تحمل كل من إيران وتركيا رؤية خاصة للمنطقة العربية تتلاءم مع توجهات السياسة الخارجية لكلا البلدين بما يخدم الإستراتيجية الكبرى لكل منهما ومن الطبيعي ضمن هذا السياق ووفق هذه المعطيات أن تنعكس رؤية كل منهما على طبيعة فهمهما لما يجري في الوطن العربي وما يتمنيان ويسعيان إلى أن ينتج عنه . تركيا : مساندة الثورات العربية أمر حتمي فبالنسبة لتركيا فتوجه دول المنطقة نحو الديمقراطية هو أمر حتمي وإن طال كما أن الشعوب العربية ستسعى لتحقيق ذلك عاجلا أم آجلا وهذا يعني أن على تركيا مساندة المطالب الشعبية الطامحة إلى المزيد من الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان انطلاقا من القيم التي تؤمن بها ،أما كيفية الوصول إلى ذلك فإن السياسة التركية ترى ان الإصلاح الجذري داخل كل نظام عربي لا يزال ممكنا إذا كان هناك إرادة حقيقية لذلك وهي تفضل أن تستجيب الأنظمة العربية لمطالب شعوبها وإلا فإن انتقال السلطة بشكل سلمي في حال فشل الإصلاح هو الخيار الأصلح خوفا من حدوث تدخل دولي تتخوف أنقرة منه أصلا ولا يترك لها مجالا للمناورة ، فتركيا لا تستطيع أن تكون دولة خارجة عن القانون الدولي أو غير متحملة لما يلقيه عليها من التزامات ومسؤوليات . إيران : الثورات العربية هي امتداد للثورة الإيرانية أما عن الجانب الإيراني وباستثناء الحالة السورية فتعتبر الثورات العربية وفقا لمنظور نظام المرشد الأعلى والولي الفقيه علي خامنئي ومن بعده رئيس البلاد أحمدي نجاد ورئيس البرلمان فهو امتداد للثورة الإيرانية التي انطلقت عام 1979 ، وتعبّر هذه الثورات العربية عن صحوة إسلامية تقودها الشعوب المسلمة وتتمحور حول نفس قيم الثورة الإيرانية المتمثلة بالإطاحة ب " الطغاة" و" عملاء الغرب" ومعاداة أمريكا وإسرائيل ومساندة المستضعفين والمظلومين ضد "الاستكبار العالمي" بما يساهم في " قيام شرق أوسط إسلامي "، أما عن طريقة تحقيق ذلك فنفهم من تصريحات المسؤولين الإيرانيين أن المحبذ لديهم أن تتمّ من خلال الشعوب وخاصة الحركات الإسلامية التي عانت وناضلت ولا مانع من حصول انقلابات إذا أدت هذا الغرض، مع العلم أن المادة ال 3 من الدستور الإيراني والمادة 154 تعطيان الحق لإيران " بالمؤازرة الكاملة لمستضعفي العالم" وبدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد " المستكبرين " في أيّة نقطة من العالم . أين تقع مصالح البلدين من الثورات العربية ؟ حتى فترة ما قبل الثورة السورية كانت معظم التحليلات السياسية تقول أن الثورات العربية ستعمل على تقوية موقع إيران في المعادلة الإقليمية على اعتبار أن موجة الثورات العربية تتجه حصرا لضرب الأنظمة الحليفة لأمريكا وأن السبب الرئيسي في ذلك هو التقاعس في نصرة القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل . ولكن مع تطور الأحداث في البلدان العربية تبيّن أن المسألة لا تتعلق بمعطى خارجي مرتبط بالقضية الفلسطينية أو باستعداء إسرائيل أو أمريكا فالدوافع خارجية والمطالب الأساسية مرتبطة بالحريات والحقوق الإنسانية والعدالة الاجتماعية والكرامة . وسرعان ما أدرك الجميع دقة هذا التشخيص عندما وصلت الأمور إلى دمشق ، ورغم أن الجزم باستفادة أحد الطرفين أي الايراني والتركي دون الآخر غير ممكن حاليا بانتظار ما ستكشف عنه الأحداث إلا أن ذلك لا يلغي إمكانية تقديم تصوّر لانعكاسات الثورات العربية على مصالح طهرانوأنقرة ومكاسب وخسائر كل منهما على المدى القصير والمتوسط وحتى البعيد . 1- فعلى المدى القصير : فإن عدم الاستقرار وهي الحالة التي خلفتها الثورات العربية داخل البلدان التي اندلعت منها وفي محيطها الإقليمي سوف تؤدي إلى تقويض السياسة الخارجية التركية القائمة على مبدإ الأمن والاستقرار الإقليمي ، أما بالنسبة لإيران فإنها تملك خبرة أكثر من تركيا إزاء الفوضى الأمنية التي خلقتها الثورات العربية ولها إمكانية الصمود أكثر في وجه تلك الهزات في مثل هذه الظروف بل أن إيران ربما تستفيد من حالة التخبط في البلدان العربية بسبب الثورات من أجل التسلل إليها. أما على المستوى الاقتصادي فإن عدم الاستقرار الأمني قد يخلق لتركيا مشاكل على مستوى الاستثمارات بالخصوص لأن أنقرة بدأت مشروعها الاقتصادي على الانفتاح الاقتصادي على العرب ، أما الإيرانيون فيمكنهم الاستفادة من ذلك الوضع مرة أخرى خاصة على مستوى ارتفاع أسعار النفط مما يضمن أن الثورات العربية ستعمل على تغذية خزانة طهران المالية إضافة إلى تحريرها من الضغوطات الاقتصادية بسبب الحصار الأمريكي الأوروبي المفروض عليها . أيضا أمكن لإيران أن تستفيد من التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا على أساس أن الخيار العسكري مستقبلا سخّر لحسم مشاكل الدول غير جذاب وغير مجد وهذا ما سوف تعمل به قوات الناتو مع إيران . 2-على المدى المتوسط والبعيد :من المنتظر أن تفضي الثورات العربية إذا لم تتحول إلى فوضى شاملة في البلدان التي انطلقت منها إلى أنظمة تعبّر عن الواقع الشعبي أكثر صحة في تمثيل الشعوب وأكثر ديمقراطية في الحكم وتحقيق بيئة مستقرة على المستوى الإقليمي ، ولا شك أنه أثناء سعي الشعوب العربية لتحقيق هذا التصور فإن التجربة الإقليمية التركية ستبقى حاضرة لما قدمته من نموذج ناجح في تحقيق مفاهيم تداول السلطة والإسلام في نموذجها السياسي والاعتدال الإسلامي في نموذجها الديني والاستقلالية في القرار في سياستها الخارجية والتفوق في النموذج الاقتصادي ، ولكن من المنتظر ان تعاني إيران على المدى المتوسط والبعيد من خسائر فادحة قد تكون الأكثر كلفة على الإطلاق منذ ثورتها الخمينية خاصة إلى ما أدت الثورة في سوريا إلى إسقاط نظام حليفها بشار الأسد وما سيتبعه من تراجع دراماتيكي للنفوذ الإيراني في سوريا ولبنان وفي فلسطين والعراق والخليج عموما . وقد تسقط هذه الثورات العربية النظام الإيراني نفسه بعد أن ينحسر نفوذه في المنطقة ويزداد تآكلا من الداخل وحتى ولئن نجا هذا النظام فإن العديد من المحللين رجحوا عزله وحشره في الزّاويّة . ولكن ما هي انعكاسات الثورات العربية على العلاقات الثنائية بين البلدين ؟ لطالما نجحت أنقرةوطهران في كبت خلافاتهما في ظل توازن قدرات البلدين على المستوى الإقليمي ولكن مع التحولات الحالية التي تتعرض لها المنطقة فمن المحتمل أن تؤدي الثورات إلى خلل في ذلك التوازن لصالح أنقرة أو طهران إضافة إلى تضارب كبير في مصالح كل منهما . ويقول المراقبون أن إطار الاحتكاك بين الطرفين حالي يتمثل في دائرة الخليج العربي ودائرة لبنان وفلسطين . فبالنسبة لدائرة الخليج العربي فإن الخليجيين هم من أدخلوا تركيا إلى مسرحهم منذ عام 2008 عبر اتفاقية سياسية واقتصادية وأمنية هي الأولى من نوعها تعقدها دول الخليج مع أي دولة في العالم ، كما أن الأتراك حاولوا وخلافا للإيرانيين الابتعاد بأنفسهم عن أي خلاف سنّي شيعي بما مكنهم من التواصل مع الجميع في العراق وفي البحرين بالخصوص ، خلافا للإيرانيين . أما بالنسبة للبنان وفلسطين فقد تمكنت أنقرة في السنوات الماضية عبر علاقتها مع دمشق من دخول لبنان ونسجها لعلاقات مع جميع الطوائف والأطراف الشيء الذي لم ترحب به طهران . ومنذ العدوان الإسرائيلي على غزة تصاعد النفوذ التركي في القطاع وفي الضفة الغربية أيضا بعد موقف أردوغان في " دافوس" والاعتداء على " أسطول الحرية 1" . وينتظر أن تشكل تداعيات الحالة السورية التي تمثل عنصر تقاطع بين المشروعين التركي والإيراني تحديا بالغ الخطورة وينتظر أن تشكل نهاية الأمور في سوريا منعطفا حاسما على موقع أحد الطرفين في المنطقة العربية .