فاجأت الثورة التونسية التي أدت إلى سقوط ديكتاتورية بن علي بصفة سريعة، فاجأت الملاحظين في تونس وفي العالم وأثارت... إندهاش بلدان العالم وحكوماتها أمام هذه التلقائية الثابتة التي أكدت أن "اليد تستطيع أن تعاند اللشفة" أو الإبرة وأظهرت أن الشعب عندما يتشبث بالحياة الحرة فإن القدر يستجيب لهذه الرغبة وكان في اللزوم أن ينكب العلماء من مؤرخين وإقتصاديين وسياسيين على بحث الأسباب الظاهرة والخفية والعوامل التي ساهمت في إنهيار نظام قائم بالأساس على سيطرة رجل بل أسرة وهيمنة مؤسسات قمعية إنهارت جميعها خلال ساعات قليلة. وقد توالى عقد الندوات والملتقيات العلمية لبحث هذه الأسباب وإعطاء الثورة الاعتبار الذي تستحق ذلك أن عديد المعلقين سيما الأوروبيين حاولوا إلصاق نعوت بهذه الثورة بعيدة كل البعد عن محتواها وكنهها وروحها العالية. وقد خصصت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بالتعاون مع مؤسسة "كونراد أديناور" بتونس مؤتمرها الخامس والثلاثين لمنتدى الفكر المعاصر حول "الثورة التونسية : بداية عهد جديد في الوطن العربي" والذي خصص لبحث أسباب هذه الثورة وأبعادها ونظرة العالم إليها. وقد قدمت خلال الأيام الثلاثة التي تواصلت خلالها الأشغال 23 محاضرة ووزعت على تسع جلسات. وقد أعطيت إشارة إنطلاق أشغال المؤتمر بأربع مداخلات ألقت نظرة على توجهات وتمشي هذه الندوة وتوخيها سبيل البحث العلمي في مختلف أركان الثورة التونسية. فقد ركز الدكتور عبد الجليل التميمي على خصوصيات الثورة التونسية وعفوية إنطلاقها من عمق التراب التونسي ودون قيادات مؤدلجة لا شرقية ولا غربية وكان محور مطالبها هو الدفاع عن عدد من القيم الإنسانية من كرامة وعدالة إجتماعية ومحاربة الفساد وإقامة الحكم الرشيد وممارسة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، كما أكد أن الفضاء الجغراسياسي العربي يشهد الانفجار الثوري العربي الذي دخل بفضله العرب في جدلية الفعل التاريخي ورهانهم المستقبلي على الديمقراطية. وتعرّض الدكتور كلاوس لاوتزير الممثل الإقليمي لمؤسسة "كونراد أديناور" بتونس والجزائر الذي ذكر بثورة الشعب الألماني على الديكتاتورية النازية وأرسى محلها ديمقراطية مبنية على الخاصيات السياسية والتاريخية والعقائدية الثقافية للشعب الألماني الذي ركز نظامه الجديد على نظام فيدرالي لا مركزي أعطى نتائجه الإيجابية التي يعيشها هذا الشعب منذ خمسين سنة. وذكر الدكتور كلاوس أن المؤسسة التي يمثلها بتونس والجزائر مقرة العزم على مواصلة تقديم الدّعم لشركائها لمساعدتهم لإنجاح مرحلة التحول الديمقراطي في تونس طبقا للأطروحات التي يقدمونها. أما الأستاذ الجامعي الدكتور فتحي التريكي فقدم تحليلا معمقا لجدلية الحفاظ على الذاكرة الحية للشعب التوني والأخذ بالاعتبار لكل الروافد والعوامل المؤثرة فيه. وقدّم الأستاذ مصطفى كمال النابلي تحليلا معمقا للوضع الاقتصادي ببلادنا بعد الثورة والرهانات الدقيقة التي تستوجب من القيادات السياسية بالبلاد والشعب أخذها بعين الاعتبار لإتخاذ الإجراءات والحوافز الضرورية لمجابهة التحديات والرهانات الاقتصادية التي تواجهها البلاد. وشدد المحافظ على وجوب المحافظة على استقلالية البنك المركزي باعتبار أن ذلك شكل مفهوما جديدا للعلاقة بين الحكومة ومعهد الإصدار في الأدبيات الاقتصادية منذ حوالي ثلاثة عقود، وبدأ تكريسها في العديد من البلدان المتقدمة والنامية، وختم الأستاذ النابلي كلمته قائلا بأن تحديات مراحل الانتقال الديمقراطي تستوجب النجاح في التوازن والدعم المتبادل بين التحول الاقتصادي والتحول السياسي والذي باستطاعته استرجاع النمو وتطوير السياسات لتستجيب إلى حاجيات وتطلعات المجتمع. وقد انكب المشاركون في هذا المؤتمر على الاستماع إلى المداخلات العلمية التي بلغ عددها ثلاثا وعشرين مداخلة علمية قدمت خاصيات الثورة التونسية التي ساهمت مكوّنات المجتمع المدني عبر الصيغ السياسية والمدنية في الحراك الاجتماعي منذ أحداث الحوض المنجمي وقد تمّ التصدّي لمحاولات الالتفاف على الثورة، وأن هذا المجتمع المنبثق من الثورة هو بصدد التشكل، وهو منفعل بالعملية السياسية والبناء الذهني للواقع الاجتماعي والاقتصادي في تونس. كما أكد الأساتذة العرب الذين تدخلوا أن الثورة التونسية هي أولى الثورات العربية بصمودها وقدرة شبابها على مناهضة النظام السابق لتحرير أنفسهم من الديكتاتورية، وتم ذلك بمساندة الشعب والشباب المتعلم والمنفتح، فكانوا بحق عنوان فخر واعتزاز لبلادهم وللوطن العربي. وأكدوا في محاضراتهم أن الثورة التونسية تطرح أسئلة إجرائية لبلورة الموضوع مثل التأريخ للحدث وتعريف طبيعته وجغرافيته والذي أفرز في لحظة معينة تعبيرا إجتماعيا وثقافيا وسياسيا في إطار بحث مشروع عن مجتمع ديمقراطي بكل المقاييس وإن المبادئ التي أفرزتها تفتح آفاقا رحبة للتنمية الشاملة، شريطة حسن توظيف هذه المبادئ خدمة للصالح العام. غير أن الأمر ليس بالسهولة التي يعتقدها البعض، حيث أن التحديات كبيرة ومتنوعة. والتساؤل كيف الاهتداء إلى تجسيم الإصلاحات العميقة التي تستوجبها عديد القطاعات ذات العلاقة بالتنمية في ظل نظام ديمقراطي ناشئ. كما أشاروا إلى أن إرساء دعائم العدالة الانتقالية تتجاوز مآسي الماضي وانتهاكات حقوق الإنسان وحرياته خلال فترات الحكم الاستبدادي الذي مارسته الأنظمة العربية، وتقوم على مبدأ المصالحة أولا ثم المصالحة والتسامح وطي صفحة الماضي، ويتم ذلك بتكليف لجنة أو هيئة منتخبة أو متفق عليها يتم تنظيم عملها بموجب قانون يمكنها من الاضطلاع بدور فاعل لتوثيق الانتهاكات وجمع الطلبات وتحقيق المكاشفة بين الضحايا والجناة، وصولا إلى تعويض الضحايا الذين يتم تأهيلهم من قبل فرق متخصصة لمحاسبة الجناة وفقا لضمانات المحاكمة العادلة كما يرى هؤلاء المتدخلون. إن الثورات العربية كما يراها الحكام الأوربيون قد جسمت خوفهم من حالة عدم استتباب الأمن حيث كان الأوربيون يغضون الطرف حول مناهضة الحريات وعدم مطالبتهم البتة للعمل على ممارسة الديمقراطية بالمغرب العربي، والذي أصبح بالنسبة للأوروبيين جميعا القلعة الحصينة ضد المدّ الإسلامي. وإن أوروبا كانت فضاء غير متحرك وهو مشحون بمنطق النزعة الاستعمارية وليس له أي بعد جغراستراتيجي لفهم المتغيرات الجيوسياسية التي أحدثها ربيع الثورات العربية. وفي جدليتهم عن الإسلام السياسي فيرى المتداخلون إننا مقبلون على مرحلة جديدة بعد إستلام الإسلاميين للسلطة، وتتسم بظهور إسلام براغماتي معتدل يقدم البديل الموضوعي لانتصارات الجماهير في الشغل والتعليم والتنمية، بعيدا عن الإسلام الدموي والتطرف الجهادي السلفي والإرهابي. وتعرضت بعض التحاليل إلى عمليات الاعتصمات فيرون أن أهمية إعتصامات القصبة 1 و 2 و 3 كآلية نضالية مبكرة، كانت نتائجها السياسية فاعلة ونادت منذ اللحظة الأولى بعدد من المطالب الجوهرية والتي تحقق البعض منها. ومع هذا فإن شعور الشباب أن ثورتهم قد سرقت منهم وتم الالتفاف على مبادئها، وقد برزت عشرات الشعارات في اللافتات عكست نضجا سياسيا عاليا. وفي هذا الإطار تم بث فيلم وثائقي حول أحداث الاعتصمات وما تعرض له الشباب من انتهاكات صارخة من طرف الأمن والمندسين من بقايا التجمع، أبرزت قوة الدفع الثورية، أما القول بأن الثورة هي مجرد إنتفاضة سوف تؤدي مع مرور الوقت إلى الثورة، هو حكم متسرع وجائر. كما أكدت أهم التجليات التي أفرزتها هذه الثورات كعلاقة الشباب بالتقنية المعلوماتية إذ كان للشباب دور المحفز لقيمة وأهمية المعلومات التي بثت عبر المدونين وأن تحولت هذه الثورة إلى تيار فاعل ساهم فيه كل أطياف الشباب المتفاعل مع مبادئ الثورة، ولا شك أن هذا التيار قد تعمم على صعيد البلاد العربية وبصفة أخص بمصر واليمن وسوريا. وقد استمعت هذه الندوة إلى رؤى وتمثلات عينية من الشباب التونسي ودور الشباب في الانتقال الديمقراطي وتوصف بعدم رضا الشباب عن محاولات سرقة الثورة وإقصائهم وإعتبار أنفسهم حراس الثورة والقوة الرئيسية لمواصلة المشوار للتأسيس لديمقراطية مستدامة. إضافة إلى عدد من الأطروحات لا سيما الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين والفوضويين، مع وجود بدائل للأنظمة التسلطية، وفكرة جدلية الداخل والخارج، خصوصا فيما يذهب إليه البعض بشأن نظرية المؤامرة، والتساؤل القائم هل العرب يحتاجون إلى الديمقراطية ؟ وهل بيئة الإسلام تشجع على الديمقراطية أم أنها بيئة إرهاب ؟ أين تموقع الهوية الوطنية والدعوة إلى الحفاظ والتوازن والتواصل وإبراز خصوصيات، المشكل الثقافي في البلدان العربية ؟ ويتضح من مختلف المداخلات أن الديبلوماسية الأمريكية تجاه ربيع الثورات العربية تستند إلى عدة عوامل تاريخية حددت ملامحها من قبل وقضت بتزاوج القيم الديمقراطية والدفاع عن المصالح الحيوية الأمريكية، وبالنسبة لتونس، فإن المحاور التي برزت للعلاقات بين البلدين لم تتغير، ما عدا ذلك التغيير الذي ارتبط بمناخ الحرية والديمقراطية من الجانب التونسي. وقد أعطت أوروبا وأمريكا الأولوية إلى المسائل الأمنية على حساب القيم الكونية والديمقراطية والتنمية المتقاسمة والرخاء المشترك في الفضاء المغاربي، وبالتالي فإن الخروج من اللامغرب، وحل قضية الصحراء الغربية وحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، هي من أهم شروط الحوكمة السليمة في النزاعات الإقليمية بعد الثورات العربية.