أطلقت العنان لذاكرتي لتسبح في أعماقها، عساها تدرك صورا ومشاهد معبرة عن مرحلة طفولتي في ستينات القرن الماضي، لأعمل فيها النظر بوعي غير الذي حدثت فيه وأنا طفل. استخرجت من أعماق ذاكرتي مشاهد لوقائع كثيرة، انتخبت أهمها لهذا المقال. يقظة مبكرة: كنت عائدا من المدرسة في أيامي الأولى من السنة الأولى ابتدائي وإذا بي أفاجأ بشابتين مراهقتين تعبران بسرعة الرصيف المقابل ومن ثمة الطريق الرئيسي متجهتين نحوي للمسك بي دون أن تكون لي أي معرفة بهما، وأنا الذي وضعت للتو قدميّ في عالم خارج بيتنا. لم أجد في تلك الثواني المرعبة التي تحولت بعدها إلى كوابيس مزعجة أراها في منامي، سوى أن أصيح وألوذ بشيخ في التسعينات من عمره كان يسير أمامي بخطى ثابتة منتصب القامة دون تكأة، بلباسه التقليدي، واضعا بِلغتَه تحت إبطه، سمع صياحي "يا بيْ لطيف" فالتفت ليرى المشهد فصاح في الفتاتين فإذا بهما تلوذان بالفرار. خصوصية هذا الحدث الذي لم يتجاوز الثواني، أنه شحن أعصابي بطاقة عجيبة رفعت من درجات انتباهي إلى حده الأقصى كلما تعاملت مع العالم الخارجي، الذي بدا لي في زمن مبكر جدا أنه مشحون بأمور غامضة لا يدركها طفل يتعامل مع واقعه الموضوعي بفطرته البريئة. فالحدث الصدمة أثار في نفسي أسئلة محيرة: لماذا هجمت الفتاتان علي؟؟؟ والحال أن عشرات التلاميذ ممن هم في عمري وأكبر يمرون من ذلك المكان!. وهل سأتعرض لقطع طريق العلم كل يوم؟؟ وكيف سأنجو مستقبلا منهما وهما تسكنان بالقرب من طريق المدرسة؟؟ الإجابات التي استقيتها من الكبار لا تحمل تهوينا للأمر يناسب سني ولم تبعث في نفسي الشعور بالأمن والأمان اللذان يحتاجهما كل من هم في عمري ممن لا حول لهم ولا طوْل في الدفاع عن أنفسهم. فالبنتان تنحدران من عائلات نزحت من خارج صفاقس واستقرت في مطلع القرن العشرين بمنطقتنا فسكنت على أطراف مقبرة قديمة جدا، وبقيت مهمشة في حي قصديري تعاني فقرا مدقعا وعزلة بسبب تفشي كثير من مظاهر الانحراف في أفرادها. لم تكن الإجابات التي تلقيتها من باب تهويل الأمر لتخويفي، بل فتحت مدارك وعيي لأفهم حركة الحياة في تلك الفترة، فقد لاحظت من يكبرني بثلاث سنين في القسم ومن هم في طول المعلمين في السنوات الخامسة والسادسة تتراوح أعمارهم بين 17 و18 سنة وكلهم من تلك العائلات الفقيرة، التي لم تترك المؤسسة التعليمية تؤدي وظيفتها النبيلة في راحة وأمان بل تعمد من حين لآخر إلى رشق المدرسة بالحجارة وكأن المدرسة مسؤولة عن فشل أبنائهم في التحصيل العلمي، إلى درجة أن إدارة المدرسة أمرتنا وقد كنت في القسم الثاني بإخلاء الأقسام فورا بسبب هجوم قامت به كل القبيلة بكبارها وصغارها، نسائها ورجالها على المدرسة...
وكأن الوضع الاجتماعي كان قابلا لمزيد من التأزم، فقد توافد على صفاقس مئات العائلات الليبية الفقيرة التي ضاق بها العيش في ليبيا آخر عهد النظام السنوسي، وكان حظ المنقطة التي أعيش فيها عشرات العائلات التي نصبت أكواخا وخيما في الأراضي المهملة على طرفي الطريق إلى السوق والمدرسة، ولا تسل عن المؤسسة الأمنية شبه الغائبة في ذلك الزمن. ولم يكن أمام النظام ساعتها إلا اعتماد نظام اشتراكي تعاضدي بدأ فيه بمتوسطي الدخل ليضع البلاد على حافة انهيار تمام. مجاهدة لفهم ما يحدث في عالم كله غموض: تلك الصدمة النفسية الاجتماعية التي سببتها لي الفتاتان، دفعتني للانصراف عن اللعب مع أترابي وملازمة والدي عند وجود الضيوف في بيتنا، خدمة له ولضيوفه، واجتهادا لفهم الحراك الذي يمارسه والدي كمسؤول نقابي في الشركة التي يعمل فيها إن سمح لي بالبقاء ، فأصبحت الحكايات التي أسمعها عن معاناة العمال والقسوة التي يعاملون بها والتفاوت الكبير بين الأجور والقدرة الشرائية بمثابة رادار أضيفت له برمجة دقيقة. ثم تحولت مواضيع الحوارات إلى تقييم التجربة الاشتراكية والتذمر الشديد من قلة المواد الأساسية، وطول الانتظار في الطوابير أمام التعاضديات،.....وما أكثر ما كنت أستحضر حالة أولئك الفقراء والمساكين الذين تنحدر منهم الفتاتان المشكل. مرحلة متقدمة: لم تعد النماذج الواقعية المعبرة عن التفاوت الطبقي في المجتمع من حولي والتي سمعت عن العشرات من أمثالها من الكبار، تثير فضولي لفهم ما يجري في الواقع حقيقة، حتى انضممت سنة 76 لنادي الفكر الذي كان تحت سيطرة اليسار الشيوعي، فكنت أتردد عليه أسبوعيا لفهم الآليات التي تحرك الواقع الاجتماعي، مع تحفظ حاسم حول أطروحاتهم العقائدية عن الإنسان والكون. كانت للمستضعفين مضلة: وبعيدا عن الانحياز للتيار اليساري أو العاشوري كنت أستمع بحسرة إلى الخطابات التي ألقاها قادة اتحاد الشغل في القاعة الرئيسية للاجتماعات في الاتحاد العام التونسي للشغل فرع صفاقس يوم 26 جانفي 78 قبل أن يطوق برجال الأمن ويضع النظام عليه يده إلى الآن. قطرة أحدثت تموجات هو جانب إذا من تلك التموجات التي أحدثتها حالة الرعب التي عشتها في بداية الفصل الدراسي 66 67 وإذا ألقيت عليها أضواء من فهمي الآن أقول: بأن تركة المستعمر لم تُصفَّ بطريقة عادلة بل استُغلت للمتاجرة بها. العدوانية غير المبررة، تمثل انتفاضة على المقدور عليه، وسخطا على الواقع يفجر في وجوه الأبرياء. جيل الشيوخ وكبار السن لم يتأخر عن مناصرة المستضعفين، فقد كانت له هيبة مؤثرة في تعديل الموازين الاجتماعية، وغالبا ما كانت الكلمة منهم تحل أزمة حقيقية. قطع طريق العلم أصبح صناعة. وما حدث لي مثّل وجهه البدائي أما الآن فله صور أخرى. الخوف، والترقب ، والحذر ، والتكتل مع مجموعة، والتخطيط، وتجنب المواجهات، في مرحلة الطفولة يبقي في الذاكرة الباطنة جراحا لا يندمل. الذين كنا نراهم يقفون مناصرين للمستضعفين في شبابهم، تحولوا إلى الجانب الآخر عند بلوغ الرشد ودخول مرحلة الكهولة. لم ننجح في حماية ثروات أرضنا فهل ننجح في الحفاظ على ثروة القيم التي كان يعيش على أساسها أسلافنا؟ دعوة إلى الجيل ما بين. 1950 1960 نقف الآن بين الخمسين والستين من أعمارنا تاركين مرحلة الشباب مستقبلين مرحلة الشيخوخة إذا قدر الله لنا أن نعيشها ومهما أقنعنا أنفسنا بأننا نحمل نفسية وعقلية الشباب فإن هؤلاء لن يتفاعلوا معنا على أساس قناعاتنا الذاتية. إن لهذا الجيل خصوصية لا تتكرر إلا مرة في القرن من حيث التواصل بين الأجيال. فالشيخ المسن الذي تفضل علي بأن حماني من اعتداء لا أتخيل نتائجه لولا تدخله، نشأ وقضى طفولته وجزءا من شبابه في القرن التاسع عشر، وهذا يعني أنه عاش أهم فترات عمره مع الجيل الذي عاش في القرن التاسع عشر، وإذا قدر لأحدنا من هذا الجيل أن يعمر فيعيش ثمانين أو تسعين سنة فسيدرك جيلا إن طال بهم العمر فسيعيشون شيخوختهم في القرن الثاني والعشرين. وهذا يعني أننا قادرون بإذن الله تعالى على نقل صورة عن القيم والقوانين الاجتماعية التي حكمت المجتمع التونسي لأطول فترة ممكنة. يأس أم واقعية؟: والأوكد من ذلك هو البحث عن أهم القوانين المؤثرة في الحياة الاجتماعية لدى الأجيال التي إن أمد الله تعالى في أعمارنا استفادت منها كاستفادة أمثالي من قانون توقير الكبير ورحمة الصغير الذي لا أمل لي في عودة العمل به في مجتمعنا التونسي إلا إذا حكمه الإسلام بقيمه ومبادئه وأخلاقه. من كثرة ما لاحظنا من حرص أعداء تونس لإبطال العمل بهذه القوانين البناءة بكل الوسائل الإعلامية والتعليمية والثقافية على امتداد خمسين سنة. تهيئوا إخواني لاستثمار قوانين الفطرة التي فطر الله الناس عليها لأنها من خلق الله تعالى في كل نفس بشرية ولا تغرنكم نشوة الذين تمكنوا من تشويهها (الفطرة) وظنوا أنهم بدلوها نهائيا وبدون رجعة . لا تفكروا نهائيا في أن يقف أحدكم في الشارع سنة 2040 أو 2050 إن كان في الأعمار بقية فيخاطب هذا أو ذاك فيُسمع ويطاع، ولكن فكروا في أوضاع اجتماعية تكون أهم ملامحها: تعود الناس على أن يُسند الأمر لغير أهله، وأن يكون الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، وأن الثروة في البلاد موزعة بطريقة لا يعلم سرها وحقيقتها إلا الله تعالى. وحالة اليأس والاكتئاب هي السائدة، والقلق المزمن يعصف بالصغار قبل الكبار، مع غياب شعور الإنسان بالمسؤولية عن نفسه فضلا عن غيره، وشدة ضحك المجرمين وتغامزهم، واتهامهم لكل متمسك بفضيلة بالضلال. وشدة بكاء وعويل المحرومين وقد أصابهم الوهن فلا يحركوا ساكنا لردع أي ظلم يسلط عليهم. لا تكونوا أقل شأنا من "بَيْ لطيّف" رحمه الله: وخارج عالم الأسباب أؤمن بأن الوضعية في تونس لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ. فكروا في أوضاع اجتماعية أقل قتامة مما تصورتُ أو أكثر. ولكن الأهم أن تضعوا تصورا لما يمكن أن يؤثر حقيقة في ضمائر جيل ينتظر دوركم في القرون المقبلة بإذنه تعالى، وقد عشتم في تونس القيم، تونس المبادئ، تونس الأخلاق الإسلامية الرفيعة. من لي بهذا الأمل والأمنية؟: أن يخصص قسم أو موسوعة تجمع فيها أحداث تاريخية عاشها إخواننا مع جيل القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تعبر عن قيم وأخلاق رفيعة، تمثل الطابع التونسي الإسلامي الأصيل، لنسلط عليها من وعينا الجمعي الحاضر ما يعيننا على اختيار الأساليب الأفضل، لإحياء تلك القيم من جديد في زماننا وتثبيتها لما يليه من الأزمنة لارتباطها بالفطرة السليمة، فلا نترك العابثين بقيمنا ومبادئنا يرتعون في البلاد طولا وعرضا دون مقاومة حقيقية، قيميّة ومبدئية تظهر على قيمهم التي لم تزد التونسي المسكين إلا مسكنة مذلة. ليعلم أهل الباطل، من آمن منهم بأن البلاد والعباد في قبضتهم، بعد أن بسطوا سلطانهم عليها بشكل لم يسبق له مثيل أن الله القوي المتعالي قد جعل أعمالهم التي خططوا لها وتابعوها وأنفقوا من جهودهم وأعصابهم"... كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ. وليعلموا أن "لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" وليعلم أصحاب المشاريع المهدمة لكل قيمنا الاجتماعية الرفيعة التي توارثها التونسيون جيلا بعد جيل بأن الله تعالى يتوجه إليهم بالخطاب: "وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ تحية إلى جيل الخمسين وإلى من قبلهم ومن بعدهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته