عاجل/بعد التحقيق معهما: هذا ما تقرر في حق الصحفية خلود المبروك والممثل القانوني ل"IFM"..    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    ماذا يحدث في حركة الطيران بفرنسا ؟    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    شهداء وجرحى في قصف صهيوني على مدينة رفح جنوب قطاع غزة..#خبر_عاجل    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    اليوم: عودة الهدوء بعد تقلّبات جوّية    شهادة ملكية لدارك المسجّلة في دفتر خانة ضاعتلك...شنوا تعمل ؟    قفصة: تورط طفل قاصر في نشل هاتف جوال لتلميذ    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لهذه الأمراض بسبب لسعة بعوض.. علماء يحذرون    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    خلال لقائه الحشاني/ سعيد يفجرها: "نحن مدعوون اليوم لاتخاذ قرارات مصيرية لا تحتمل التردّد"    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس    قفصة: عمّال بشركة نقل المواد المنجمية يعلقون إضراب الجوع    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    سعيد: لا أحد فوق القانون والذين يدّعون بأنهم ضحايا لغياب الحرية هم من أشدّ أعدائها    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    هام/ الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة بداية من الغد    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    عاجل/ الاحتفاظ بأحد الاطراف الرئيسية الضالعة في احداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    رئيس الحكومة يدعو لمتابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    السيطرة على إصابات مرض الجرب المسجلة في صفوف تلامذة المدرسة الإعدادية الفجوح والمدرسة الابتدائية ام البشنة بمعتمدية فرنانة    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل التيّار الإصلاحي يجنّبنا الجمود فعلاً؟!
مشروع الشرق الأوسط الكبير ومخاطره على الأمّة ومستقبلها:
نشر في الشعب يوم 18 - 11 - 2006

لم تعرف أيّ منطقة في العالم من مشاريع الهيمنة، مثل ما عرفت المنطقة العربية في عصرها الحديث. وهذا وإن كان يدل على مكانتها وعراقتها وعلى أنها منبع الثقافات والحضارات القديمة، إلا أنه يدل أيضا على سوء حظها من حيث ما ابتليت به من أنظمة سياسية فاسدة، أعاقت تكاملها وبناء ذاتها،
وجعلتها هدفا للطامعين وعاجزة عن مواجهة مشاريع الهيمنة والعدوان. فقد ظلت مستهدفة على الدوام، من مرحلة الاستعمار المباشر ومنذ أن بدأت مشاريع التجزئة والتقسيم مع اتفاقية «سايكس بيكوّ» سنة 1916 وتواصلت هذه المشاريع مع احتلال فلسطينّ(1948) وحلف بغداد ومشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعده «شمعون بيريز» رئيس وزراء إسرائيل السابق وطرحه على الساحة العربية في 1994 من القرن المنصرم. وما إن حلّت سنة 2004 في الثلاثة أشهر الأولى حتى هلّت على المنطقة مبادرات جديدة متلفّعة بشعارات براقة نذكر منها :
المبادرة الدنماركية : التي اهتمّت بالشراكة من أجل التقدم والإصلاح والحريات والديمقراطية، كما اهتمّت أيضا بالأمن الإقليمي في الشرق العربي. وتقوم هذه المبادرة على الحوار والمشاورات وتدعو إلى توسيع النطاق الجغرافي ليشمل الدول المجاورة للعرب.
المبادرة الألمانية : التي كشف عنها وزير خارجية ألمانيا «يوشكافيشر» في مؤتمر «ميونيخ» للأمن في 27/02/2004 بحضور وزراء الخارجية والدفاع ومسؤولين أمنيين من 34 دولة وهذه المبادرة تهدف إلى جعل المنطقة العربية من المغرب وحتّى سوريا منطقة تجارية حرّة، تشمل أساسا الدول المتوسطية بما فيها إسرائيل، وتدعو في الآن نفسه إلى وضع إعلان من أجل المستقبل موجّه إلى كامل منطقة الشرقين : الأدنى والأوسط، بما في ذلك إيران وأفغانستان، يقوم على المشاركة في «إرساء الديمقراطية ودولة القانون والتخلّي عن العنف»(1) ويرى وزير خارجية ألمانيا أن خطر ما سمّاه «الإرهاب الجهادي « لا يهدد الغرب وحده وإنما أيضا العالمين : العربي والإسلامي.
ونلاحظ على هاتين المبادرتين أنهما لا تنظران إلى المنطقة العربية على أنها كتلة واحدة متكاملة من حقها أن تبني نفسها وتعزّز وحدتها، فهما من هذه الناحية ذاتا طابع أوسطي مقصود. ومهما كانت نقائصهما وأغراضهما الخفية فلا تقارنان بالمبادرة الأمريكية كما سنرى. وقد تسلّمت الجامعة العربية كلاّ من المبادتين : الدنماركية والألمانية.
المبادرة الأمريكية: وهي المشروع الذي يسمّى : «الشرق الأوسط الكبير» الذي يضم إلى جانب الدول العربية كلاّ من إسرائيل وتركيا وإيران وافغانستان وباكستان. وسبق لبوش أن أعلن في خطاب شهير في 6 نوفمبر 2003 عن الخطوط العريضة لهذا المشروع مركّزا بصفة خاصة على الديمقراطية وقضية الحريات مصوّرا نفسه كما لو كان مبعوث العناية الإلهية ورسولها المختار للبشرية. واختياري لهذا المشروع وإفراده بالدراسة لكونه من أخطر المشاريع التي عرفتها المنطقة في تاريخها الحديث.
المحتوى العامّ للمشروع :
اهتمّ المشروع بما سمّّاه النواقص الثلاث، وهي : الحرية، المعرفة، تمكين النساء، المساهمة من وجهة النظر الأمريكية في خلق الظروف المهدّدة للمصالح «الوطنية لكل أعضاء مجموعة ال 8»(2) وفي هذا السياق وقع تناول الحالة المتردّية التي عليها الوضع العربي. والبديل عنها كما جاء في نص المشروع «هو الطريق إلى الإصلاح» وذلك بأن يقوم الثمانية الكبار بتحديد أولويات مشتركة تعالج تلك النواقص عبر :
- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح
- بناء مجتمع معرفي
- توسيع الفرص الاقتصادية
ويمكن لنا من خلال هذه العناوين، وما جاء في المشروع بصفة عامة، حوصلة ما ذكر في شأن حالة التردّي التي عليها العالم العربي فيما يلي :
الوضع الاقتصادي والاجتماعي:
- الدخل الإجمالي لكل البلدان العربية( 22 دولة) أقل من نظيره في أسبانيا
- تزايد معدل البطالة الذي سيبلغ 25 مليونا في سنة 2010
- يعيش ثلث المنطقة العربية على أقل من دولارين في اليوم، وأن مستوى النمو دون 3 %
- عبّر51 % من الشباب العربي عن رغبتهم في الهجرة.
الوضع السياسي :
- يمثل النساء في البرلمانات العربية 5,3 %
- صنّف تقرير «فريدوم هاوس» لعام 2003، إسرائيل بكونها البلد الوحيد الحرّ في الشرق الأوسط الكبير.
- في تقرير التنمية البشرية 2003 فمن بين «سبع مناطق في العالم حصلت البلدان العربية على أدنى درجة في الحرية»
- على صعيد تمكين النساء، لا يتقدّم العالم العربي إلا على إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
- تصدّر العرب لائحة من يؤيد في أرجاء العالم أن «الديمقراطية أفضل من أي شكل للحكم»
التخلّف العلمي والثقافي :
- لا يمثل ما تنتجه البلدان العربية من الكتب سوى 1,1 % من الإجمالي العالمي
- ربع خريجي الجامعات يهاجرون.
- استيراد التكنولوجيا.
- عدد الكتب المترجمة إلى اللغة اليونانية التي لا يتكلمها سوى 11 مليون شخص خمسة أضعاف ما يترجم إلى اللغة العربية.
- 65 مليونا من الراشدين يعانون من الأمية، والثلثان من النساء.
- النقص الفادح في الكتب التعليمية، في مجال الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع وعلوم الطبيعة المنطقة في المستوى الأدنى من حيث الاستفادة بالإنترنت والتواصل به. ففي إمكان 6,1 % فقط من استخدام هذه التقنية المتطورة «وهو رقم أقلّ ممّا هو عليه في أيّ منطقة أخرى في العالم بما في ذلك بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى»(3)
هذه الوضعيات المفجعة عن الوضع العربي الراهن لم تعتمدها أمريكا بناء على دراسات أنجزها مختصوها في هذا الصدد، وإنما أخذتها من تقريري التنمية البشرية لعامي 2002
و2003 اللذين أعدّا من قبل مختصين عرب(4).
واعتماد أمريكا على هذين التقريرين، في هذه الناحية، كان بغرض نفي أي شكّ في صحّة الأرقام، أو أيّ اتّهام يوجّه إليها بتزييفها. كما أرادت أن تبيّن من وراء ذلك أن الإصلاح مطلب شعبي داخلي مطروح في الساحة العربية، وهو ما أكّده التقريران وألحّا عليه، وأن العائق الأساسي الحائل دون الشروع فيه، هو الأنظمة العربية لفسادها وديكتاتوريتها وطبيعة حكمها المطلق. وما مشروعها الذي تقدّمت به إلاّ استجابة لمصلحة الجماهير العريضة في التغيير. فتلبية مطامحها وضرورة إخراج المنطقة من حالة التردّي تتطلّبان برنامج إصلاح شامل يقوم على التحديث والتنمية والديمقراطية وتوفير الحريات للجميع أفرادا وجماعات.
والغرض من اختيار أمريكا لهذا المدخل في الولوج إلى المنطقة ليس إلاّ الخداع والظهور بوجه غير وجهها الحقيقي. وهذا جانب من توجّهها العامّ في هذه المرحلة، مرحلة العولمة، فهي على الرغم من حقيقتها العدوانية لم تر حرجا أن تتلفّع بشعارين كاذبين هما شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن هنا وجدنا رئيسها بوش الابن يطْلع على الناس فجأة ليعلن أنه رسول الديمقراطية وأنه المنقذ المنتظر الذي سيتمّ على يديه خلاص البشرية والعرب على وجه الخصوص. فانتقد في خطابه السالف الذكر السياسة الأمريكية السابقة معيبا عليها دعمها للدكتاتوريات العربية الإسلامية، وأنه، في نظره آن الأوان لتغيير هذه السياسة. واتّباع سياسة جديدة تقوم على نشر الديمقراطية ودعمها.
وتمشيا مع هذا الاتّجاه، وسعيا لتوفير عوامل النجاح للرسالة البوشية، فإنه يتعين على «مجموعة الثمانية أن تظهر تأييدها للإصلاح الديمقراطي في المنطقة عبر الالتزام بما يلي»(5)
- دعم الانتخابات الحرّة في جميع المجالات وتقديم المساعدات في هذه الناحية
- تنظيم زيارات برلمانية بين العرب ونظرائهم في بلدان مجموعة الثمانية
- تركيز الاهتمام على صوغ التشريعات وتطبيق الإصلاح التشريعي والقانوني وتمثيل الناخبين
- إنشاء معاهد خاصة بالنساء لتدريبهن على القيادة والمشاركة في الحياة السياسية
- تقديم المساعدات القانونية للناس العاديين عن طريق إنشاء مراكز تتولّى تقديم المشورة
- اقتراحات بإنشاء وسائل إعلام مستقلّة ومتقدّمة
- تطوير منظمات المجتمع المدني من ديمقراطية وحقوقية ونسائية وإعلامية وغيرها، وإتاحة الفرصة لها للعمل بحرية مع توفير التمويلات لها للقيام بمهامها.
بهذه الصورة وغيرها من الصورة الأخرى تجاوزت أمريكا حدود التدخل في الشؤون الداخلية للمنطقة، وحكمت على أهلها بالقصور وجعلت نفسها قيّمة على الجميع، متجاهلة بطريقة مهينة الحكام العرب الذين تعمّدت عدم استشارتهم فيما أقدمت عليه، ولم تطلعهم على مشروعها الذي سلّمته للثمانية الكبار ليتدارسوه ويكون أحد بنود أعمال قمّتهم التي ستنعقد في آخر يونيو المنتظر بولاية جورجيا بأمريكا.
قلق الأنظمة العربيّة ومخاوفها :
انزعجت الأنظمة العربية من مشروع الشرق الأوسط الكبير، وانتابتها المخاوف من تصريحات بوش وغيره من المسؤولين الأمريكيين وقد سبق لأحدهم وهو «هانس» مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية أن نادى صراحة بعد مضي عام على أحداث سبتمبر «بفرض الديمقراطية على العالم العربي والإسلامي ... لأجل تلافي أخطار تهدّد الأمن الأمريكي»(6) ومن هنا كان المشروع بالفعل ضربة موجعة للأنظمة العربية لا لما وقع الكشف عنه من حقائق مؤلمة في الواقع العربي فحسب، ولكن أيضا لكون هذه الضربة جاءت من السيد الكبير الذي لم يقصّر حكّام العرب في خدمته والولاء له، فبعد طول عهد الصداقة مع أمريكا وجدت هذه الأنظمة نفسها في موقف حرج لا تحسد عليه الأمر الذي أربكها واضطرّها إلى المداراة، فأعلنت أنّها تؤمن بالإصلاح وأنه على حدّ تعبير الرئيس المصري حسني مبارك «ضرورة يجنبنا الجمود»، وهي إذ تتحفّظ على مشروع الشرق الأوسط الكبير فلكونه صيغ بعيدا عن المنطقة التي لها خصوصيتها الثقافية والدينية ولها تقاليدها وأعرافها المتميّزة بها وهذه مسائل أساسية لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار تفاديا للفشل على حد زعمها، وهي هنا تراوغ وتراوح، وأن الإعلان عن إيمانها بالإصلاح، ما هو إلاّ أكذوبة مفضوحة، فما الذي منعها من إنجازه وقد مضى على بعض قادتها المنتخبين في السلطة عقدان وعقدان ونصف وأكثر من ثلاثة عقود. فلو كانت لديها نيّة في الإصلاح لتجلّى ذلك في سياساتها طوال المدد المذكورة، فالأمر على العكس، لم ير الناس منها إلا المزيد من خنق الحريات، والمزيد من تدهور الأوضاع العامّة مع الرفض التامّ لأيّ تداول للمسؤولية في مستوى الرئاسة. وما تزال مصر إلى الآن محكومة بقانون الطواري منذ ربع قرن وطيلة حكم حسني مبارك المتواصل منذ 24 سنة.
وما تبديه الحكومات العربية من معارضة للمشروع الأمريكي ليس من قبيل الحرص على مصالح المنطقة، وإنّما هو لخشيتها من موقف أمريكا في هذه المرحلة الذي بدت تشعر نحوه بعدم الاطمئنان وتخشى على نفسها من تحولاته. فأمريكا بتوجّهاتها الجديدة تجاه المنطقة غيّرت من نظرتها إلى الأوضاع القائمة، فهي لم تعد محتاجة، كما كان في السابق، إلى الأنظمة العربية التي سلبتها إرادتها وعزلتها، عن طريق التعامل الثنائي، عن بعضها. وانتهت بها إلى الاستسلام، وإلى استخدامها وتوظيفها فيما تريده من الأغراض كما فعلت مع العراق. فقد جنّدت العديد منها في المشاركة لاحتلاله( مصر والأردن والسعودية وبقية دول الخليج).
وها هي الآن ترفع في وجهها بطاقة الديمقراطية لابتزازها أكثر من ذي قبل وحملها على المزيد من التنازلات بل هي قد لا تقف معها عند هذا الحدّ، فالرغبة في تغيير أوضاع المنطقة تدفعها، بكل تأكيد إلى تبديل بعض الأنظمة، كما هو واضح من سياستها واستراتيجيتها العامّة ومن تصريحات بعض مسؤوليها ف»هانس» السابق الذكر تحدث عن إمكانية «القبول بوصول حزب إسلامي للحكم عبر انتخابات حرّة رغم الخوف من أن هذا قد يضرّ بمصالح أمريكا»(7) هذا بالطبع في الحالات التي يتعذر فيها وجود إمكانيات أخرى تحقّق عملية التبديل وتغيير الهياكل. ومن هنا يتّضح السبب الحقيقي لخوف الأنظمة العربية على نفسها، إذ هي مهدّدة إمّا بالتبديل المباشر، وإمّا بإجبارها على إجراء تغييرات داخلية تؤدّي في نهاية المطاف إلى تغيير الأوضاع والحكم.
وإذا كانت السعودية من أكثر الأنظمة العربية تخوّفا، فإن النظام المصري قد ظهر للجميع إرتباكه، وراوح بين الرفض للمشروع والتحفظ عليه مؤمّلا في الحصول على تفاهم مع أمريكا يجنّبه ما يريد أن يتفاداه من العواقب المنتظرة. وهو ما حمله على اللجوء إلى أروبا طالبا مساعدتها على تجاوز هذا المأزق، كما أنه والسعودية وسوريا أعدّوا وثيقة مشتركة بديلة عن المشروع الأمريكي، ليست الغاية منها القيام بالإصلاحات المطلوبة وإنما لخلق ما يشبه الجبهة للمحافظة على الوضع القائم ولمواجهة ما يحدث من المستجدّات وقد ظهر هذا في أزمة القمة العربية الأخيرة المنعقدة بتونس، فقد تجلّى للجميع عجزها وسيطرة النفوذ الأمريكي على قادتها، مخيبة كالعادة آمال أشقائنا في فلسطين والعراق والشارع العربي عامة، ولعلّ شماتة الكاتب المصري محمد حماد كانت في محلها عندما اعتبر مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي، بالنسبة لحكام العرب بمثابة «العلقة» (طريحة باللهجة التونسية) فقال : «لم يتصور حكام منهم أن نهاية خدمة العزّ علقة الإصلاح ولا توقّع واحد فيهم أن أمريكا التي أسقطت ديمقراطيات وأيّدت ديكتاتوريات سيأتي عليها يوم تطالبهم بالإصلاح»(8)
الجلبيّون :
لقد أحدثت أمريكا بمشروعها الشرق الأوسطي الكبير ردود أفعال واسعة في البلاد العربية، في المستوى الرسمي والإعلامي والشارع العربي. وفي خضم هذه الردود برز تيّار سياسي- ثقافي إعلامي يرحّب علنا بالمشروع الأمريكي ويرى فيه طوق النجاة والسبيل إلى الخلاص من الأنظمة القائمة، وأصبح يدافع عن أمريكا باعتبارها الدولة العظمى المتحكّمة في العالم والتي لا مفرّ من التعامل معها والاستفادة من مشروعها الإصلاحي الذي جاء ليساعدنا على وضع حدّ للحكم المطلق، ولا يمكن لنا في هذا الحالة ونحن على ما نحن عليه من العجز أن نتجاهله وأن نفرّط فيما يمكن أن يتاح لنا من إمكانيات الخلاص.
هذا التيار المتأمرك، المعولم، يتفادى عن عمد أن يتساءل عن الدوافع الحقيقية لأمريكا من وراء هذا المشروع. وهل كانت تهدف فعلا إلى الإصلاح لأجل عيون العرب والمسلمين ؟ أم أنّ هناك أغراض أخرى تبيّت لها ؟ كما يتناسى أصحاب هذا التيار أن النظام الإمبريالي الترهيبي المتسلّط معاد بطبيعته للديمقراطية. وما عرفت به أمريكا ليس تخليص الشعوب من المظالم وإنما بدعمها لأعتى الديكتاتوريات في العالم مثل نظام سيموزا والشاه والجينرال بينوشيه، وبإسقاطها، في المقابل لأنظمة متبنّية الخيار الديمقراطي والانتخاب العام كما حصل مع حكومة مصدّق في إيران (1953) ومع حكومة سلفادور ألند في الشيلي ومع حكومة شافاز في فينيزويلا. وهذا يعني في نهاية التحليل أن هذا التيار هو من صنع السياسة الأمريكية ومن ضمن ترتيباتها في علاقتها بالساحة العربية، وما تبنّيه لشعار الديمقراطية وحقوق الإنسان إلاّ من باب التعمية والتغطية على حقيقته، فهو طيف جديد من التيارات المشبوهة في المنطقة وهو عندنا في تونس امتداد للتيار الفرنكوفوني المنبتّ ذي النزعة الصليبية - الصهوينة. له أشكال تنظيمية وأسماء مختلفة، مثل : المتوسطي، اللبيرالي المغاربي، المجتمع المدني التونسي وغير ذلك. وظهوره بأشكال تنظيمية تدعو إلى الحذر فبعضها، بكلّ تأكيد، بإيعاز من المخابرات الأمريكية، وبتدبير منها إذ هي ترمي من وراء هيكلته في منظمات وجمعيات إلى جعله فاعلا يعوّل عليه فيما يجنّد له عند الحاجة.
وتعويل أمريكا على المنظمات والأشخاص ليس جديدا، ومشروعها الشرق الأوسط الكبير اهتمّ بهذه الناحية وتحدث عن إنشاء جمعيات متنوعة ديمقراطية وحقوقية ونسائية وإعلامية وغيرها، وحرص حرصا خاصا على تأمين التمويلات لها. وقد أطلق الناس على أصحاب هذا التيار وهذه الجمعيات تسمية «الجلبيين» تشبيها لهم بأشقائهم في العراق، وصاروا معروفين بهذه التسمية وهم الآن في سوريا ومصر وتونس يشكّلون بدائل منتظرة وأداة أمريكية في الولوج إلى الساحة الداخلية والتعامل معها بصيغ مختلفة.
ومن هنا وجدنا جماعة «المجتمع المدني التونسي» تعدّ عريضة وتدعو إلى الإمضاء عليها وتطمئن أصحابها بأن الإمضات ستكون سرية لا يعرفها إلاّ البيت الأبيض. ووجهت هذه العريضة إلى بوش طالبة منه أن يفرض الحرية والديمقراطية في تونس، قائلة له في توسّل :»افرضوا سيدي الرئيس هذه الحرّية كما هو مطلوب من رئيس دولة عظمى أن يفعله زمن الحرب وفي ظل انعدام الأمن العالمي...»(9)
وإلى جانب هؤلاء هناك أيضا المهرولون إلى السفارة الأمريكية للاجتماع بالمسؤولين الأمريكيين كما حصل في تونس في جانفي 2004 وفي فيفري 2005، وفي أوقات أخرى وأخيرا في شهر أكتوبر الماضي وهناك الملبّون لدعوات الضيافة المشبوهة في واشنطن التي خصّهم بها البيت الأبيض الأمريكي.
وعلى العموم فالجلبيون المعولمون والمنسلخون من وطنيتهم هم خطر سياسي داخلي، دعّمهم المشروع الأمريكي وزاد من خطرهم على قضايانا الوطنية والقومية.
علاقته بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة :
قد يتساءل البعض ممّن يجهلون حقائق الأوضاع عن الدواعي التي حدت بأمريكا إلى طرح مشروعها مع ما عرفت به من عداء للمنطقة العربية ومع ما جرّته عليها من ويلات. وهذا يعني أنه لكي نفهم مراميها فلا بدّ أن ننظر إلى هذا المشروع في علاقته بمصالحها واستراتيجيتها الجديدة في بسط نفوذها على العالم، وهو أمر يتطلّب منها فرض هيمنتها على المنطقة العربية بشكل يختلف عن الشكل السابق. وبما أنّ هذه الهيمنة لن تتمّ لها بالصورة التي تريدها إلاّ بغزو العراق باعتباره القوّة الإقليمية المناوئة لهيمنتها والمتصدّية بعناد للتطبيع وسياسة الاستلام للصهاينة، بالإضافة إلى ما يمتلكه من مؤهلات واقتدار ذاتي. وهذا ما حقّقته بالفعل وحقّقت معه :
- استسلام القيادات العربية استسلاما تامّا
- التحكّم في الثروة النفطية لا لسد حاجياتها الضخمة والمتزايدة فحسب، ولكن أيضا لإجبار الدول الكبيرة على الانصياع لقراراتها وتوجّهاتها.
ومن الواضح أن لأمريكا، في ظل العولمة وتحوّلاتها، رؤية جديدة تختلف عن رؤيتها القديمة في تكييف العالم الأمر الذي يدفعها إلى إعادة ترتيب كثير من الأوضاع على المستويين : الإقليمي والدولي. وهذا فعلا ما عبّر عنه العديد من المنظرين المسؤولين الأمريكيين فقد سبق ل»برنارد لويس» البريطاني، وهو من كبار الأكادميين والمنظّرين المختصّين في قضايا الشرق الأوسط وتاريخه الحديث، أن طرح في سنة 1993 «فكرة التدخل في شؤون دول المشرق من أجل إقامة الديمقراطية»(10) فيها. وهي فكرة تدعو، بوضوح، إلى تحوير أوضاع المنطقة وترتيبها على نحو جديد. ولإنجاز هذه المهمّة، فإنّه يتعيّن على الولايات المتّحدة الأمريكية ألاّ تضعف «تجاه العالم الإسلامي»(11) وألاّ تلتفت إلى «ما يسمّى عبثا بالشارع العربيّ»(12). وبالنسبة للمنطقة العربية فقد تحدث وزير الخارجية الأمريكي «كولن باول» أثناء الاستعداد لغزو العراق عن ضرورة إعادة ترتيبها سياسيا أي إعادة صياغتها على النحو الذي تريده أمريكا تمشّيا مع تلك الرؤية الجديدة في إعادة تكييف العالم. وبتعبير أكثر دقّة فإنّ أمريكا تسعى إلى إعادة تشكيلنا على مستوى الذات والكيان. ومن هنا جاء مشروع الشرق الأوسط الكبير لتحقيق هذا الهدف العدواني الخطير سواء بمزاعمه الديمقراطية أو بما عبر عنه من النواقص في المجالين : التعليمي والمعرفي أو بما قدّمه من حلول مغشوشة في المجال الاقتصادي (توسيع الفرص الاقتصادية). فعن طريق رفعها لشعار الديمقراطية الترهيبي للأنظمة العربية تستطيع أن تبتزّ ما تشاء وأن تفرض ما تريده من تغيير في أيّ ناحية من نواحي الحياة العامة للمجتمع العربي، كما تستطيع عن طريق الجمعيات المموّلة وغيرها من الوسائل الأخرى أن تجنّد الكثيرين لخدمة أغراضها.
ففي المجالين : التعليمي والمعرفي، بدأت الحكومات العربية، في المرحلة الأولى، تعيد النظر في بعض المقرّرات تحت ضغط إسرائيل وصهاينتها. أمّا الآن، فهي تعيد النظر في الحياة التعليمية كلها تحت الضغط الأمريكي، فقد أرسلت واشنطن في سنة 2003 بعد احتلال العراق ما يقارب 80 خبيرا لفحص البرامج التعليمية وإدخال تحويرات جذرية عليها، فاستجابت لها الحكومات العربية، وهي صاغرة، وشرعت في تغيير محتويات المقررات الدراسية مع إضافة مضامين جديدة ذات أغراض خفية تستهدف وعي وسلوك الصغار والأجيال الصاعدة. ومن هنا شاع الحديث عن إلغاء مادة التاريخ والتربية الدينية في تونس كما تردّد في مصر إلغاء مادة التربية الدينة وتعويضها بمادة الأخلاق(13). وقامت سوريا من جهتها بإلغاء الزيّ العسكري للتلامذة دفعة واحدة وقد مرّ على استعماله عدة عقود متواصلة.
ومشروع الشرق الأوسط الكبير، وإن لم يذكر ما يجب أن يدرس من الموادّ وما يجب أن يحذف منها أو يضاف إليها إلاّ أنّه ربط عملية إعادة النظر في التعليم بملتقى يضمّ «تيارات الرأي العامّ المتطلّعة إلى الإصلاح والقطاع الخاصّ وقادة الهيئات المدنية والاجتماعية في المنطقة ونظرائهم من الولايات المتحدة والاتحاد الأروبي وذلك لتحديد المواقع والمواضيع التي تتطلب المعالجة والتباحث في سبيل التغلّب على النواقص في حقل التعليم»(14)
وبهذه الطريقة يمكن لأمريكا أن تغيّر ما تشاء وتحذف وتضيف ما تشاء ولا أحد يعترض عليها أو يعتبر هذا الموضوع ليس من شأنها ولا يحقّ لها التدخل فيه.
أما في المجال الاقتصادي فقد فرضت المنظمات المالية الدولية في الثمانينات على دول المنطقة تطبيق الليبرالية الجديدة القائمة على الخصخصة والتحرير التامّ والاندماج في سوق العولمة. وبرّرت القيادات العربية خضوعها لهذه اللبيرالية، كما جاء على لسان الرئيس الجزائري بوتفليقة بأن ما حدث من تغيير هو تيار عالمي لا مفرّ من مسايرته. وأدّى هذه الخضوع إلى تداعيات وتطورات مختلفة منها على وجه الخصوص، بيع مؤسسات وقطاعات أساسية في حياة المجتمع إلى الأجانب منها ما هو حيوي واستراتيجي كقطاع الاسمنت (تونس على سبيل المثال).
وإذا عدنا إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير المرتبط بتوجهات العولمة ومتطلباتها، نجده في فقرة «توسيع الفرص الاقتصادية» يتضمن بالأساس النقاط التالية :
- التأكيد على أن مفتاح التحوّل لبلدان الشرق الأوسط الكبير يقوم على «إطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة»(15)
- تمويل الدول الثمانية (الكبار) للمشاريع الصغيرة على أن يقع التركيز من ورائه على الربح خصوصا المشاريع التي تقوم بها النساء.
- إنشاء مجموعة الثمانية لمؤسّسة مالية مشتركة للمساعدة في مشاريع الأعمال المتوسطة والكبيرة.
- إحداث شراكة بين الثمانية ودول المنطقة في النظام المالي، الهدف منها إطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها في المنطقة مع التركيز على :
* تخفيض سيطرة الدولة على الخدمات المالية
* رفع الحواجز على المعاملات المالية بين الدول
* تحسين وتوسيع الوسائل المالية لاقتصاد السوق
- إنشاء الثمانية لمناطق في الشرق الأوسط الكبير لتحسين التبادل التجاري في المنطقة وما يتعلّق بالرسوم الجمركية كما ستساعد على دعم النشاط التجاري للقطاع الخاص وتقوية الصلات بين المشاريع الخاصة.
وهنا نلاحظ أن المشروع لم يركّز على التنمية الشاملة وعلى تطوير القطاعات الاقتصادية ضمن برنامج متكامل يقوم على تلبية حاجيات الجماهير العريضة في المنطقة، وذلك بالسعي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وإلى توفير الشغل والحدّ من الاستيراد، وبالعمل أيضا ضمن خطة التطوير الشامل على معالجة القضايا الاجتماعية من سكن وصحة وتعليم وغير ذلك. وكلّ هذا يجب أن يتمّ بالتركيز أساسا على استيعاب التكنولوجيا الحديثة والوصول بمجتمعاتنا إلى مرحلة الإبداع فيها.
فالمشروع الأمريكي بدل أن يتّجه هذا الاتّجاه، نجده على العكس اهتمّ بالخصخصة، وتوظيف رؤوس الأموال الأجنبية، وإنشاء النظم المالية، وتدعيم اقتصاد السوق، والحدّ من دور الدولة، والسماح بتنقّل الأموال لا داخل الأقطار المعنية فقط ولكن أيضا إلى خارجها، وغير ذلك من الإجراءات التي تحتّمها الليبرالية الجديدة. والمتتبّع بدقّة لفقرات هذا المشروع يعرف أنّه بني على المغالطة وطمس الحقائق. فقد تحدّث عن «تجسير الهوّة الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير» وما يتطلّبه من تحوّل اقتصادي، وتجاهل عن قصد دور إسرائيل في عرقلة هذا التجسير والتحوّل. وفي الوقت الذي يأخذ فيه من تقريري التنمية البشرية ما يراه مناسبا من المعلومات فإنّه يهمل عن عمد معلومات أخرى مناقضة لأسس مزاعمه الإصلاحية. فجاء في تقرير التنمية البشرية 2003 «أنّ الاحتلال الإسرائيلي هو من أكثر معوّقات التنمية البشرية استشراء في البلدان العربية». وهذه انتقائية مفضوحة لاحظها وزير الخارجية الفرنسي «دوفيلبان» في حديثه لصحيفة «لو فيغارو» يوم 19/02/2004 عندما قال عن المبادرة الأمريكية :»إنّها تهمل الصراع العربي- الإسرائيلي، وأنّها جاءت من غير تشاور مسبق مع العرب، إضافة إلى أنّها تعمّم الحلول ولا تأخذ بالاعتبار خصوصية كل وضع».
وإذا كان هذا هو مضمون الإصلاح الاقتصادي، فإن الديمقراطية المقترحة والملائمة له لا يمكن إلاّ أن تكون شكلية ومجرد مكياج خارجي له، إذ هي بالأساس ديمقراطية السوق والقطاع الخاص والليبراليين الجدد.
وبهذا تتضح الأبعاد الحقيقية لمشروع الشرق الأوسط الكبير وعلاقته بالأهداف الأمريكية وباستراتيجيتها الجديدة.
أهداف المشروع ومخاطره :
من التحليل المتقدم تتّضح لنا أهداف هذا المشروع ومخاطره على المنطقة العربية. فأمريكا لو كانت تريد خيرا بالعرب ما دعّمت الكيان الصهيوني ولا ساندت جرائمه ضد الشعب الفلسطيني صاحب الحق الشرعي في الأرض، ولا أيّدت السياسات المتخاذلة والحائلة دون تكتيل المنطقة وتوحّدها، بل هي تعمل بإصرار على أن نظلّ ضعفاء على الدوام ومتخلّفين اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا. وها هي الآن وبعد احتلال العراق تكيد لنا من جديد، وتعمل على تدميرنا بصور مختلفة، كما هو واضح في البنود التالية :
1 بتداول صيغة «الشرق الأوسط الكبير» بصفتها مفهوما استراتيجيا يتمّ إلغاء الكلمات الدالة على الكيان العربي وتمييزه، مثل : المنطقة العربية، العالم العربي، الجامعة العربية، وهذه خطوة أولى في التعتيم على وجوده جغرافيا وحضاريا وسبق لدوائر غريبة أن قامت بعملية طمس مشابهه في التاريخ القديم، فقد فرضت إطلاق تسمية «سامي» و»سامية» على شعوب المنطقة بدلا من تسمية «عربي» و»عربية» والحال أن لفظة «سامي» لا وجود لها في النقوش والكتابات القديمة، فهي أسطورة توراتية روّجتها الدراسات اللاهوتية الأوروبية على يد عالم اللاهوت النمساوي - الألماني «شلوزر Schelozer» سنة 1781
2 دمج المنطقة العربية مع غيرها من البلدان الأخرى يحرمها من بناء تكتّلها ويحقّق للصهاينة حلمهم في النفاذ إليها والتحكّم فيها بمختلف الوسائل لتحقيق أغراضهم العدوانية التي يبيّتون لها من زمن طويل.
3 هذا المشروع يأتي - كما هو واضح - ضمن الاستراتيجية الأمريكية في إعادة تشكيل المنطقة وفق رؤيتها الجديدة للعالم وهو ما جعلها «هذه المرّة تتّجه إلى الداخل إلى العمق أي إلى التربية والتعليم والثقافة والتاريخ والدين وكل القيم التي تكوّن شخصيتنا وتربط حاضرنا بماضينا»(16) وهو ما يمكّنها حسب تقديرها، من طمس هويتها العربية وقتل خصوصيتها الثقافية.
4 تخريب الحياة السياسية والثقافية عن طريق ما أنشئ ويجري إنشاؤه من منظمات وجمعيات متنوّعة، تنتحل شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان. والمعروف أن معظم هذه المنظمات والجمعيات في البلاد العربية تعيش على التمويلات الأجنبية. وهذا ما جعلها لا تهتم بالقضايا الأساسية من وطنية وقومية. وإذا ما ساهمت في تحرّك أو نشاط له علاقة بهذه القضايا فمن باب ذرّ الرماد على العيون وتفاديا للعتاب واللوم وهاهو الكاتب المصري هويدي يكتب عن هذه المنظمات فيقول :»لدينا مشكلة في الأجندة الأمريكية التي تتبناها منظمات حقوق الإنسان في مصر، فهي منظمات بعضها يعمل الخير ولكن الشر فيها أكثر، فكلها بتمويل خارجي، لأنها حتى تعمل وتأخذ أموالا، لا بدّ أن تعمل على الأجندة الغربية. والدليل أنها لا تهتمّ بقضايا وطنية حساسة مثل تحرير فلسطين أو إقامة ديمقراطية أو مشكلة اجتماعية أو اقتصادية فهذا أهم بكثير من أن يجتمعوا من أجل قضية ختان الإناث»(17) وفي تونس اهتمت بعض المنظمات بالتحرش الجنسي أكثر من اهتمامها بالقضايا المركزية.
خطر هذا التيار لم يعد خافيا على أحد، فالكل يعرف أن جلبي وأمثاله في العراق كانوا من أنصار الديمقراطية وحقوق الإنسان ومن المنادين بهما وتعاونوا مع الأمريكان وساعدوهم بصورة مباشرة على احتلال بلدهم العراق.
5 على المستوى الاقتصادي، وبالإضافة إلى ما تفرضه الليبرالية الجديدة من الخضوع لتحوّلات العولمة والارتباط بسوقها، فمشروع الشرق الأوسط الكبير يرمي إلى إدماج المنطقة في مؤسسات مالية ومشاريع متنوعة تجعلها تحت السيطرة الأجنبية بشكل أشدّ وأقوى من ذي قبل. وهذا من شأنه أن يساعد على ما تريده أمريكا والصهيونية العالمية من تحوير شامل في مقومات الكيان العربي.
6 خطر آخر يهدّد المنطقة من وراء هذا المشروع وهو خطر التدويل، فأمريكا، كما هو معروف سعت في قمّة الثمانية الكبار المنعقدة في أواخر شهر يونيو 2004 إلى حمل المشاركين معها على تأييد ما اقترحته من إصلاحات. إذ هي بهذا التأييد تكون قد حقّقت هدفها في تدويل مشروعها. وهو ما يعطيها ويعطي المؤيدين لها من الأروبيين على وجه الخصوص الحقّّ في التدخل لفرضه بمختلف الوسائل سياسية كانت أو غير سياسية، طالما أن ظروف الشرق الأوسط كما ذكر المشروع في
أوله : «تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية».
الرؤية المستقبليّة:
من الواضح أن الرؤية المستقبليّة لعالمنا العربي تتحدّد أساسا من خلال النظرة الموضوعية لحقائق الواقع القائم عربيّا ودوليّا، في علاقته بما جدّ من تحوّلات وتطورات لها تأثير مباشر على المسار العالم للإنسانية، ومن أهم سمات هذا الواضع كما تقدّم :
1 فساد النظام العربي القائم على القمع ومصادرة الحريات، وعلى الخصخصة والارتشاء والمحسوبية والنفعية وتحكم الأقلية في خيرات البلاد ونهبها وتبذيرها وغير ذلك من المساوي الأخرى. كما أنّه نظام متحكّم فيه ومتنازل عن الحقوق العربية وطنيا وقوميا كما هو الحال بالنسبة للقضية الفلسطينية.
2 الهيمنة التي تمارسها أمريكا والصهيونية العالمية في صورتها الجديدة على المنطقة وما فرضته من استسلام تامّ على النظام العربي الحالي المريض وما أصبحت تسعى إليه من تدمير لمقوّماتنا بطمس هويتنا وقتل خصوصيتنا الثقافية، سواء عن طريق إخضاعنا للبرالية الجديدة ودمجنا في سوق العولمة، أو عن طريق المشاريع الكثيرة، ومنها مشروع الشرق الأوسط الكبير.
بهذا الفهم تصبح الرؤية المستقبلية واضحة، ويمكن على أساسها وضع الخطط والمشاريع التي تتطلّبها المرحلة الحالية للخروج من حالة الاستسلام والتردّي التي نعيشها.
وانطلاقا من كل ما تقدم فإنّ أيّ تغيير في أوضاعنا العامة، لا بدّ أن يعتمد على أمرين أساسيين هما :
1 الديمقراطية، باعتبارها الطريق الحقيقي إلى الإصلاح وإلى تبديل الأوضاع القائمة وتغييرها جذريا، أي لا بدّ من فتح المجال واسعا أمام مختلف القوى الاجتماعية لبناء حياة سياسية جديدة تجسّد الإرادة الشعبية لعموم الناس وتضع حدّا للحكم المطلق والتفرّد بالسلطة وهذا وإن كان مرهونا بانتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة إلاّ أنّه مرهون أيضا بما يتمّ تحقيقه من تداول في مستوى الرئاسة، فبدون هذا التداول لن تتحقّق الديمقراطية ولا يُقضى على الحكم المطلق.
2 توخّي استراتيجية جديدة تنهض بالوضع العربي وتخرجه من حالة التردّي السيّئة الناجمة عن السياسات الفاسدة للأنظمة العربية. وتوخّي هذه الاستراتيجية الجديدة تمليه المتغيّرات العالمية، وما جدّ من تحوّل في الصيرورة العامّة للمجتمعات الإنسانية،
«ونحن العرب بحكم كوننا جزءا من المجتمعات الإنسانية، لسنا خارجين عن سياق هذا التحوّل، وأنّ مصيرنا مرتبط به وبما تفرضه قوانينه التي بدأت تصوغ العالم وتقولبه.
والمهمّ هنا هو أنّ هذا التحوّل - على خلاف العهود القديمة - يتطلّب كيانات بديلة أي كيانات كبيرة ملائمة له، ومحقّقة للتمركزات الاقتصادية الكبرى، وللتطوّرات العلمية والتقنية الحديثة» (18)
ونحن أبناء المغرب العربي والوطن العربي عامّة، مطالبون بالشروع فورا في بناء هذه الكتلة لكونها السبيل الوحيد لبناء القوّة الذاتية والخروج ممّا نحن فيه من ضعف وتهميش وتبعية. فهي، في الحقيقة خيارنا الأسمى في هذه المرحلة بعد خيار الاستقلال في المرحلة السابقة. فقد آن الأوان لكي تكون الشعار الأساسي المركزي لمختلف القوى السياسية والاجتماعية وأن تجري التعبئة لها على غرار التعبئة التي جرت في سبيل الاستقلال الوطني.
ومن الواضح أنّ الديمقراطية بما توفّره من حريات وتطوّر للوعي العامّ، تهيّئ المناخ الملائم لتنمية الطاقات الداخلية في اتّجاه بناء الكتلة الكبيرة بصفتها خيار الأمة ومشروعها المستقبلي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.