ترددت كثيرا ، وأجلت الأمر طويلا ، قبل أن يقر مني العزم ، على أن أغامر بالسباحة في المياه العميقة، وأنا أتقن فن العوم عادة، ولا أتهيب البحر، فأنا ابن شواطئ عندما كانت في مدينتي صفاقس شواطئ ممتعة بلونها اللازوردي الأزرق، قبل أن يهجم عليها تصنيع وحشي أحال تلك الشواطئ إلى مصبات قمامة الفوسفات . تذكرت كلمة كان يرددها على مسامعنا نحن أبناء الهادي العبيدي، الذي نسيه الناس ونسوا جرأته وشجاعته، وكتاباته المزلزلة، كان الرجل يردد "الصحفي والمفكر يسيران في مقدمة الركب ويقودانه، ولا ينبغي أن يتبعوا أهواء الناس، وكان يذكر بيتا من الشعر في هذا المعنى غاب عني". ما أود أن أقوله وأكتبه اليوم في بداية هذا العام الجديد، أننا أصبحنا في هذه البلاد بقياداتنا ، بصحفيينا، بمفكرينا نسعى وراء الجماهير بدل أن نقودها، وسيطرت علينا شعبوية قاتلة ، غابت الصراحة لإرضاء كل من هب ودب، وباتت قيادات التنظيمات الاجتماعية والقيادات السياسية حكما ومعارضة تسير وراء ما يرضي الناس، ورضاء الناس غاية لا تدرك، وبات الصحفيون، "والتعميم غير جائز" وأنا منهم يجرون لا وراء البحث عن "الحقيقة"، بل وراء إطراء العواطف مهما تعارضت مع المصلحة العامة، وسأتوقف عند ملاحظات معينة: ** قضية حادثة القطار، تم تناولها من الجانب الخطأ في رأيي، وأنا لا أعرف الرئيسة المديرة العامة ولم أسمع باسمها قبل أن تتقرر إقالتها، قد تكون غير كفئة، ولكن في هذه القضية بالذات، لأسوق أمرا غاب عن كل "المحللين" وهو أن القطار في سكته يتمتع بأولوية مطلقة، وأن على الذين يقطعون عليه الطريق أن يكونوا على انتباه كامل، وبالتالي لماذا لم يتساءل الناس وفي المقدمة أصحاب الحملة على الرئيسة المديرة العامة، والذين طالبوا بإقالة وزير النقل، وهو الآخر لا أعرف ولا أذكر اسمه إلا يوم عين في منصبه هذا، ألم يكن الأجدر بهم أن يسائلوا مدير شركة النقل الذي غامر سائقه بحافلة يحمل أوزار ركابها وهو من رمى بهم في فم وحش هو القطار. ووزير النقل في الحالتين يكون مسئولا لو لم يكن هذا الخطأ بشري، ومهما تعللنا وتعلل المسئولون بنقص في تجهيزات التقاطعات، ولم يدافعوا عن أمر مؤكد وهو أولوية القطار على سكته، وحتى ممثل الوزارة تحاشى أن يصارح الناس، ويحمل المسؤولية لمن وجب أن يتحملها مسايرة للرأي السائد، لا لحقيقة القانون، وأود أن أذكر هنا أنني في أحد أيام القيظ في صائفة 2008، وكنت في سيارتي في شارع يوغورطا، عند وصولي للإشارة الضوئية كانت حمراء، وتوقفت ، ولكن 7 أو 8 سيارات اخترقت الضوء الأحمر، وعندما وقفت بجانبي سيارة تحترم الإشارة الحمراء ، تساءلت بيني وبين نفسي " من هو هذا الساذج مثلي، الذي لا يخرق الضوء الأحمر " استدرت فمن وجدت ؟ محمد الغنوشي وكان آنذاك وزيرا أول يقف احتراما لإشارة المرور، التي خرقها عدة أشخاص قبله، بحيث نحن في هذه البلاد لا نحترم القوانين بما فيها قانون المرور، واليوم وبعد أن فرض وضع حزام الأمان داخل المدن، أراهن على أن الشرطة لن تجد سهولة في فرض احترام ذلك الإجراء . غير أن المؤلم في الأمر أكثر هو أن الصحافة مكتوبة ورقية أو إليكترونية وخاصة تلفزيونية وإذاعية، وفي مسايرة لا أريد أن أصفها دخلت في حملة ظالمة، دون بحث أو تدقيق. ** لا يمر يوم أو أسبوع دون أن يتم "اعتصام" على طريق يقطع السير، ويعطل المصالح ، ويصيب انسياب الحركة بالتوقف، هذا من أجل البرتقال، وهذا من أجل الحظائر، وهذا من أجل التعطل، والأدهى والأمر ما حصل من تعطيل تسيير الفوسفات، إلى مواقع تصنيعه أو تصديره، اتحاد الشغل ومن أجل عدم مواجهة أعداد من المتضررين، لا يبدو أنه يدافع عن مصالح شعب بكامله، وحكومات متعاقبة عاجزة عن أن تفرض سلطة القانون، مستشفى بعينه لا يسيره من ينبغي أن يسيره أي أساتذة جامعيين، بل من لهم مطالبات اجتماعية قد تنتهي وقد لا تنتهي هم من باتوا يتدخلون في التسيير والتصرف، ووزراء يقالون أو لا يجدد لهم تحت ضغط نقابات دورها لا فقط الدفاع عن المصالح المعنوية والمادية لمنظوريهم، وربما غيرهم في الطريق تحت ضغط شديد، وتعليمنا واقع تحت وقع إضرابات متواصلة، اليوم أو غدا إضراب آخر في التعليم. والأولياء في حيرة، التعليم الخاص أخذ يمتليء، ويتحسن مستواه، والذين يتمتعون بإمكانيات حتى قليلة "يتشعبطون" بين تعليم خاص بثمن، ومن الذين يتمتعون بمداخيل مرتفعة لا تجد إلا قلة من يبقون أبناءهم في المدرسة التونسية، بينما غصت المدرسة الفرنسية والانكليزية والأمريكية وحتى الألمانية والكندية بالتلاميذ التونسيين، الذين هربهم آباؤهم من التعليم العمومي، الذي على تدني مستواه بات يعيش إضرابات وراء إضرابات، تحت أنظار وأسماع مركزية نقابية، للمرء أن يتساءل إن ما زال يهمها أو لا مستقبل تونس وأبناؤها، ووداعا وحدة التعليم ، وتكوين أجيال متأصلة في مجتمعها ومناخها الاجتماعي التونسي، وسؤال مطروح على الجميع، هل تبقى المدرسة التونسية المكسب الذي بنته أجيال من المعلمين بالمفهوم الشامل للمعلمين، فقط لمن ليس لهم حظ ومال ، وينصرف الآخرون عنها ، لا فقط لانحدار مستواها واسألوا برنامج بيزا العالمي، بل وأيضا لما اعتراها من قلة انضباط وتذبذب وغياب استمرارية، وما ربحته المدرسة التونسية من أيام تواصل في الدراسة خسرته في عدد أيام الإضرابات مهما كانت شرعيتها فإنها تبقى ضارة بالتحصيل العلمي لأبناء المستقبل. ** ولأن المفكر والصحفي يسير في مقدمة الركب، ولا يلهث وراءه، ولأن المصارحة تجاه وضع يشكو من صمت القبور، فإني أواجه العاصفة عن وعي ودراية ، عل السواكن تتحرك، وتنزع الجمود والقبول بالدون حتى ينتفيا، كان هذا موقفي سنة 1990 عندما رفضت أن أساير التيار، فاتهمت وقتها ظلما بالبيع والشراء، فإني على الخط الذي اتبعت دوما من أجل الحقيقة، ومن أجل مصلحة البلاد، غضب من غضب، ورضي من رضي، شتم من شتم، وشكر من شكر، أحب من أحب وكره من كره، تلك هي شيمتي دوما وأبدا. وليس لي من خوف إلا من ضميري ومن الله.