بعد الضجة التي احدثتها محاولة رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين السطو على أرشيف رئاسة الجمهورية كتب أمس السبت الدكتور منصف الفخفاخ وهو أحد الخبرات الدولية في مجال الأرشيف فقد اشتغل لأكثر من 20 سنة في هذا المجال وكان مديرا عاما للارشيف الوطني لحدود سنة 2006، كتب حول هذا الموضوع ما يلي: يتضمن أرشيف رئاسة الجمهورية الوثائق الناشئة والمجمعة في عهد كل من الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس المخلوع زين العابدين بن علي والرئيس فؤاد المبزع والرئيس المؤقت المنصف المرزوقي ويمثل ذلك جزء مهما من أرشيف الدولة. بأي موجب قانوني تعمدت حاولت هيئة الحقيقة والكرامة السطو على أرشيف رئاسة الجمهورية؟بالرجوع إلى القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، نلاحظ أن الفصل 40 يمكّن الهيئة، في إطار إنجاز مهامها، من " النفاذ إلى الأرشيف العمومي والخاص بقطع النظر عن كل التحاجير الواردة بالتشريع الجاري به العمل". (يقصد بالتحجير المدد الواردة بالقوانين وخاصة قانون الأرشيف حيث يمكن الاطلاع على الأرشيف حسب مدد أدناها 30 سنة منذ نشأة الوثائق وأقصاها 100 سنة). ومعنى النفاذ هو الوصول للوثائق والاستفادة منها في إطار إنجاز مهام الهيئة وليس الاستحواذ عليها. ولا يمكن لهيئة الحقيقة والكرامة أن تأخذ كل أرشيف الدولة فهناك مؤسسة الأرشيف الوطني المكلفة بهذه المهمة وهي التي تجمّع الأرشيف وتنظّمه وتمكّن من الاطلاع عليه وهي مؤهلة لذلك من حيث الأخصائيين والمبنى والتجهيزات الضرورية لذلك. أما دور هيئة الحقيقة والكرامة فهو يتمثل في استعمال كل الوثائق التي لها علاقة بمهامها. هذا من حيث الأرشيف (يعني الوثائق التي لم تعد ضرورية للعمل العادي لمؤسسات الدولة)، وبخصوص الوثائق التي لازالت لدى مؤسسات الدولة ولم ترحل بعد إلى الأرشيف الوطني، فقد نص نفس الفصل 40 من القانون المذكور أعلاه (النقطة السابعة) على "مطالبة السلط القضائية والإدارية والهيئات العمومية وأي شخص طبيعي أو معنوي بمدها (الهيئة)بالوثائق أو المعلومات التي بحوزتهم"، ويقصد دائما في إطار إنجاز مهامها. كما نص الفصل 51 من القانون المذكور على أن "يتعين على مختلف مصالح الدولة والهيئات العمومية واللجان والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العمومية وجميع الموظفين العموميين مد رئيس الهيئة بتصاريح تتضمن كل ما بلغ إليهم وما أمكن لهم الحصول عليه في قيامهم أو بمناسبة قيامهم بمهامهم من معلومات ومعطيات تندرج ضمن مهام الهيئة أو من شأنها أن تساعد هذه الأخيرة على القيام بالمهام المنوطة بعهدتها على أحسن وجه".وفيما يتعلق بالوثائق التي سوف تتجمع لدى الهيئة والتي تضمّن مستندات القضايا والمسائل التي سوف تعالجها، فقد نص الفصل 44 من نفس القانون على أن "توصي الهيئة باتخاذ كل التدابير التي تراها ضرورية لحفظ الذاكرة الوطنية لضحايا الانتهاكات كما يمكن لها إقامة الأنشطة اللازمة لذلك"، وهذا أمر منطقي بما أن وجود الهيئة يكون مؤقتا (5 سنوات على أكثر تقدير). نستخلص من هذا العرض السريع لبعض محتويات القانون المتعلق بالعدالة الانتقالية أنه لا يجوز لهيئة الحقيقة والكرامة الاستحواذ على الأرشيف العام بل يمكنها فقط الوصول إلى الوثائق والمعلومات التي تساعدها على أداء مهامها. لماذا تعمدت هيئة الحقيقة والكرامة محاولة السطو على أرشيف رئاسة الجمهورية؟إن فهم مسؤولي هذه الهيئة لقانون الحقيقة والكرامة، والطريقة التي أرادت بها الاستحواذ على أرشيف رئاسة الجمهورية، والظرف السياسي الذي تم اختياره يجعل العملية محل ريب إلى أقصى الحدود وذلك للأسباب التالية: لم تبدأ الهيئة بعد فعليا في عملها ولم تركز كل اللجان التي ورد إحداثها في القرار عدد1 لسنة 2014 المؤرخ في 22 نوفمبر 2014 المتعلق بضبط النظام الداخلي لهيئة الحقيقة والكرامة وخاصة "لجنة حفظ الذاكرة الوطنية". (تتجاوز هذه التسمية الوظيفة المحددة في قانون العدالة الانتقالية ألا وهي ذكرى الانتهاكات وليس الذاكرة الوطنية). كيف للهيئة أن تختار في أول عملية نفاذ للأرشيف العام رئاسة الجمهورية والحال أن هذه المؤسسة لم تكن الجهة المباشرة للانتهاكات، فكل مسائل التعذيب والاعتقال غير المبرر والتجاوزات الأمنية وغيرها قامت بها وزارة الداخلية ووزارة العدل. وإذا كان هناك قرار رئاسي في تسليم أرشيف رئاسة الجمهورية للهيئة، لماذا لم يتم الاستظهار به عند الوصول إلى القصر الرئاسي. من الناحية اللوجستية، لم تستعد الهيئة بصفة مهنية لعملية نقل أرشيف رئاسة الجمهورية. فقد لاحظنا أن نوعية الكراتين المعدة في الشاحنات ليست ملائمة لحفظ وثائق الأرشيف. لماذا تم سوء الفهم لقانون العدالة الانتقالية، فإذا حصل ذلك من غير خلفية سياسية فهو يدل على عدم نضج المسؤولين على ذلك. وإذا حصل عن قصد فبأس المصير للعدالة الانتقالية. بما أن محاولة السطو على أرشيف رئاسة الجمهورية لا تحتّمها ضرورة فعلية وملحة لعمل الهيئة، فاختيار هذا الظرف بالذات، قبل تسلم الرئيس المنتخب رسميا لمهامه، ينم عن موقف سياسي.الخلاصة:وفقا لأحكام قانون الأرشيف (القانون عدد 95 لسنة 1988 المؤرخ في 2 أوت 1988المتعلق بالأرشيف)، يتعين ترحيل أرشيف رئاسة الجمهورية إلى مؤسسة الأرشيف الوطني مثلما يحصل لكافة مؤسسات الدولة. وهذا ما يجري به العمل في سائر الدول الديمقراطية