أحيت بلادنا منذ أيام الذكرى الثانية والخمسين للعيد الوطني للأمن والديوانة وهي مناسبة جديرة بكل عناية وتقدير لما تمثله من معان ورموز ليس أقلها عودة الوطن إلى أهله وذويه ليكلأوه بالعناية والحراسة من كل خطر خارجي ولا سيما الجريمة المنظمة والمخدرات والإرهاب والجوسسة أو الخطر الداخلي كالجريمة والظلم والتعسف والفساد المالي والأخلاقي وفي هذا المجال فقد حققت تونس نجاحا محترما إقليميا وعالميا وصارت قِبلة لأصحاب المشاريع الكبرى (سما دبي – المدينة الرياضية...) ومزارا للسياح ووجهة مفضلة للمعارض والندوات العالمية في شتّى التخصصات بما يبوئ تونس عاصمة للأعمال والخدمات. إضافة إلى ما يشعر به المواطن عموما من مناخ أمن وأمان يصبغ حياته وعمله وحله وترحاله في أرجاء الوطن... إنها مكاسب ما ينبغي لنا أن نجحدها مهما كان تقييمنا للوضع السياسي الرسمي ومهما كان موقفنا من السلطة. إلا أن ما يستوجب التوضيح والتحليل حقا هو مفهومنا للأمن. هل يقتصر على الجانب الأمني من الأمن أم يتجاوزه إلى جوانب أخرى أوسع وأشمل؟ إن تركيز جهاز أمني فعال وتطويره حتى يبلغ أعلى درجات الجهوزية والإحكام والمردودية مكسب وطني بالغ الأهمية لا يليق بأي كان تجاهله أو طمسه أو التقليل منه وإنما الخطر كل الخطر أن تضخم النظرة الأمنية للأمن لينحصر أمن الوطن في تضخيم الجهاز الأمني وتطوير أدواته وأساليبه.. ذلك أمن المواطن يرتكز على مقومات ثلاثة لا غنى عنها إذا توفرت تحقق الأمن الشامل وتوفرت أسباب استقرار الأوطان ورقيها. وإذا كان بناء منظومة أمنية متطورة أحد شروط الأمن فإن توفر المناخ الديمقراطي الموفر لأسباب الحوار والمشاركة في تدبير الشأن العام ثم تحقيق المساواة بين المواطنين والجهات والكفاية والعدل أمام القانون كلها شروط ضرورية لتوفر الأمن المنشود. وفي قضية الحال لماذا تعرف بلادنا بعض التوترات الاجتماعية لتبلغ ما بلغته من تعقد وحدة في الحوض المنجمي بقفصة فلو انضاف إلى الأمن توفير عوامل الكفاية والتقدم بعموم الجهات ولا سيما جهات الوسط والجنوب والشمال الغربي؟ تلك الجهات التي عانت ويلات الاستعمار وقاومته وكابدت قساوة المناخ وشح الخيرات أو عدم توزيع عائداتها توزيعا عادلا ومناسبا. لقد عانت تونس التفاوت الجهوي والطبقي بحكم اختيارات حكومة بورقيبة سابقا ولئن حاول التغيير إصلاح ما فات فإن إرث الماضي من التفاوت الجهوي والاجتماعي وهيمنة الطبقات والجهات ذات المصلحة وعرقلة قوى الردة لأي إصلاح حقيقي إضافة إلى الضغوط العالمية المتمثلة في ارتفاع أسعار البترول والطاقة من جهة وارتفاع أسعار الغذاء ولا سيما الحبوب ومواد البناء كرد فعل الدول الصناعية على الدول البترولية أثخنت جراح البلدان شحيحة الموارد الطاقية والمتواضعة صناعيا كتونس فالتهبت الأسعار وتقلصت مواطن الشغل وبات شبح البطالة والحاجة يتهددان أوسع الشرائح الاجتماعية ويثقلان كاهل السلطة ويحرجانها... إن مثل هذه الضغوط باتت معروفة لدى أغلب أبناء الشعب. ولا نظن أن وطنيا مخلصا واحدا لا يتفهم هذه الإكراهات المتزايدة اليوم والمنذرة بحروب دامية وتاريخية ستغير الجغراسياسية العالمية لن يربح فيها الأقوياء ولن يخسر الفقراء غير أجسادهم وأعضائهم... غير أن مفتاح الخلاص يتعهد في العودة إلى الشعب ونخبه وطلائعه بتشريكها في تشخيص الأزمة وبلورة الحلول المناسبة. عندها وعندها فقط يعود الأمن الشامل لكل وطني غيور فيشعر أنه مؤتمن على بلده. يحميه بجسده وعقله وروحه لا يبخل عليه بفكرة ولا بحبة عرق ولا بشلال دم... إن تشريك المواطن واحترامه وتثمين رأيه هو المدخل الصحيح لتفجير ثروة الذكاء والعطاء تلك الثروة التي قفزت باليابان من أرض الخراب واليباب والبراكين إلى أعظم الدول تقدما ورقيا ذلك أنه لا ثروة أعظم من ثروة الإنسان حينما تتوفر له عوامل الأمن الشامل. وكل عام وتونس آمنة ومتقدمة...