نعم المطلوب الآن أن ننسى الإصلاح ونتجاهل مجرد الكلمة، ونغلق الملف الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى مطلب شعبي، مثلما تحول في أيدي حكوماتنا إلى مجرد ورقة للعب بالعواطف والتلاعب بالعقول. أطرف ما سمعته مؤخراً، أن التمهيد لحملة محو الإصلاح معنى ومبنى، من ذاكرتنا، قد بدأ الترويج للقول إن الإصلاح يعني أن هناك فساداً وأوضاعاً مختلة يجب إصلاحها، وهذا غير صحيح، كما يدعون، إنما الصحيح أن نستخدم كلمة التغيير بدلاً من الإصلاح. وأظن أننا سوف نشهد في الفترة القادمة، هذا التحول اللفظي الدال، من ترديد كلمة الإصلاح إلى إشاعة وإفشاء كلمة التغيير، دلالة على نفض اليد عن حكاية الإصلاح وخصوصاً الإصلاح السياسي والديمقراطي، بعد أن صار مكروهاً منبوذاً، تحت وهم أن التغيير أخف وطأة من الإصلاح، بينما للكلمتين معانٍ متقاربة، ذلك أن التغيير أيضاً يعني أن هناك أوضاعاً غير سليمة وفاسدة يجب تغييرها. ولا أعرف من هو العبقري، الذي يريد ذلك، والذي يكن كراهية وعداوة شديدة لفكرة الإصلاح من أساسها، والذي لم يقرأ ولم يدرك أن كلمة الإصلاح معنى ومبنى، قد جرى تداولها منذ بدايات عصر التنوير والنهضة، الذي بدأ في بلادنا خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، على أيدي رواد عظام مثل رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وعبدالرحمن الكواكبي ولطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين والعقاد، وغيرهم من الأساطين الذين طالبوا بالإصلاح في مواجهة التخلف والفساد، الذي تراكم في مصر والأمتين العربية والإسلامية. ومنذ ذلك الوقت وقضية النهوض والإصلاح، مطروحة تنتعش أحياناً وتكبت وتتوارى أحياناً أخرى، لكن العقد الأخير الرابط بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، شهد انتعاشة جديدة وجريئة لقضية الإصلاح وضروراته الملحة، انعكست بشكل مباشر على الأوضاع العامة في مصر وأكثر من دولة عربية وذلك لأسباب ثلاثة، أولها الإصرار الشعبي الغلاب على ضرورة تغيير الأوضاع وإسقاط عهود الاستبداد والحكم الفردي، وإطلاق الحريات العامة وفي مقدماتها حرية الصحافة والرأي والتعبير، وإجراء إصلاحات دستورية وسياسية تحترم الحرية وحقوق الإنسان. وثاني الأسباب يكمن في المناخ الدولي الذي يشهد الموجة العالمية من التحول الديمقراطي “على النموذج الغربي” والذي أطاح بنظم حكم شمولية وديكتاتوريات عارمة، واستبدل بها نظما ديمقراطية جديدة أو شبه ديمقراطية. أما ثالث الأسباب فتمثل في الضغوط العاتية التي مارستها الولاياتالمتحدةالأمريكية على حكوماتنا، لإجراء إصلاح ديمقراطي شامل، في إطار التوجه الأمريكي بأن غياب الديمقراطية هو السبب الوحيد، الذي أفرز الإرهاب وجند الإرهابيين. * * * ومن يتذكر حدة الضغوط الأمريكية بل والأوروبية، على حكوماتنا خلال أعوام 2003 حتى ،2005 لدفعها نحو الإصلاحات الديمقراطية، متراوحة ما بين النقد والهجوم الإعلامي والسياسي العلني، وبين استخدام وسائل ضغط سياسية واقتصادية أخرى “مثل التهديد بوقف المعونات”، امتدادا للنقد العلني من الرئيس الأمريكي لرؤسائنا، من يتذكر ذلك كله، وبعضه لا يزال ساخناً حاضراً، ثم يقارنه بحقيقة الموقف الأمريكي الآن من حكاية الإصلاح، يعرف أن حجم الفارق كبير، وأن الضغط الأمريكي كان ابتزازاً سياسياً، أكثر منه رغبة حقيقية في مساعدة بلادنا على التحول نحو الإصلاح الديمقراطي. لم تعد أمريكا مهتمة بالديمقراطية في بلادنا، ولم يعد الإصلاح مطروحاً على أجندة الرئيس الأمريكي، بعد أن سحب كل ما قاله طوال السنوات الماضية حول “الرسالة الإلهية التي تلقاها لكي يبشر بقيم الإصلاح والديمقراطية”، في المجتمعات العربية والإسلامية التي تحكم بالحديد والنار، لم تعد أمريكا تهتم لأن اهتماماتها الرئيسية انصرفت إلى اتجاهات أخرى، بل نقول إنها وقعت في أزمات حادة تهدد مصالحها الحيوية الاستراتيجية، من ورطتها في غزو العراق، إلى ورطتها في أفغانستان، ومن هذه وتلك إلى الأزمة النووية الإيرانية، وهي وغيرها مثل فلسطين ولبنان والسودان، أزمات استدعت أن تخوض جيوشها حروباً متسعة الجبهات، وأن تخوض دبلوماسيتها معارك أكثر اتساعاً تتعرض فيها لنقد بل لكراهية الشعوب، وأن تتعرض مصالحها الاقتصادية وخصوصاً النفط وطرق التجارة، لمخاطر شتى جراء هذه الأزمات، تخسر فيها مليارات وراء المليارات. فكيف يمكن لأمريكا أن تتحدث عن الإصلاح الديمقراطي في بلادنا، بينما هي غارقة لأذنيها في أزمات عسكرية سياسية اقتصادية حادة، وكيف يمكن لواشنطن أن تضغط على الحكومات العربية مثلا، التي طالما وصفتها بأنها استبدادية فاسدة، بينما هي تحتاجها الآن للوقوف إلى جانبها في أزماتها وورطاتها المتعددة، ولذلك قايضت الأطراف المتحالفة “الأمريكية والعربية” صفقة بصفقة، كف الحديث عن الإصلاح الديمقراطي، مقابل الوقوف إلى جانبكم في أزماتكم. استحضرت كل هذه الأفكار والتحولات، وأنا أشارك الأسبوع الماضي في المؤتمر الخامس للإصلاح العربي، الذي تنظمه مكتبة الإسكندرية كل عام، تذكرت “وثيقة الإسكندرية” التي صدرت عام ،2004 والتي رسمت خطة الإصلاح العربي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. ترى أين هي الآن، ما مصيرها، هل استفادت منها النظم العربية، هل قرأها حاكم عربي واحد؟ عشرات الأسئلة تزاحمت ليس على عقلي فقط، ولكن على عقول مئات الحاضرين من المثقفين العرب، ومعظمهم يشارك بانتظام في مؤتمرات الإصلاح بمكتبة الإسكندرية منذ المؤتمر الأول عام 2004. الحقيقة أن الوثيقة تحولت في عرف المثقفين وبعض السياسيين العرب، إلى مرجعية فكرية وسياسية للإصلاح العربي، بينما تحولت عند ذوي الشأن وأصحاب القرار، إلى ملف في خزينة سرية يأكلها التناسي ثم النسيان، وبقدر ما رحبت بها أمريكا وأوروبا آنذاك، بقدر ما استقبلتها القمة العربية المنعقدة في تونس ،2004 استقبالاً فاتراً، لكنها استخدمتها ورقة مقايضة تجاه الضغط الأمريكي.. وهذا ما حذرنا منه في حينه وعلانية. * * * اعترف بأن الإحباط واليأس قد أصاباني من انتكاس الأحلام الوردية بإصلاح شامل وعاجل، مللت المشاركة في مؤتمرات وندوات لا تحصى حول الإصلاح، لكنني في الوقت نفسه حريص على المشاركة في المؤتمر السنوي للإصلاح بمكتبة الإسكندرية، حيث أجد التواصل الشخصي والمعرفي، وحيث الحوارات والمناقشات الحرة والآراء المتصادمة، التي تظللها دائماً وثيقة الإسكندرية الداعية للإصلاح بأيدينا لا بأيدي غيرنا، وهي دعوة نؤمن بها ونساندها. تجنبا للرتابة والتكرار، وبصرف النظر عن “اللت والعجن” وفي بادرة إيجابية، أصدر مرصد الإصلاح العربي، الذي أقيم وفق وثيقة الإسكندرية، تقريره السنوي الأول الذي يرصد خطى الإصلاح السياسي الاقتصادي والاجتماعي الثقافي في العالم العربي، وقد اعتمد التقرير على دراسات واستطلاعات رأي وبحوث علمية، لقياس مدى ما حققته الدول العربية في مسيرة الإصلاح، وأظنه من جانبي قليلاً بل ضئيلاً، لكن مبادرة إصدار هذا التقرير مؤخراً، تمثل تحولاً إيجابياً يسهم على الأقل في دعم دعاوى الإصلاح والتحريض على التمسك به، في وجه المعاندة الحكومية. لقد ظل المثقفون والسياسيون والباحثون العرب، سنوات طوالاً، يعتمدون في دراساتهم وبحوثهم حول الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية العربية، على تقارير أجنبية تصدر عن عشرات من مراكز البحوث الأمريكية والأوروبية، لكن التقرير السنوي لمرصد الإصلاح بمكتبة الإسكندرية، إضافة إلى التقرير العربي للتنمية البشرية، يفتح باباً جديداً للتعمق في قضية الإصلاح في بلادنا، ضروراته ومعوقاته، ويثير حواراً جاداً حول هذه القضية الجوهرية، ويبتعد عن تقارير الدعاية والترويج السياسي الفج، وذلك بفضل مجموعة الخبراء والمؤلفين القائمين عليه، وهم من أفضل العقول العربية. ترحيبي هذا بتقرير مرصد الإصلاح العربي، لا يمنعني من التنبيه إلى آفة تتحكم فينا، إذ نبدأ الخطوات بقوة وسرعة وجدية، ثم بعد حين تتباطأ الخطى ويضعف الجهد ويزول الحماس، فتختفي الجدية والموضوعية، وتتسلل التأثيرات المناقضة والآفات الضارة، ونصحو على الخرق يتسع على الراتق، ويصبح حديث الإصلاح والتغيير مجرد ثرثرة صالونات، لا تصلح ولا تغير، بينما الفساد والاستبداد يتراكم.