رغم أن القوات الأميركيةحققت بعض النجاحات في العراق وذلك من خلال تبنّيها لتكتيكات جديدة في مواجهة الأطراف التي تقاتل الوجود الأميركي ، بما فيها استخدام خدمات علماء الأنتربولوجيا (الإناسة)، حتى أنّ المرشح الجمهوري جون ماك كاين لانتخابات تشرين الثاني/نوفمبر الرئاسيّة كان قد صرّح بأن الولاياتالمتحدة هي في طريقها نحو ربح المعركة، فإن كبار المحللين في الغرب يعتبرون أن هذه الادّعاءات بالانتصار ليست إلاّ حجاب من الدخان يحاول من وراءه الرئيس جورج بوش إدامة الوجود الأميركي في بلاد الرافدين. لا شكّ أنّ وصول 30 ألف جنديّ قد حسّن الوضع الأمني في العاصمة. وممّا ساهم في الحدّ من عدد العمليات الحربية القيام ببناء الجدران لفصل الأحياء السنيّة والشيعية، وتخفيف الاحتكاكات الطائفية، ومضاعفة حواجز التفتيش (هكذا تمّ إحصاء 100 ألف عائق من الاسمنت المسلح على الطرقات في بغداد وضواحيها)، الخ.، . لكن هناك عنصرين إضافيّين سهّلا عمليّة الحدّ من العنف في العراق. الأوّل هو وقف إطلاق النار الأحادي الجانب الذي أعلن عنه السيّد مقتدى الصدر في آب/أغسطس 2007 .ويمثّل جيش المهدي، وهو أقوى ميليشيا في البلد، الشيعة الأكثر فقراً. ويحرّكه شعورٌ حادٌّ بالقوميّة، وحذرٌ دائمٌ إزاء القادة الإيرانيّين، وعدائيّة راسخة إزاء الوجود الأميركي. لكنّ وقف إطلاق النار هذا يبقى هشّاً، ما دامت أهداف السيّد الصدر والولاياتالمتحدة متعارضة، إذ تجددت الاشتباكات بينهما في الفترة الأخيرة، في البصرة و مدينة الصدر في بغداد. العنصر الثاني، وهو الأكثر حسماً في انخفاض نسبة العمليات العسكرية ، كان التقارب بين الطائفة السنيّة والولايات المتّحدة، الذي تسارع في ربيع العام 2007 وتضمّن خطوتين: من جهة، مولت الولاياتالمتحدة الأميركية القبائل بشكلٍ كبير من أجل الحصول على تحالفهم؛ ومن جهة أخرى عقد اتفاقيّات مع مجموعات مقاومة مُعادية لأميركا. وتضمّ هذه الحركات التي يدعوها البعض "الصحوة" والتي تسمّيها واشنطن، بصورة مخاتلة، "مواطنين محليّين معنيّين"، عشرات آلاف المسلّحين (60 ألف على الأرجح)، لمقاتلة تنظيم القاعدة. في الوقت الذي أصبح فيه الانسحاب الأميركي من العراق مطلبا رسميا عربيا ودوليا أيضا، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش تجميد سحب قواته من العراق والإبقاء على الاحتلال، حيث عزف مقطوعته المفضلة، بالربط بين استمرار بقاء الاحتلال وبين هدف جعل الشعب الأمريكي أكثر أمناً، وحذر ايران من "الخيار الخاطئ" الذي سيضطره إلى التحرك "لحماية مصالحنا وقواتنا وشركاتنا في العراق"، في وقت كشف سياسيون مصريون وعرب أن 210 شركات "إسرائيلية" تعمل في مجالات التنقيب عن النفط والعقارات وبيع الأراضي لليهود، وحذروا من خطورة الدور الذي تلعبه "إسرائيل" في العراق. وكلّما إزداد تورّط الأميركيّين كلّما ضعفت حكومة المالكي ، مُخلّفةً بذلك "نزاعاً على الشرعيّة" يستحيل حلّه.وزد على ذلك ، ما دامت استراتيجية مكافحة المقاومة و القاعدة على حد سواء لم تحقق نتائج ملموسة و ثابتة على الأرض، فقد فقدت حكومة المالكي على الأرجح إلى عنصرٍ حاسمٍ من شرعيّتها الديموقراطية، ألا وهو تعاطف الشعب العراقي ، الذي ينتقد أدائها الطائفي . و مع ذلك ، فإن المراقب المتابع للشؤون الشرق أوسطية يلمس بوضوح أن هناك هوة تفصل بين المواقف المعلنة رسميا و المقاصد المخفية.فالدول و المجموعات السياسية في منطقة الشرق الأوسط ، و تحت ضغط الرأي العام المحلي ، لم تعد تقبل ببقاء القوات الأميركية في العراق، بيد أنها ليس لديها رغبة أن يتم الانسحاب الأميركي بسرعة.و ما يجمع عليه اللاعبون المحليون والإقليميون هو تمنياتهم ببقاء القوات الأميركية في العراق، كل لأسبابه وأهدافه وأغراضه الخاصة. لم تعد الولاياتالمتحدة الأميركية تمتلك القدرة على توظيف الأطراف الإقليمية لخدمة أهدافها ، كما أن الأطراف الإقليمية تعلمت أيضا كيف توظف الوجود الأميركي لتحقيق أهدافها الخاصة. فالدول العربية المعتدلة التي ترتبط بعلاقات صداقة متينة مع الولاياتالمتحدة ، لديها مخاوف من انهيار الاستقرار في المنطقة نتيجة الانسحاب الأميركي من العراق.إذ إن هذا الانسحاب سيعتبرفي نظر خصومها هزيمة أميركية في المنطقة، الأمر الذي سيقود إلى إضعاف معسكر الإعتدال العربي ، و تقوية راديكالية الرأي العام العربي و الإسلامي المناهض للسياسة الأميركية. و فضلا عن ذلك، فإن انسحاباً أميركياً ، سيقود إلى نشوء نظام أحادي الطائفة في العراق مع مرور الوقت. و في مواجهة العالم العربي ،سيتوجه هذا النظام الوليد إجباريا إلى الشرق،ليعزز من تحالفه مع إيران .ويعتبر هذا السيناريو كارثيًا في نظر معظم الدول العربية، لأنه سيقود إلى ولادة تحالف إيراني – عراقي، سينجم عنه إسقاطات مدمرة على الصعيد الإقليمي . إن ما تخشاه الدول العربية من الانسحاب الأميركي ، هو نشوء حرب أهلية ذات بعد طائفي ، تقود إلى تقسيم العراق، وهذا ما سيشكل بدوره أزمة وجودية لسلامة الأراضي و أمن دول المنطقة، و لاسيما أن الاتجاهات الإنفصالية موجودة في المنطقة ،ومن الممكن أن تستيقظ من تحت الرماد.و أخيرا، فإن نهاية العراق الحديث ، سيقوض شرعية المبادىء الأساسية ، التي قامت عليها الأمة ، و الدولة ، و الحدود العربية. و بالمقابل ،فإن محوردول الممانعة المتشكل من إيران و سوريا لديه رؤية فيما يتعلق بالتواجد الأميركي العسكري في العراق.و مادامت الولاياتالمتحدة الأميركية غارقة في وحل المستنقع العراقي ، فإنها ستفكرمرتين قبل أن تقدم على حملة عسكرية جديدة ضد دولة محاذية للعراق.و هذا الأمر يعود لإعتبارات سياسية-التورط الأميركي يخدم كأسلوب معتدل للتذكير بإخفاق الغزو –و لكن أيضا لإعتبارات عسكرية. فالموارد الأميركية استنفذت ، و ستظل كذلك ما دام الإحتلال . الأميركيون يتهربون من مواجهة الواقع المرير وهو أن الانتصار العسكري التقليدي في حرب العراق يستدعي بالضرورة أمرين: التجنيد الإجباري ورفع الضرائب لتغطية التكاليف المذهلة التي تبلغ 10 بلايين دولار شهرياً.إضافة إلى ذلك، تمثل القوات الأميركية في العراق هدفا لأي هجوم مضاد محتمل من قبل المحورالإيراني. فغزو العراق واحتلاله شكلا هدية أميركية ثمينة لإيران، ولا سيما وأن سلطات الاحتلال الأميركية دمرت الجيش العراقي بعدما أطاحت بنظام صدام حسين، وقوّت حلفاء إيران داخل العراق، وجعلت من مناطق عديدة في العراق ساحة آمنة للنفوذ الايراني القاطع. فإذا انسحبت القوات الأميركية بأسرع ما يمكن من العراق، فإنها ستترك ايران في مأزق، وستحرر الولاياتالمتحدة من مستنقع العراق لتتمكن من استعادة الهيبة والعظمة.و ستتمكن الإدارة الأميركية عندئذ من اتخاذ مواقف صارمة من طهران بلا خوف من انتقام إيراني ضد القوات الأميركية في العراق. لهذا، ترى إيران ، أن بقاء القوات الأميركية في العراق ، يشكل الضمانة السياسية ضد أي عدوان أميركي محتمل. بالنسبة لتركيا، يعني بقاء القوات الأميركية في العراق، الضمانة الحقيقية لعدم إفساح في المجال للتطلعات القومية الكردية لتشكيل دولة كردية مستقلة ، تعتبرها إنقرة خطاً أحمراً. كما أن تركيا لا تنظر بعين الرضى تشكل دولة عراقية حليفة لإيران و منفتحة على المطالب الكردية،حيث أن الإحتلال الأميركي يحول دون تحقيق ذلك. أما "إسرائيل " ، فإنها تعتبر الإنسحاب الأميركي من العراق كارثة، ولا سيما أن قوة الردع الصهيونية فقدت هيبتها بعد حرب تموز الصائفة الماضية.فالانسحاب الأميركي "الفوري والكامل" من العراق، المترافق مع الإسقاطات الكارثية لحرب تموز2006، يجعل وضع "إسرائيل " صعبا ، ويعزز مكانة إيران الإقليمية، ويعطي أملا لسورية بتحرير الجولان من طريق القوة العسكرية. رغم نذر الفتنة الطائفية المعممة،و تفكك الكيان العراقي بأثاره المدمرة إقليميا ودوليا،فإن للهوية العراقية جذورا بعيدة ضاربة في التاريخ و سابقة على تشكل الدولة الوطنية العراقية الحديثة في عام 1921. ويبقى المخرج الحقيقي لوأد الحرب الأهلية ، هوتحقيق الانسحاب الأميركي من العراق،و بلورة مشروع وطني تحرري يرتكز إلى الديمقراطية للمحافظة على وحدة الكيان العراقي. كاتب من تونس