبية والمالية وغير ذلك مما هو معروف في المؤسسات الديمقراطية.
العنوان الداخلي الثاني :مأسسة التقويم.
سبب ذلك أن الحركة كما أنف ذكره دخلت بكل مؤسساتها بدء من عام 1982 في عمل كبير لأول مرة في حياتها وهو إجراء تقويم عام جامع شامل وكان ذلك ضمن مشروع الأولويات كما أنف ذكره. كان يومها ذاك هو هم الحركة الأول داخليا.غير أن ذلك التقويم كان يجري تحت مؤسسات غير منتخبة إنتخابا مباشرا من الصف بمثل ما تنص عليه القوانين واللوائح بسبب ما ذكر آنفا بما إستوجب أن تصادق عليه مؤسسات منتخبة. وهو ما تم بالفعل من لدن المؤتمر الثالث ( شتاء 1984). صادق المؤتمر على ما تم إتخاذه من إجراءات التقويم وحصائله حتى ذلك اليوم كما زكى مواصلة التقويم ضمن مشروع الأولويات حتى ينجز كل ذلك أو ما تيسر منه قبل المؤتمر العادي القابل.
العنوان الخارجي الأول :أولوية الثقافة وثانوية السياسة. كان ذلك توجه الحركة بمثل ما قرره المؤتمر الثالث. تقديم أولوية الدعوة والثقافة وما يقتضيه ذلك مما هو معروف في عالم الخطط والمسالك وفي مقابل ذلك تأخير العمل السياسي إهتماما حركيا ساخنا في إتجاه السلطة لتوفير مناخ مناسب تترعرع فيه أولوية الدعوة والثقافة في هدوء وأمن.
العنوان الخارجي الثاني :العلاقة مع السلطة.
ذكر في حلقات آنفة أن العلاقة مع السلطة بدأت على يد المحامي الأستاذ فتحي عبيد على صفحات جريدة الصباح اليومية مما أسفر عن إطلاق سراح الشيخ عبد الفتاح مورو من السجن لأسباب صحية أو إنسانية على أن يظل تحت الإقامة الجبرية في بيته. وبعد الخروج من السجن من لدن القيادة التاريخية إستقبل المرحوم محمد مزالي الوزير الأول يومها رئيس الحركة الشيخ الغنوشي والمهندس حمادي الجبالي الذي تولى الأمانة العامة للحركة في فترة السجن والشيخ مورو المؤسس الثاني للحركة. كان ذلك توجه المؤتمر الثالث أي : نسج علاقة صحية مع السلطة قوامها الحوار والتفاوض لأجل حل الملفات العالقة ولكن كان ذلك في عهد بورقيبة والمرحوم مزالي وكلاهما مثقف ثقافة عالية وصاحب تجربة سياسية كبيرة وثرية. أما عندما توجد حركة ديمقراطية في مواجهة سلطة غير ديمقراطية فإن الوضع لن يكون إلا عسيرا أينما قلبته.
كلمة عن هذه الفترة الذهبية.
إذا عن لك أن تنظر في كسب الحركة فإنك لاف دون ريب أن هذه المرحلة ( من المؤتمر التأسيسي الأول عام 1979 حتى المؤتمر الرابع شتاء 1986 ) هي المرحلة الذهبية بإمتياز شديد. لك أن تسأل عن الأسباب التي صنعت ذلك. إذا أدلف المرء إلى ذلك خشي الإسهاب وإن أحجم خشي الإبتسار. فما العمل؟ هما عاملان يفسران ذلك بإختصار شديد : عامل الحركة من جانب وعامل السلطة ( بورقيبة والمرحوم مزالي) من جانب آخر. لم يكن المشهد حالة سلطة ومعارضة بأتم معنى الكلمة ولكن شيئا ليس بعيدا عن ذلك كثيرا. مشهد لا يقارن بحالة سلطة بن علي التي ألغت مفهوم المعارضة بالمرة. سلطة بورقيبة إستوعبت نسبيا الدرس من إنتفاضة الخبز التي تفجرت في اليومين الأخيرين من عام 1983 وإمتدت أسابيع بعد ذلك. تراجع بورقيبة عن سعر الخبز الجديد. الحياة الإعلامية في تلك الأيام كانت تتمتع بهامش صغير. بدا واضحا يومها أن سلطة العجوز بورقيبة تتداخل فيها عوامل كثيرة لتوهنها : سلطة بعض العائلة من مثل إبنة أخته سعيدة ساسي وتطاحن على الإطاحة ببورقيبة حيا أو ميتا ومحاولة الإنقلاب ضد إتحاد الشغل عام 1978. وأطماع خارجية من مثل هجوم القذافي بميليشيا تنسب إلى العروبة والقومية وكلاهما منها براء وذلك عام 1979. توفقت الحركة إلى إتخاذ الموقف الوطني المناسب في كل تلك الأحداث. وعوامل أخرى جعلت تلك المرحلة ذهبية بإمتياز منها دون ريب : حرص الحركة دوما على تقديم الملف الداخلي للحركة لأعادة بنائه بكل متطلباته الممكنة على أحسن الوجوه الممكنة.
المؤتمر الرابع :شتاء 1986.( مؤتمر عادي). () مما يذكر في تاريخ الحركة وفيه عبرة لمن يعتبر أن عدد المنتمين إلى الحركة تضاعف مرات كثيرة في الفترة الفاصلة بين حملة الإعتقال الأولى أي 1981 حتى خروج القيادة التاريخية من السجن عام 1984 ثم ظل كذلك في نمو وتوسع وإمتداد حي. ما حصل في تلك المرحلة التي أسميتها ذهبية في تاريخ الحركة هو ما يحدث دوما عندما لا تلبي المؤسسات الداخلية لأي كيان الطلبات الخارجية. ذلك أن قانون الإنتماء هو ذاته قانون العرض والطلب في الإقتصاد والتجارة. إذا إنخرم هذا لصالح ذاك كانت مشكلة وإذا إنخرم ذاك لصالح هذا كانت كذلك مشكلة. حصل ذلك نسبيا في تلك الفترة الذهبية للحركة حيث أصبح طلب الإنتماء إليها أوفر بكثير مما توفره مؤسساته من إمكانات إضافة إلى أن كل ذلك يجري تحت أسياف السرية التي تفرضها السلطة بقمعها غير المحدود ضد المعارضة عامة والحركة الإسلامة خاصة. العبرة من ذلك جلية لكل ذي بصيرة وعينين وهي أن العصى لا تقتل فكرة أبدا بل إن العكس من ذلك تماما فإن العصا تجسر الفكرة وتعمقها وتثبتها وترسخها وتجعلها تمتد في أول فرصة هواء جديد. ذلك مأزق السلطة العربية المتوحشة ولكن الأصم لا ينصت إلى من يعرض عليه مأزقه.
() مما عالجت به الحركة في تلك المرحلة الذهبية إنخرام قانون العرض والطلب لصالح وفرة الطلب وضيق العرض .. ما سمي يومها بالإنتماء الوظيفي أو العمل القطاعي أو غير ذلك من التسميات التي قد تختلف من منطقة لأخرى. أذكر أنه في منطقة ما بادر المسؤولون فيها إلى تنظيم قطاع الجامعيين المتخرجين والمتشغلين من أطباء ومحامين وغير ذلك في تلك المنطقة المحدودة الصغيرة فما راعهم إلا والعدد بالعشرات الكثيرة مما يستحيل إستيعابهم. أذكر أن الأمر تماثل في منطقة أخرى حيث إنتبه المسؤولون هناك إلى أن كل المسؤولين على المصالح الجهوية بمختلف تخصصاتها من أبناء الحركة أو من المتعاطفين معها. الحاصل من ذلك أن تلك المرحلة الذهبية شهدت توسعا وإمتدادا لتأثير الحركة سيما في قطاع النخبة وخريجي الجامعة والكليات والمعاهد العليا فضلا عن الطلبة والتلاميذ والمثقفين في كل الحقول. أسباب ذلك كثيرة منها أن الحركة تميزت بتقديم قراءة للتاريخ الإسلامي وللمحصول الغربي وللتفكير الإسلامي الأنسب للعصر وتلبية حاجات المجتمع.. تميزت بذلك فلبت ما يعتمل في عقول وقلوب النخبة التونسية فضلا عن كونها تميزت بمؤسساتها الديمقراطية وخطابها الديمقراطي وغير ذلك مما يضيق عنه هذا المجال.
() تميزت تلك المرحلة الذهبية بإنتشار التدين الذي غزا المؤسسات العسكرية والأمنية في البلاد وخير من يخبر عن ذلك أهل القطاع أنفسهم. لكن المؤكد أن ذلك القطاع يضم إليه من خيرة شباب البلاد ونخبتها وهو مؤهل للتدين بمثل تأهل غيره سوى أن السلطة حاولت توظيف ذلك ضد خصمها أي النهضة حينا بالطرد وأحيانا أخرى بأساليب خبيثة موغلة في الدناءة والخساسة والحقارة وبعض منها رواها لي مباشرة من حدثت معه ورب الكعبة من مثل إختبار تدين العسكري من لدن رئيس الثكنة وذلك بتنظيم حفل ما يدعى إليه العسكريون بصحبة زوجاتهم فمن كانت زوجه مختمرة فهو من النهضة أحب أم كره. بل روى لي المصدر ذاته ورب الكعبة ما هو أبشع من ذلك وأحقر وذلك من خلال تقديم مشروبات كحولية محرمة في الحفل ذاته فإذا شرب العسكري المتهم بالتدين فبها ونعمت وإن تعلل بالظروف الصحية فهو محل ريبة. أما في عهد بن علي فإن الأمر تجاوز ذلك إلى الكشف عن ركب العسكريين فإذا هي تحمل أمارات السجود فالتهمة جاهزة ثابتة وثمنها السجن والتعذيب والطرد والإكراه على ما دبجته السلطة من إفتراءات ضد الحركة في هذا المجال إبتغاء خلع ربقتها من منهاجها الديمقراطي وعندها يسهل الإجهاز عليها.
() صحيح أن الخمار في تلك السنوات لا تكاد تحمله شابة تونسية مثقفة إلا وهي منضوية تحت لواء الحركة. ذلك يعني أن الحركة في تلك السنوات هي الحامل للإلتزام الإسلامي فكرا وسلوكا دون منافسة من أي فصيل إسلامي آخر. ولكن الأصح من ذلك أن الحركة لم تصنع ذلك صنعا ولكن ساهمت في صنعه أحداث كثيرة. إلتقط العالمانيون أو بعضهم من الإستئصاليين يومها قالة ظلوا يرددونها كالببغاوات والقرود وهي أن الإستقطاب الثنائي الحاد بين السلطة والحركة أضر بالمعارضة والبلاد والعملية الديمقراطية وغير ذلك من الإستهلاكات الإعلامية المجانية. الإستقطاب تصنعه السلطة من خلال أمور منها تواصل حربها ضد الحركة على أنها هي العدو الألد الأوحد لها في البلاد ومن خلال حملات التشويه الإعلامية. شكا كثير من العالمانيين من ذلك بسبب التهميش الذي فرضته السلطة عليهم بالضرورة من خلال تركيزها على سياسة حيال الحركة لا تفضي بالضرورة إلا إلى توفر الإستقطاب الثنائي. عالجت الحركة ذلك رغم أنها ليست مسؤولة عنه بالتخفيف في مرات كثيرة من ثقلها السياسي وجودا يهدد السلطة كما عالجت ذلك بالتنسيق والعمل المشترك مع المعارضة. وليست قالة الإستقطاب عند التحقيق سوى مكر جديد ينسج خيوطه الإستبداد ولو لم يكن إستقطابا لكانت تهمة أخرى جاهزة ولسان الحال يقول : لن يرضى عنك لا هؤلاء ولا أولئك حتى تتبع ملتهم أو ترضخ لإستبدادهم.
نهاية مرحلة بورقيبة.
في تلك المرحلة التي كانت ذهبية في حياة الحركة جرت رياح كثيرة ضد العجوز بورقيبة منها ما أشير إليها آنفا ومنها ما لم يحظ بذلك من مثل : تسريح القذافي لعشرات الآلاف من العمال التونسيين وطردهم ليكون ذلك عبء ثقيلا جدا على سياسة بورقيبة وكان حرجا هائلا جدا وكان ذلك في إثر الخلافات المتصاعدة بين بورقيبة والقذافي من محاولة الوحدة الفاشلة في جربة بهندسة محمد المصمودي وزير خارجية بورقيبة في منتصف سبعينيات القرن حتى الهجوم ضد قفصة عام 1980 ثم كانت بعد ذلك بسنوات إغتيال أحد أكبر رموز منظمة التحرير في حمام الشط عام 1985 من لدن الموساد الإسرائيلي .. بالخلاصة شكل كل ذلك حرجا خارجيا شديدا لبورقيبة من جهة وما يشبه إنفلات القبضة الأمنية من جهة أخرى في محاولة لإمتصاص ضربات موجعة ضده من جهة أخرى ( من مثل مساهمة ثورة الخبر في إطلاق سراح قيادة الحركة) .. فكانت نهاية بورقيبة تخرق كل يوم في حياته ثقبا.