ابداع في الامتحانات مقابل حوادث مروعة في الطرقات.. «الباك سبور» يثير الجدل    منها 617 م.د بيولوجية...عائدات تصدير التمور ترتفع بنسبة 19،1 ٪    بعد القبض على 3 قيادات في 24 ساعة وحجز أحزمة ناسفة ..«الدواعش» خطّطوا لتفجيرات في تونس    فضيحة في مجلس الأمن بسبب عضوية فلسطين ..الجزائر تفجّر لغما تحت أقدام أمريكا    هل تم إلغاء حج الغريبة هذا العام؟    شهداء وجرحى في غارات للكيان الصهيونى على مدينة رفح جنوب قطاع غزة    كأس تونس .. بنزرت وقفصة يعبران ولقاء جرجيس و«البقلاوة» يلفت الأنظار    أخبار الترجي الرياضي .. أفضلية ترجية وخطة متوازنة    وزير الشباب والرياضة: نحو منح الشباب المُتطوع 'بطاقة المتطوع'    انتخاب يوسف البرقاوي وزكية المعروفي نائبين لرئيس المجلس الوطني للجهات و الاقاليم    رئيس الجمهورية يُشرف على افتتاح معرض الكتاب    القصرين..سيتخصّص في أدوية «السرطان» والأمراض المستعصية.. نحو إحداث مركز لتوزيع الأدوية الخصوصيّة    بكل هدوء …الي السيد عبد العزيز المخلوفي رئيس النادي الصفاقسي    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    عاجل/ محاولة تلميذ الاعتداء على أستاذه: مندوب التربية بالقيروان يكشف تفاصيلا جديدة    حجز أطنان من القمح والشعير والسداري بمخزن عشوائي في هذه الجهة    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    وزارة الصناعة تفاوض شركة صينية إنجاز مشروع الفسفاط "أم الخشب" بالمتلوي    القيروان: الأستاذ الذي تعرّض للاعتداء من طرف تلميذه لم يصب بأضرار والأخير في الايقاف    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    برنامج الجلسة العامة الافتتاحية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    حادثة انفجار مخبر معهد باردو: آخر المستجدات وهذا ما قررته وزارة التربية..    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    عاجل: زلزال يضرب تركيا    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    رئيس الدولة يشرف على افتتاح معرض تونس الدّولي للكتاب    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل التغيير لايزال ممكنا ؟ فؤاد محمد
نشر في الحوار نت يوم 21 - 07 - 2010


هل التغيير لايزال ممكنا ؟
* تقديم:
لقد ظلت فكرة الإصلاح والتغيير هاجسا مؤرقا لدى النخب والتيارات السياسية في الوطن العربي والإسلامي ، فشكلت الايدولوجيا الاشتراكية والقومية العلمانية في العقود الماضية المدخل الأساسي والمنطلق الرئيسي لجل حركات التغيير, بيد أنه بعد الانهيار الكبير للمنظومة الاشتراكية وما تمخض عنه من بؤس اديولوجي حسب تعبير الفيلسوف كارل بوبر والانكسار المأساوي للزعامات القومية في العالم العربي بعد نكبة 4 حزيران 1967 ونهاية الأسطورة الناصرية وما توالت بعدها من نكسات ليس آخرها سقوط بغداد .
بعد كل هذه النوائب التي أحدقت بدار الإسلام أصبح الحديث عن مطمح التغيير ضربا من الخيال والمثالية الثورية والماضوية الرجعية . وباتت كل حركة اجتماعية تطمح لقيادة سفينة التغيير متهمة بالانقلابية وتهديد الاستقرار والخروج عن الشرعية المحلية والدولية. وهي قائمة طويلة من الاتهامات تلوكها السنة النخب الرافضة لأي تغيير وتحبرها أجهزة الإعلام السلطوي . مما يبعث على التساؤل حول ما إذا كان التغيير بالفعل ضرورة حتمية . وما هي دواعيه ؟ ولم فشلت الاتجاهات التغييرية التي سادت طيلة العقود الماضية ؟ وما التحديات التي تواجه حركات التغيير الجادة اليوم ؟ وماهي الاستحقاقات المطلوبة ؟
وباختصار نتساءل هل التغيير لا يزال ممكنا ؟
1/ التغيير ضرورة حتمية للنهوض:
لقد أصبح اليوم التغيير ضرورة حتمية اكتر من ي وقت مضى. انه السبيل الوحيد للانعتاق والخروج من الأزمة المستحكمة والمزمنة بعدما فشلت كل محاولات الترميم . بل إن مخططات الإصلاح انقلبت إلى مخططات لإعادة إنتاج الفشل وتكريس الأزمة. حتى أصبح المواطن العربي لا يشعر بالأمن الغذائي ومهدد في لقمة عيشه ، ولا يملك أي أمل في المستقبل بفعل اليأس من هذه الأنظمة التي يسوسها أناس لايتمتعون بالحد الأدنى من الكفاءة والإيمان الصادق والروح الوطنية والنزاهة والقدرة على الخلق والإبداع ، فهاجسها الأول ليس الحرص على المصالح الوطنية والسهر على خدمة المواطن ، بل الحرص على البقاء على عرش الزعامة الأبدية من القصر إلى القبر، وتعكس هذه الحقيقة وتعريها تقارير التنمية الصادرة عن الدوائر الدولية التي تصنفنا في ذيل الترتيب العالمي والإقليمي وتكشف حالة الكساد التي تعيشها القطاعات الحيوية أمام عجز هذه الأنظمة عن اتخاذ أي تدابير للحد من الأزمة .
إن الأزمة المستحكمة والمأزق الذي آلت إليه الأنظمة الاستبدادية وما أوصلت إليه الأوضاع من نفق مسدود يجعل إمكانية التغيير واردة بل ضرورة ملحة لعتق رقاب ملايين ا لبشر من نير الاستعباد والمهانة والتجويع بصورة غير مقبولة .
إن المواطن العربي بات يدرك أن استمرار هذه الأنظمة يعني استمرار الأزمة واستفحالها.
إن الوقائع السياسية في العالم العربي ، وحصيلة الأداء السياسي الكارثي للنظام العربي الرسمي جعلته يقف في العراء مجردا من أي مشروعية ، اللهم مشروعية الاستيلاء على السلطة بالقوة والغلبة ، ومشروعية الدعم الدولي الاستعماري لهذه الأنظمة المفلسة .
فهي تفتقر لأية مشروعية سياسية لاستنادها لدساتير ممنوحة ، لم تصدر عن سلطة تأسيسية منتخبة ، وبعض الأقطار العربية تسودها قوانين الطوارئ منذ عقود.
كما أنها لا تستند لأية مشروعية شعبية ولذلك فالديمقراطية في صورتها المحترمة مغيبة عدا بعض المسرحيات الهزلية التي تجري بين الفينة والأخرى والمثيرة للسخرية .
أما المشروعية الدينية فالقاسم المشترك بين النظم العربية هو تبني اللائكية العلمانية فكرا وممارسة وسلوكا ، أما الدين فلا يستعمل إلا لتعزيز السلطة الفردية للحاكم باعتباره " ظل الله في الأرض " كما تنص على ذلك فتاوى" الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " وسدنة المعابد المأجورين الذين اعتادوا حرق البخور على أعتاب القصور.
وإزاء كل هذه الحقائق والوقائع بات التغيير اليوم هو القضية الأكثر قداسة ومشروعية لتحرير الإنسان العربي والمسلم وإخراجه من غيبوبته التاريخية ، وتأهيله للنهوض لينفض عن نفسه غبار الجهل والتخلف والعبثية والغفلة عن الله عزوجل ، وليضطلع بدوره في مهمة الاستخلاف في الأرض وعمارتها وإعادة تأسيس بنيان الحضارة الإنسانية على أساس الإيمان والمحبة والإخاء والعدل والشورى والمساواة ، وسل الإمام الندوي –رحمه الله - بنبيك عن ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين .
أما أعداء التغيير والمتوجسون والمرجفون من أهل المدينة فنذكرهم بان التغيير سنة إلهية
- مهما طال الزمن- وحقيقة تاريخية ، انه تدافع أزلي بين الخير والشر وبين الإصلاح والإفساد ...
إن العام كله يتغير . فهناك تغيرات مناخية وجيولوجية ومتغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية أما التغيير السياسي فهو قادم لا محالة لان التاريخ لا يمهل أحدا .
2) الاتجاهات السياسية التغييرية التي عرفها العالم العربي:
أ- الاتجاهات الماركسية والقومية ومآلها:
سادت منذ منتصف القرن الماضي اتجاهات تروم التغيير تدين بالولاء للفكر الماركسي أو الفكر العروبي القومي ، وصل بعضها لسدة الحكم في عدد من الاقطارالعربية ، وبقي آخرون يناضلون من اجل إحداث التغيير المنشود ، والثورة على النظم السائدة ، أو مقاومة الاحتلال الأجنبي .
ورغم الانتعاش العالمي الذي عرفته الايدولوجيا الاشتراكية حتى وصفت حينها بموضة العصر إلا أنها عجزت تماما عن احدات أي تغيير ، ومرد ذلك لأسباب شتى يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي.
لقد اتسمت هذه التيارات بنوع من الارتهان السياسي والاديولوجي للقوى الأجنبية وهو ما يفسر سعيها لتعزيز الروابط الاديولوجية والأممية ، بدل الارتباط بالعالم الإسلامي ، كما اتهمت بمعاداة الهوية الدينية وتهميش الموروث الثقافي الشيء الذي يفسر عدم قدرة هذه التيارات على التغلغل في الجماهير رغم امتلاكها خطابا شعوبيا يلامس هموم الجماهير مما خلق صدامات غير مرغوب فيها مع التيارات الإسلامية الفتية والصاعدة ، هذا مع العلم أن النظم العربية لعبت دورا أساسيا في تأجيج هذا الصدام .
فمن جهة : وظفت الخطاب الديني التقليدي ، واستعدت كل مؤثراته لمواجهة الزحف الماركسي، ليس حبا في الدين ولكنها حرب سياسية قذرة ستوظف بعدئذ وبالأسلوب ذاته عدد من مؤثرات الفكر الاشتراكي ( التقدمي والحداثي ) لمواجهة ما أصبح يعرف ب ( الخطر الإسلامي ) .
وإضافة إلى هذه العوامل المذكورة آنفا فان النظرية الماركسية ذاتها بما تطرحه من تحليل مادي وتركيز على العامل الطبقي في تفسير كل الإشكالات والظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، اتسمت بنوع من التعسف المنهجي والشمولية الشيء الذي جعلها قاصرة عن الإجابة الموضوعية والمقنعة في الكثير من الإشكالات والقضايا المعاصرة ، وباتت عاجزة عن إقناع الجماهير بجدواها ، لاسيما بعد انهيارالمعسكرالشرقي وسقوط جدار برلين ما أدى إلى تحول بعض أجنحتها إلى أبواق للسلطة وجيوب لمقاومة التغيير.
أما المد القومي العلماني الذي ارتبط في واقع الأمر بالزعامات العروبية والبعثية العفلقية والتي اتخذت من الجيش قاعدتها الصلبة للقيام بموجة من الانقلابات العسكرية وصل بموجبها الزعماء القوميون للحكم ، فرسخوا مبدأ الاستبداد المطلق واحكموا قبضتهم على الحياة السياسية ، وقامت الايدولوجية القومية على أساس تحقيق الوحدة العربية ومواجهة الاحتلال الصهيوني مما اكسبها بريقا شعبيا ملحوظا حينها .
لكن القوميين رغم عزفهم على أوتار الوطنية والعروبة ومواجهة الاستعمار إلا أنهم وصفوا بالقمع الشديد لشعوبهم ، ومصادرة الحريات وتكريس الاستبداد المحلي .
وظلت نقطة ضعفه هي ارتباط مشروعه بالزعيم الأوحد مما سهل عزله سياسيا واقتلاعه فانتهت الناصرية بعد هزيمة 1967، وانتهت البعثية في العراق بعد سقوط بغداد وإعدام صدام .
والواقع أن الاتجاه القومي العروبي لم تكن تؤطره نظرية سياسية تغييرية أو ايدولوجيا متكاملة في معالجة الأوضاع الداخلية وتحقيق الازدهار السياسي والاقتصادي بقدر ما كان ذا نزعة شعاراتية . ولذلك لم يستطع الزعماء القوميون إحداث أي تغيير رغم تعميرهم في الحكم . ولم تتحقق شعاراتهم في إقامة الوحدة العربية وأخفقوا أمام الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية . وبذلك لم تحقق النظم القومية أمل الشعوب في التغيير بل سارت على سنن من قبلها في تكريس الأزمة ودخلت حالة من الانكفاء والجمود.
وهكذا ذهبت الاشتراكية وانكفأت القومية وبقيت سفينة التغيير تنتظر ربانا أمينا يخوض بها عباب بحر هائج متلاطم الأمواج في ظرف دقيق للغاية .

ب-الاتجاهات الإسلامية الحديثة وخطوطها التغييرية :
بعد الانتكاسات التي تعرضت لها الاديولوجيات الاشتراكية والقومية وتهافت الفكر اللبرالي العلماني وعدم قدرته على الظفر بأي سند شعبي ، و مع تصاعد المد الإسلامي بعد الثورة الإسلامية في إيران أواخر السبعينات ، وتفجر الجهاد الأفغاني ضد الروس ، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية المباركة بقيادة الحركة الإسلامية خلال الثمانينات ، فتزايد الاهتمام بالظاهرة الإسلامية ومدى قدرتها على حمل مشعل التغيير .
وبرزت عدة اتجاهات للحركة الإسلامية يمكن تصنيفها حسب توجهاتها السياسية وقناعاتها الفكرية إلى ثلاث خطوط رئيسية ، مع إبراز مآلاتها والتحديات التي تواجهها :
1* خط التغيير الجزئي وانحساره :
عادة يصطلح على وصف هذا الخط باعتباره خطا إصلاحيا ، القاسم المشترك بين معتنقيه هو السعي لاحداث التغيير ولو بشكل جزئي ومحدود من داخل المؤسسات السياسية القائمة ، وتتسم هذه الاتجاهات بمرونة كبيرة تصل إلى حد تقديم تنازلات كبيرة يصفها البعض بالمجانية ومن دون مقابل ، وهاجس أصحاب هذا التوجه هو المداراة والسعي لنزع فتيل مقولة الخطر الإسلامي - حسب زعمه - .
ورغم أن عددا من الحركات الإسلامية المحسوبة على هذا الاتجاه استطاعت دخول البرلمان بل الوصول إلى مناصب عليا داخل الدولة في بعض الأقطار الإسلامية خلال فترات معينة ، إلا أن هذا التوجه انتهى به الأمر إلى حالة من الانحسار،
لا سيما مع واقع التحجيم الذي تتعرض له الحركات الإسلامية ، فإذا استحضرنا الخصوصية السياسية للنظام التركي العلماني ووضع حزب العدالة والتنمية الحاكم ، فان أوضاع الأحزاب الإسلامية التي انتهجت خط التغييروالاصلاح من الداخل أو ما اصطلحنا عليه بخط التغيير الجزئي ، انتهى بها الأمر إلى فرض المزيد من القيود على حركتها وقراراتها ، بل واختياراتها التي من المفترض إن تتماشى بداهة مع هويتها وواقها الاجتماعي وخطها المذهبي .
والواقع أن هذه القيود المفروضة جلها لا يستند إلى أي أساس قانوني بل يتماشى مع سياسة التعليمات وضبط التوازنات وسياسة الرسائل المشفرة ، وإتقان هذه الأنظمة لبيداغوجيا التغذية الراجعة وتوظيفها في مجال السياسة مع هذه التيارات التي باتت تملك القابلية اللازمة للتمادي مع كل هذه المماحكات الخطيرة .
فأصحاب هذا التوجه يدركون جيدا وبقوة الحدس السياسي المكتسب لديهم ما المطلوب منهم ، إنها رقابة ذاتية صارمة يفرضونها على أنفسهم.
وما يفسر حالة الانحسار هذه هو الاعتقاد الذي أصبح سائدا لدى أبناء هذا الاتجاه بأن مجرد المشاركة السياسية والانتخابية ودخول البرلمان والبلديات ولو بدون تحقيق مكاسب سياسية تذكر، يعتبر انجازا عظيما في حد ذاته ، وهذه الحقيقة باتت متجسدة في عدد من التجارب السياسية في البلاد العربية والإسلامية التي تجيد أنظمتها سياسة الاحتواء من خلا ل تسخير المؤسسات السياسية وعلى رأسها المؤسسة التشريعية لخدمة هذا الغرض ، مع ما يحكم ذلك من اطر دستورية صيغت في حقيقة الأمر للحفاظ على سلطة الحاكم الفرد ولتعزيز صلاحياته المطلقة التي باتت قيدا دستوريا غير مسموح بتعديلها بل إن مجرد مناقشتها يعرض للمسؤولية الجنائية .
والواقع أن المآل الذي آلت إليه هذه التيارات المنتهجة لهذا الخط أمام نظم عربية لا تقبل بأي تغيير جزئي كان أم شامل ، لعدم قابليتها لأي إصلاح ، مما أصبح يحتم على العقلاء داخل هذا الاتجاه انجاز تقويم صريح للوضع ، والقيام بمراجعة جريئة للخروج من هذا المأزق ومغادرة حالة الانحسار والاحتواء التي تهدد بتحريف نهجها الإصلاحي والتغيري ، وتحويلها إلى أحزاب يمينية متمسحة بالهوية ، وليس لها أية فعالية أو تاتير شعبي ومجتمعي بفعل ارتباطها بهذه الأنظمة السياسية الكاسدة وبمشاريعها الفاشلة من قريب أو بعيد .
2- خط المواجهة والتدمير:
بفعل الاستبداد السياسي المستحكم والخنق الشديد للحريات والكبت والقهر الاجتماعي ، ظهرت في العقود الأخيرة تيارات إسلامية لاتؤمن بأي سبيل للتغيير سوى العنف ( والجهاد المسلح ) . ورغم تعدد هذه التيارات إلا أن قاسمها المشترك هو تكفير الدولة . وبعضها يكفر حتى المجتمع باعتباره مجتمعا جاهليا ، جل هذه التيارات تتقاطع مراجعها مع الفكر الوهابي النجدي وفكر الهجرة والتكفير . وربما اتخذ بعضهم من (معالم في الطريق ) لسيد قطب أو ( الفريضة الغائبة ) لمحمد عبد السلام فرج وغيره مراجع أساسية لهذا التوجه.
لكن هذا الإتجاه ظل يفتقر لأي أسس فكرية أو تصور مجتمعي وسياسي لإدارة الصراع مع الأنظمة السياسية القائمة . ونتيجة خضوعه للانفعالات العاطفية وحماسة الشباب الغاضب وضعف التجربة القيادية . إضافة إلى تجاهل أنصار هذا التوجه لمجموعة من الضوابط الشرعية والإنسانية مما سهل عملية تجريمه محليا ودوليا ، وباتت كل جرائم المخابرات العالمية ودسائسها تنسب إليه باعتباره تنظيما سريا وعنيفا ويدين بالولاء لأطراف خارجية .
كل هذه العوامل أدت إلى تسهيل ملاحقة أفراد هذه التنظيمات والزج بهم في معتقلات محلية ودولية يضرب بها المثل في المهانة وخرق حقوق الإنسان ، والحط من كرامة البشر وآدميته ، دون أن يجد حمزة له بواكي لأن أصحاب هذا الخيار لم يستطيعوا تأسيس قاعدة شعبية وسياسية تحمي ظهورهم ، ولا يحظون بأي تأييد شعبي أو احتضان جماهيري .
ورغم كون أصحاب هذا التوجه استطاعوا سرقة الأضواء الإعلامية في السنوات الأخيرة إلا أن افتقارهم للقوة السياسية جعلهم تيارا هامشيا لا يملك أي قدرة على النهوض و إحداث التغيير المنشود .
3- خط التغيير السلمي والشامل :
إذا كانت التيارات السياسية الإصلاحية التي انتهجت خط التغيير الجزئي من داخل المؤسسات قد انتهى بها الأمر إلى الانحسار السياسي ، وتيارات المواجهة المسلحة قد وصلت إلى زوايا هامشية والى الطريق المسدود ، فان الحركات الإسلامية التي انتهجت خط التغيير السلمي والشامل ، ولم تقتنع بفكرة التغيير من الداخل ، أو انتهاج العنف سبيلا لإدراكها عواقبه ومالاته لكونها تدرك جيدا ان خط المواجهة والعنف هو انتحار سياسي ، أما الدخول في اللعبة السياسية الرسمية من دون أي تعديل لشروطها الحالية ، هو اندحار سياسي بامتياز .
لكن هذا الاتجاه هو أيضا يواجه تحديات جسام تتجلى في الحصار الخانق الذي تفرضه عليه لأنظمة المستبدة ، والقمع الشديد الذي يتعرض له أنصاره .
إن هذا الخيار وان كان أصحابه ينبذون العنف عقيدة ومنهجا إلا أنهم يواجهون حصارا شاملا وحرب استئصا ل ضروس على مختلف الأصعدة ، ويتلقى أنصاره بين الفينة والأخرى ضربات موجعة .
غير أنه إزاء مقارنتنا بين الخطوط والاتجاهات الثلاثة ، يجدر أن نذكر بان الحركة الإسلامية بمختلف اتجاهاتها إنما خرجت من رحم الحصار وكابدت آلام المخاض ولم تتلقى تصريحا بالولادة والاستهلال ، وليس الحصار ظرفا جديدا تواجهه .
ولذلك ظلت الحركات الإسلامية المنتهجة لخط التغيير السلمي والشامل لعقود تواجه هذا الحصار الظالم وتبدع في أساليب كسره واختراقه ، بل استطاعت أن تحول حصارها إلى مصدر تعاطف جماهيري وباتت ضربات السلطة تقويها ولا تضعفها ، مما يعزز نفوذها داخل المجتمع ، ويزيد أفرادها إيمانا بقضيتهم ، وإصرارا على المضي قدما في انجاز مطلب التغيير من دون تردد.
ويتسم أصحاب هذا الاتجاه بالمبدئية والروح الإيمانية الدافقة والمعنويات العالية . يتجلى ذلك في جندية أفراده الذين لايكترثون للمنع ويناضلون بدأب من اجل الدفاع عن قضيتهم والانتصار لها.
*ومن مزايا هذا الاتجاه:
- التحرر في المواقف والاستقلالية على مستوى القرار .
- القدرة على جلب تعاطف الشعب واستثمار غضبه على الأنظمة الفاسدة بشكل ايجابي .
-الاستمرار في تأطير الجماهير بدون حرج أو مركب نقص وعبر الإمكانات المتاحة .
- الخلق والإبداع في وسائل الدعوة و أساليب التواصل لتجاوز القيود التي يفرضها عليهم واقع الحصار .
- عدم الارتباط بمشاريع الأنظمة يمنحهم مصداقية أكبر وشعبية أوسع .
- انتهاج التغيير السلمي وعدم اللجوء إلى العنف ونبذ السرية والتعامل المشبوه مع الأطراف الخارجية وعدم خرق القوانين – رغم كون أصحاب هذا الاتجاه يضعون علامات استفهام كبيرة على هذه القوانين المحلية الاانهم لايعيشون خارجها - وهذا ما يحرج السلطة ويظهرها في صورة المتعسف الذي لا يقبل أي طرف مخالف ، ولا يسمح بأي تداول على السلطة ، الشيء الذي يعرض هذه الأخيرة عند القيام بأي إجراء ، أمني تعسفي ضد هذه الحركات لانتقادات حقوقية لاذعة محليا ودوليا .
وعموما رغم كل التحديات التي تواجه الحركات الإسلامية المنتهجة لهذا الخط إلا أنها استطاعت الصمود ضد العواصف ، والمحافظة على مصداقيتها والتبات على مواقفها ومبادئها رغم كل المؤشرات السلبية المنذرة بمؤامرات كبرى تحاك محليا ودوليا ضد الحركة الإسلامية بمختلف أجنحتها وخطوطها .
ورغم طبول الحرب التي تقرعها الأنظمة بين الفينة والأخرى إلا أنها عجزت تماما عن تحجيم هذا الخط الإسلامي العريض فضلا عن استئصاله ، وذلك بسبب ما يتمتع به في قلوب الناس من مصداقية وواسعة ، حتى إنه بات يشكل الملاذ السياسي والأخلاقي الوحيد والمؤتمن على اقتحام عقبة التغيير ، وانجاز هذا الاستحقاق التاريخي الذي أصبح اليوم مطلبا ملحا وضرورة حتمية أكثر من أي وقت مضى .
/3التحديات التي تواجه عملية التغيير:
رغم كل الدواعي الموضوعية التي باتت تحتم ضرورة التغيير في العالم العربي والإسلامي الا أن هناك تحديات جسام تقف اليوم حجر عثرة أمام أي عملية تغيير، تزيد من صعوبة انجاز هذا الاستحقاق التاريخي لدرجة توهم بالاستحالة الواقعية ، وذلك باستحضار مجموعة من العوامل المحلية والدولية :
فعلى المستوى المحلي تزداد يوما بعد يوم شراسة الأنظمة البوليسية والمخابراتية التي تعمل على إسكات كل صوت حر وقمعه بالنار والحديد أو العمل على احتواءه ، حتى ، إن البعض كان مستعدا لإبادة ثلث شعبه إذا لم يقدم الولاء .
وإضافة إلى ذلك الانقياد الأعمى لعدد من النخب التقليدية السياسية والثقافية والدينية والمقاولاتية التي باتت توفر غطاء الشرعنة لأنظمة الحكم ، للحيلولة دون أي تغيير قد يطيح بمصالحها ، الشيء الذي جعلها جيوبا حقيقية لمقاومة المد الإسلامي التغييري وسندا للأنظمة المستبدة .
أما على المستوى الدولي حيث تزداد شراسة الاستكبار العالمي الذي تغديه الروح الصليبية والصهيونية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها ، وحرصهم على استمرار هذه الأنظمة الراعية لمصالحهم ، وتوفير الغطاء لها لقمع شعوبها وإسكات كل الأصوات الأبية ، إضافة إلى العولمة التي تحولت إلى أداة للتحكم في مصائر الشعوب وإحكام قبضتهم على العالم ومصادرة خيراته .
/4الاستحقاقات المطلوبة :
إن الاستحقاقات المطلوبة من الحركة الإسلامية المنتهجة لخط التغيير السلمي الشامل يمكن إجمالها في النقاط الآتية :
- إعداد الطليعة المجاهدة القادرة على التبات في الميدان وتحمل أعباء التغيير أيا كانت نتائجها ، والمؤمنة بموعود الله عز وجل بنصر المؤمنين المستضعفين والتمكين لهم في الأرض باعتبارها سنة إلهية لاتتخلف متى التمست أسبابها وروعيت نواميسها.
- توافر نظرية متكاملة للتغيير، ومنهاج واضح للعمل يضبط التصور العام ويوحد الرؤية ويحفظ مخطط التغيير من أي تحريف ، ولا يتحقق ذلك إلا بمخطط يتخذ من تربية الإنسان وتنميته محوره وهدفه الأساس .
- مد الجسور مع القوى الإسلامية والوطنية وذوي المروءات لإقناعهم بجدوى المساهمة في عملية التغيير والالتقاء حول أرضية مشتركة أو وثيقة جامعة .
- الانخراط في مبادرات تواصلية ودعوية الإنقاذ بعض النخب اليائسة بسبب قتامة الوضع وما عانته من احباطات سيا سية أدت بها ا إلى فقدان الأمل من تغيير سياسي جدي . وكذلك لإخراج آخرين من غيبوبتهم السياسية بسبب ارتمائهم في أحضان النظام المستبد كرها بعد تزايد المخاوف من الخطر الأصولي وطمأنتهم بان الحركة الإسلامية تؤمن بالعيش المشترك وبضرورة تظافر الجهود لتحقيق التغيير وإنقاد البلاد ، ولا يتحقق ذلك إلا بسواعد أبناء الأمة جميعا وبلا استثناء على اختلاف مشاربهم وقناعاتهم السياسية
و مواقعهم داخل المجتمع .
- ان تتسم القيادة التي تؤم حركة التغيير التاريخي بأهم مواصفات الزعامات التي قادت حركة التغيير عبر التاريخ الإسلامي وغيرت من مجرى الأحداث ، من علو الهمة وبعد النظر والشجاعة والإقدام والثباث في الميدان ، والأمانة والورع .
- القدرة على التأطير الفعال لأبناء الشعب واستثمار الغضبة الشعبية المكبوتة في النفوس على الظلم السائد ، وتوجيه ذلك لخدمة حركة التغيير، حتى لا تبقى مجرد انفعالات عابرة .
5) إمكانية التغيير:
نعم إن التغيير لايزال ممكنا ، بل إن دواعيه اليوم أكثر ملحاحية من أي وقت آخر ، يتمثل ذلك في الأزمة الشاملة التي أرخت بسد ولها على المجتمع ، وتزايد الغضب والاحتقان الشعبي، وفساد النظم السياسية السائدة ، وعدم قدرتها على حل الأزمات التي تعتبر هي أهم مسبباتها إضافة إلى تزايد الوعي الديمقراطي وكراهية الاستبداد ، والشعور بالعار أمام تخاذل الأنظمة وعجزها عن نصرة الشعوب المسلمة المستضعفة التي تتعرض للإبادة الصهيونية والصليبية في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها... هذا بالإضافة إلى توافر أهم عوامل التغير وهو وجود طلائع إسلامية ووطنية وقومية متفاوتة القوة والتأتير بمختلف الأقطار العربية والإسلامية .
إن التغيير الذي ننشده والذي تطمح إليه الأمة ليس مجرد عمليات اغتيال سياسي أو محاولة انقلابية أو حركة اختراق من الداخل تنتهي بالسيطرة على الحكم واستبدال سلطة بأخرى .
إنها عملية تغيير شامل وقاعدي ينطلق من القاعدة الشعبية ، و أساسه تربية الإنسان وتنميته وتأهيله ليستعيد كرامته المهدورة ، ووعيه المستلب ، ويسترجع دوره التاريخي في الريادة والتقدم والازدهار وعمارة الأرض بالخير والنماء ، وذلك حتى تعود قاطرة الحضارة الإنسانية إلى سكتها الحقيقية ، فيصبح الإنسان هو محور اهتمامها وديدنها ، بدل النظرة التشييئية التي تجعل منه عبدا للآلة أو مجرد أداة للإنتاج أو عبء على الدولة والاقتصاد القومي .
وهل التغيير إلا حركة إنسانية دائبة وقومة شاملة تمتزج فيها التضحيات بالطموحات والتطلعات النبيلة .
إنه سعي حثيث لاقتحام العقبة الكئود مصداقا للبلاغ القرآني في قوله تعالى :{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } البلد: 11 - 17
أما الحركة الإسلامية الصامدة التي انتهجت خط التغيير السلمي الشامل ، والمقاومة الراشدة ، ولم تنزلق نحو متاهات العنف رغم كل المؤامرات والاستفزازات ، ولم تستهويهم اللعبة السياسية المشوهة والملغومة رغم كل الإغراءات ، وظلت عصية على الاحتواء والتحجيم .
فهي اليوم مرشحة بقوة لحمل مشعل التغيير و تحقيق أمل المستضعفين في الأرض.
فهي الخط الأصيل في الأمة عبر تاريخها الطويل ، وفي مقاومتها للظلم وممانعتها للظلمة وعدم الرضا بالضيم اوالاستكانة .
ولا تخلوا الأرض من قائم لله بحجة ، أما دعاة ليس في الإمكان أبدع مما كان من المهزومين أمام حركة التاريخ فكانوا دائما يغردون خارج السرب ومكانهم محجوز في طرة التاريخ .
الأستاذ : فؤاد محمد بلمودن
باحث في الفكر الاسلامي - المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.