محمد الشرفي ..حين تغلب المغالطة موضوعية البحث العلمي بقلم سمير ساسي كتاب الوزير محمد الشرفي "الإسلام والحرية الالتباس التاريخي": حين تغلب المغالطة موضوعية البحث العلمي صدر عن دار الجنوب للنشر بتونس طبعة جديدة منقحة ومزيدة لكتاب الإسلام والحرية الالتباس التاريخي لصاحبه الراحل محمد الشرفي أستاذ القانون بالجامعة التونسية والرئيس الأسبق لرابطة حقوق الإنسان ووزير التربية في تسعينات القرن الماضي. وجاء الكتاب ضمن سلسلة معالم الحداثة التي يديرها الأستاذ عبدالمجيد الشرفي. وقد راج في الفترة الأخيرة من حياة محمد الشرفي انه قام بمراجعات فكرية وسياسية وكثر الحديث والتكهنات حول طبيعة هذه المراجعات في الأوساط الثقافية والسياسية التونسية وذهب كل فريق في تفسيرها المذهب الذي يؤمله وقال إسلاميون إنها تعلقت بمواقفه الفكرية والسياسية من الإسلام ومن الإسلاميين و أنها لن تكشف لان أنصاره لن يسمحوا بذلك حفاظا على مواقعهم الاجتماعية والسياسية. في حين لم يسع أنصار الشرفي إلى إثارة موضوع المراجعات بشكل جاد رغبة في إخفائها أو تأكيدا لغيابها. فهل كانت الطبعة المنقحة والمزيدة حاملة لهذه المراجعة؟ يمنح عنوان الكتاب بعض الوجاهة لسؤالنا من جهة ويحجبها عنه من جهة أخرى الوجاهة تبدو فيما يحمله العنوان من حديث عن الالتباس التاريخي بما يرسم أفق انتظار يحوم حول رفع هذا اللبس وتقديم صورة حقيقية عن علاقة الإسلام بالحرية. غير أن الوجه المحجوب من وجاهة سؤالنا هو ما يتضمنه السؤال من مصادرة أولى بان الرجل له مواقف معادية للإسلام و انه سعى وهو على عتبة الموت إلى التوبة عنه إذ لا يستقيم الحديث عن المراجعة إلا في سياق وجود مثل هذه المصادرة، وهو اعتراض في محله نعتذر منه أولا بحاجة القراءة لافتراض جدلي يساعد على تتبع مختلف الإشكالات التي يثيرها الكتاب حتى نستطيع استنتاج رأي مؤسس علميا للمراجعة من عدمها. ويعود اعتذارنا الثاني كما أسلفنا إلى ما أثارته مواقف الرجل من قبل حول بعض آيات القران التي طالب بحذفها من برامج التدريس في المعاهد.كما أن وجاهة سؤالنا تنبع أيضا مما وضعه الكتاب لنفسه من هدف "ملء الفراغ" و "تقديم فهم للإسلام يجعله يتبنى مبادئ الحرية والديمقراطية ويتماشى مع مقتضيات العصر"لكن هذا الهدف بدوره يمنع عنا حصر المراجعات في بعدها "التوبوي" إن صح التعبير باعتباره يحمل ضمنا موقفا متهما للفهم للإسلام المتجسد أو الحاضر في التاريخ بتنافره مع مبادئ الديمقراطية والحرية.فكيف بدت هذه المراجعات؟ لا نعثر في مقدمة الكتاب على ما يحدد مفاصل الإشكالية المفترضة التي يطرحها العنوان غير إشارة في هامش الصفحة الخامسة تقول إن هذا التأليف يبحث أساسا إشكالية تطوير الفكر الديني وتحديث المجتمع الإسلامي" وقد استجابت المقدمة لذلك فكشفت عن أن "الإسلام ليس أقل أهلية ولا أعسر استعدادا للتطور من المسيحية أو اليهودية(ص8) و أن "الشعوب الإسلامية قد حققت تحولها و أنها غادرت بالفعل القرون الوسطى لتلتحق التحاقا بالحداثة..."(ص10 ) وفي المقابل اعترفت المقدمة بان التغييرات الحاصلة في المجتمعات الإسلامية كانت هشة بما أن كلا من سياق المرجعيات والخطاب السياسي قد بقي في المؤخرة" (ص10 ) وهو ما أدى إلى اتساع الهوة بين نظامين : نظام موروث عن الأجداد قد اكتسى صفة القدسية ... ونظام جديد" وهو ما أنتج أيضا "خللا خطيرا وتمزقا موجعا" لان المجتمعات "لا تريد التضحية لا بالإسلام ولا بالحداثة " لكن الحداثة حسب الكاتب كانت مترددة لان " عبد الناصر تقرب إلى علماء الدين أي إلى الإسلام الرسمي الذي هو منجم الإسلام الشعبي المناضل.."(ص14) أما بومدين "فقدم هدية لا تقدر بثمن إلى رجال الدين بان تخلى لهم عن قطاع التربية حيث واصل سياسة بن بلة بالالتجاء إلى المتعاقدين المصريين بأعداد وفيرة .. الذين سيدرسون بالجزائر وسيكونون إطارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ و الجماعات الإسلامية المسلحة"(ص16) . ومع أن بورقيبة "كان يخاطب عقول المواطنين في هدوء ليفسر لهم أسباب تخلفنا" فانه " كان مستبدا معجبا بنفسه و انه حكم بالحزب الواحد والتعذيب ومحكمة امن الدولة و أن هذا المس بالحريات العامة لم يكن مشروعا ولا حتى مفيدا لسياسته" (ص17)، وهذا ما جعل التونسيين حسب محمد الشرفي وفي استعارة لجان دانيال "مسلمون صادقون ولائكيون صادقون" ذلك أنهم يعيدون قراءة الإسلام قراءة تمكنهم من التأكيد تأكيدا قويا بأنه بإمكان الإسلام أن يتوافق مع الديمقراطية وحقوق الإنسان ويعنى ذلك أن الإسلام حين نحسن تأويله لا يكون متنافرا مع الحداثة"(ص23) فهل برز هذا التأويل الحسن المفترض في فصول الكتاب التي حصرها الكاتب في أربعة فصول (الأصولية الإسلامية، الإسلام والقانون، الإسلام والدولة، التربية والحداثة ) . تبدو عناوين الفصول مغرية بإقرار هذا التأويل الحسن لولا أن الكاتب انحرف منهجيا عما رسمه لنفسه من مباحث و أهداف فسيطر تحليله للأصولية الإسلامية على كل فصول الكتاب وعوض أن تكون نصوص الإسلام مثلما جاءت في عناوين الفصول محل دراسة كانت قراءة الأصوليين لهذه النصوص هي موضوع الدراسة وهنا تطرح جملة من الأسئلة: هل من الموضوعية العلمية أن يبحث الكاتب وهو رجل قانون عن خصوصيات المدونة القانونية في الإسلام " باعتبار موقف الإسلاميين منها" ليشترك معهم في الإقرار باندثار بعض مواد هذا القانون ويعني بها مواد القانون العقاري الذي "لم يعد احد يفكر في إعادة الاعتبار لها" بحسب تعبيره(ص57) غير أن هذا الاشتراك كان تمهيدا لما هو أهم واخطر إذ اعتبر الشرفي أن هناك قسما آخر من مواد القانون في التشريع الإسلامي" يريد الفقهاء و تيار الإسلام السياسي نسيانه" (ص57) في حين يتشبث به هو لأنه حسب رايه موزع على مجموع فصول القانون الإسلامي ومواده"يمكن جمعها في شكل مدونة ضخمة يمكن أن يصطلح عليها بمجلة الرقيق" (ص57) ولان المسألة "تقلق الأصوليين الإسلاميين حقا" حسب ما يرى الشرفي فإننا "مدعوون إلى الاختيار بين أمرين فإما أن نعتبر التشريع الإسلامي عملا بشريا وليس أمرا دينيا وفي هذه الحالة نتاج تاريخي وإذ ذاك عليه أن يخضع لقانون التاريخ ... وبالتالي ينبغي التخلي عن الرق وكذلك العقاب البدني والتمييز إزاء المرأة وإما أن نعتبره قانونا سماويا..."(ص59)وتبدو سذاجة هذا الربط بين الأمرين واضحة للباحث الموضوعي فلا يمكن أن يكون "قلق الإسلاميين " مهما بلغ مبررا لاستخلاص نتيجة بمثل خطورة القول بتاريخية النص الديني على المستوى الفكري والثقافي فأي منهج علمي يسمح لفقيه في القانون مثل الشرفي أن يستند إلى تصريح صحفي للشيخ الإخوة رئيس قائمة الإسلاميين في تونس لانتخابات 1989 أو لميثاق حركة حماس الفلسطينية (ص 58) ليعتبر أن النصوص المؤسسة في الحضارة الإسلامية هي نصوص تاريخية وتنجلي غرابة هذا التساؤل إذا تبين لنا أن هدف الشرفي كان الوصول إلى هذه النتيجة مسبقا غير انه جانب البحث العلمي الموضوعي واستند إلى قراءة مفترضة منه لمدونة لا يمكن بأي حال إلا أن تكون واحدة من جملة قراءات للنصوص المؤسسة ، يبرز هذا حين نقرأ قوله بأننا "وجدنا أنفسنا مرغمين على تصنيف الرق ضمن المجموعة الأولى من القواعد أي تلك المذكورة في القران(ص59) وطبعا لم يجد الشرفي سبيلا للخروج من هذا الحرج إلا الاستناد إلى قلق الإسلاميين ليخلص إلى القول بما أنهم لا يرغبون في العودة إلى هذه القوانين ولا يعتقدون بإمكانها "فلم التخلي عن الرق والتمسك بتعدد الزوجات أو العقاب البدني..؟"(ص59) وبعد استعراض مطول لمواقف سياسية للإسلاميين في مصر والجزائر وإيران حول المرأة والعقوبات البدنية التي بالغ في التشنيع بها والزنا التي طالب بحصر مفهومها في العلاقة بين شخصين متزوجين أما العازبان فلا يصح معاقبتهما بسبب الممارسة الجنسية خارج إطار الزواج لأنها لا تشتمل على خيانة ، بعد هذا الاستعراض خلص الكاتب واستنادا إلى تعريف الحدّ لغة إلى أن " كلمة الحدود المستعملة في القران تعني العقاب الذي ليس للقاضي أن يتجاوزه لكن تبقى له حرية واسعة في إصدار حكم اقل قسوة وأكثر رفقا "(ص92) لكنه رغم هذا الاستنتاج اقر بان العقوبات البدنية يصح نعتها بأنها من العقوبات التي تحط من الكرامة" (ص92) مرجعا وجودها في الإسلام إلى غياب "الحواضر " في بيئة الوحي ما يعني انه " لم تكن لهم بالتالي الهياكل المدنية اللازمة لنشأة الدولة .. وغيرها من مستلزمات العدالة التي يكون فيها الحكم على المجرم مؤديا من ناحية إلى إنصاف الضحية وأهلها ويكون راميا من ناحية أخرى إلى المحافظة على كرامة مرتكب المخالفة" (ص94) وان ورود الحدود في القران " يبررها السياق التاريخي السائد آنذاك"(ص95) الذي كان يفتقد إلى مؤسسة السجن ،وهنا تنبه الكاتب إلى الخطأ التاريخي الذي وقع فيه فاستدرك أن لفظ السجن وجد في القران عدة مرات لكنها لم توظف إلا لقص أطوار علاقة يوسف وموسى بالفراعنة"(ص95) ناسيا أن قريش التي نزل بها الوحي وغاب عنها مؤسسات الدولة كما قال الشرفي كانت تلجأ إلى عقوبة السجن وهددت بها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما ورد في سورة الأنفال( الآية 30). لعل أهمّ وأخطر استنتاج وصل إليه الكاتب في ما يتعلق بالإسلام والقانون هو الاستنتاج المتعلق بمصدري التشريع أي القران والسنة فهذه الأخيرة حسب الشرفي "لايمكن أن تصلح موردا للقانون لان أهل القانون محتاجون إلى نصوص ثابتة صحيحة دقيقة.."(ص114) وهي سمات لا تتوفر في نصوص الأحاديث حسب الشرفي سبب ما سجله من اختلاف بين المحدثين ورواة الحديث وبسبب ما قال انه اختلال قد يعتور الذاكرة التي تقوم عليها هذه الأحاديث، وهو تعليل يوقعه في مأزق باعتبار أن القران نفسه كتب اعتمادا على الذاكرة فإما أن يشكك في صحة القران وهو ما لم يتجرأ عليه و إما أن يناقض نفسه. ورغم أن الكاتب لم يشكك في دقة نص القران ولا صحة نقله إلا انه لم يسلم بوجود مدونة قانونية في هذا النص باستثناء بعض القواعد المتعلقة بالميراث والقانون الجنائي الذي اعتبره "طورا من أطوار المجتمع الإسلامي وهو طور ولى وانقضى"(ص115) لتبقى المادة المتعلقة بالميراث وحتى هذه اعتبرها الكاتب "ذات طابع اختياري باعتبار أن للإنسان دوما الحق في أن يوزع تركته على أقاربه على نحو غير النحو الذي يحدده الفقه"(ص117). وقد حسم الشرفي موقفه في نهاية التحليل بناء على ما استنتجه حول الميراث معتبرا " أن البرهنة تكون أيسر والاستنتاج يكون أوضح فيما يتعلق بمجالات القانون الأخرى"(ص121). ولم يجهد الشرفي نفسه في مبحث الإسلام والدولة ليؤكد غياب الحرية في الإسلام فاكتفى ببساطة أن يدحض حجة القائلين بها بمقارنة ما يعتمدونه من استعمال الشورى عند الخلفاء الراشدين بمثل ما كان يلجأ إليه ستالين من استشارة قادة جنده وهو تفسير لا تخفى بساطته خاصة إذا دعم بالاستنتاجات الأخرى في بقية الفصل حول ضرورة أقرار اللائكية الغائبة في الدول الإسلامية حسب رأيه كان يفسر فوز الإسلاميين في انتخابات تركيا بسيطرة نظام مدرسي إسلامي وهو ما دعاه ليخصص الفصل الأخير من كتابه إلى الحديث عن برنامج لإصلاح التربية والتعليم الذي حاول الإسلاميون في تونس السيطرة عليه بعدما أدوا دور "الشيطان الذي يحترم الرئيس" ويقصد بالرئيس الحبيب بورقيبة الرئيس السابق الذي "سعى إلى محق حركة ديمقراطية بخلق معارضة أصولية" (ص242) .وبصرف النظر عن المغالطات التاريخية التي تعمدها صاحب الكتاب فإن القارئ الفطن يبقى متعجبا من غياب أي علاقة بين ما طرحه الباحث من مواقف وقراءة شخصية للتيار الاصولى غيب معها حتى مدونة هذا الأخير ولم يعمد إلى تحليل خطابها ولا النظر في أدبياتها مثلما يقتضي منهج البحث الموضوعي وبين إشكالية الكتاب حول الإسلام والحرية. و إذا كان من حق كل امرئ أن يبني المنظومة التي يريد وفقا للقراءة التي تستقيم له طالما انه يجد لها سندا أو تأسيسا في مرجعياته الخاصة كما يقول الدكتور فهمي جدعان فإن من المثير أن يعمد رجل قانون وناشط حقوقي كمحمد الشرفي وفي كتاب حول الحرية إلى الدعوة لفرض هذا النسق الفكري الاقصائي بقوة الدولة لمجرد انه يرى غيره لا يستحق الحياة باعتباره يمثل " الخلل الخطير " الواجب معالجته حتى تكون الأزمة كبوة عارضة (ص219) سمير ساسي باحث وكاتب تونسي ------------------------------------------------------------------------
الاسم: سمير ساسي تاريخ الميلاد: 8 فبراير1967 الشهادات العلمية: - الأستاذية في اللغة والآداب العربية من جامعة منوبةتونس - الماجستير في الحضارة العربية من جامعة منوبةتونس التجربة المهنية: - صحفي بجريدة الموقف التونسية منذ سنة 2005 -شاعر وروائي: صدرت له رواية البرزخ عن المركز المغاربي للنشر والترجمة بلندن ومجموعة شعرية بعنوان سفر في ذاكرة المدينة. له دراسات جامعية منها مفهوم الفطرة عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور(نشرت بمجلة الدوحة الثقافية) ، القضايا اللغوية في علم أصول الفقه من خلال كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري وكتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ، والتيار السلفي في الفكر الإسلامي. له أعمال جاهزة للنشر: روايتان (خيوط الظلام وغدا يعانقنا النشور) وكتاب "حضارة الشكر نفي السلطة وتأسيس الحرية" ومجموعة شعرية تحت عنوان "ديوان كن"