من جديد يتم إحياء المقاطعة الاقتصادية العربية للكيان الصهيوني , وتفعيل دورها ومؤسساتها لإرغام« إسرائيل » على الانصياع لقرارات الشرعية الدولية. فقد عقد اجتماع في دمشق ما بين 21-24 من شهرأبريل الجاري ضم فريقاً من الفنيين والمختصين في شؤون المقاطعة العربية للكيان الصهيوني , وحضرته خمس عشرة دولة عربية وممثلين عن منظمة المؤتمر الإسلامي، وتغيبت عنه سبع دول عربية مهمة تربطها علاقات دبلوماسية وتجارية مع الكيان الصهيوني. والحقيقة أن فكرة المقاطعة لم تظهر إلى الوجود عام 1951، بل بدأت منذ زمن الدولة العثمانية حين بدأ الغزوالصهيوني لفلسطين.وقد كانت المقاطعة في جزء منها ردّاًعلى المقاطعة الصهيونية للعرب،التي مارسها الصهاينة تحت شعار «العمل العبري» و«السوق العبرية»، والتي تعني استبعاد قوة العمل العربية في فلسطين من سوق العمل،وتقييد حركة التبادل التجاري للسلع والبضائع بين اليهود والعرب.وتبلورت المقاطعة مع مرور الوقت من خلال الممارسة والكفاح الشعبي أثناء فترة الانتداب البريطاني، وقبل الثورة الكبرى (19361939)، وازدادت أهميتها كسلاح مقاومة في أواخر أيام الانتداب بحيث شعرت جامعة الدول العربية في كانون الأول (ديسمبر) 1945،وهي يومذاك مؤسسة وليدة، بوجوب الاهتمام بالمقاطعة ومحاولة رعايتها،إلا أن الأمور تطورت بسرعة بعد إعلان قيام «إسرائيل»، فأخذت المقاطعة وضعاً سياسياً وقانونياً جديداً في طبيعته ونوعيته. ورغم أن بعض الدول العربية قد ظلت لفترة طويلة هدفاً لمجموعة من العقوبات الاقتصادية,فإن ذلك لا ينفي قيام العالم العربي بفرض عدد من العقوبات الاقتصادية ضد الدول التي تساعد الكيان الصهيوني بإطلاقية.فقد قامت جامعة الدول العربية بعد قيام حرب أكتوبرعام 1973 بفرض عقوبات اقتصادية أخذت شكل حظرتصديرالنفط إلى الولاياتالمتحدة وهولندا ,بسبب دعمهما للكيان الصهيوني. وحقق هذا الحظر بعض الأهداف , أبرزهاإحداث تحول جوهري في موقف أوروبا واليابان تجاه القضايا العربية بصفة عامة , والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص. ولكن لم تنجح هذه العقوبات في إحداث تغيير جوهري في موقف الولاياتالمتحدة تجاه الكيان الصهيوني. لقد حرمت المقاطعة العربية «إسرائيل» من السوق العربية الكبيرة كمنفذ لتصريف منتجاتها، فلجأت لتسويقها في أوروبا وأميركا الشمالية،الأمرالذي رفع من تكاليفها بسبب نفقات النقل،وفرض على المنتجات «الإسرائيلية» منافسة شديدة في هذه الأسواق (وهوأمرقد أفاد، في جانب،الاقتصاد «الإسرائيلي» في الاجتهاد في تخفيض التكاليف وتحسين مستوى الجودة). كما كان على«إسرائيل» أن تؤمن احتياجاتها من السلع الاستراتيجية والمواد الخام،ولاسيما البترول، من مصادر بعيدة عن المنطقة كالاتحاد السوفياتي (حتى عام 1956)، وإيران (قبل الثورة)، وأميركا اللاتينية والولاياتالمتحدة،إلى أن جاء التحول الاستراتيجي في اتفاقيات كامب ديفيد، التي أتاحت ل«إسرائيل» تأمين احتياجاتها من البترول من مصر المجاورة لها. ويتساءل المحللون الاستراتيجيون في المنطقة العربية عن المحددات التي تسمح بنجاح سلسلة معينة من العقوبات الاقتصادية ضد الكيان الصهيوني ؟ وهنا لا بد من توضيح بعض الأمور , منها: 1- إن استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية أثبت فعاليته كسلاح مؤثر على مدى عقود طويلة , حين يوضع هذا السلاح في خدمة القضايا القومية , وفي مقدمتها قضية استعادة الأراضي المحتلة والحقوق المغتصبة إلى أن يلتزم الكيان الصهيوني التزاماً كاملاً وقاطعاً بإعادة الأراضي وإزالة الاحتلال وتطبيق قرارات الأممالمتحدة , واحترام المواثيق الدولية واتفاقيات جنيف. 2- إن نجاح المقاطعة الاقتصادية في تحقيق المستهدف منها يعتبر دالة في درجة جماعية المقاطعة. وغني عن القول أن درجة إحكام المقاطعة الاقتصادية ترتبط بشكل وثيق بعدد الدول العربية المطبقة لها. فإذا قامت دولة عربية واحدة كسوريا مثلاً بفرض المقاطعة , تزايدت فرص التهرب منها والالتفاف عليها. وحين تتبنى معظم الدول العربية لهذه المقاطعة تكون احتمالات النجاح أعلى بكثير من احتمالات الفشل. ومما لا شك فيه أن نجاح المقاطعة الاقتصادية العربية ضد الكيان الصهيوني يتوقف إلى حد كبير على مدى شمولها من جانب الدول العربية , وعلى السياسات العربية المصاحبة التي تزيد من فعاليتها من ناحية أخرى. وفي هذا السياق لا يوجد إجماع عربي بارز, في حالة تطبيق المقاطعة الاقتصادية ضد الكيان الصهيوني, بسبب تغيب سبع دول عربية عن اجتماع دمشق , فضلاً عن أن نجاح المقاطعة الاقتصادية وازدياد فعاليتها , يجب أن يكون مصحوباً بنوع من الحصار البحري والحظر الجوي ,إضافة إلى استخدام الخيار العسكري الذي يستهدف ضرب البنية الأساسية في الكيان الصهيوني , الأمر الذي يعوق قدراته الانتاجية بشكل خطير, ويكون له أثره في تحقيق الهدف من فرض المقاطعة. 3- تعتبر سمعة ومصداقية الدول العربية الفارضة للمقاطعة الاقتصادية , من أبرز محددات نجاح هذه المقاطعة الاقتصادية. فالدول العربية التي أظهرت مصداقيتها من خلال تنفيذ ما هددت بالقيام به ضد الكيان الصهيوني في حرب 1973,أكسبها سمعة في المجتمع الدولي بشكل جعل الدول المساندة للكيان الصهيوني المستهدفة مستقبلاً , تأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد. وتأتي المصداقية من قدرة الدول العربية على القيام بالعمل الجاد والمسؤول , فإذا كان التهديد لا يستند إلى قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية كان التهديد أجوفاً , ولم تحقق العقوبات الاقتصادية العربية ضد الكيان الصهيوني أهدافها بسبب افتقار الدول العربية إلى المصداقية في تنفيذ تهديداتها. إن الذي يقلل من فعالية المقاطعة الاقتصادية العربية بشكل كبير هو أشكال التبعية التجارية والمالية التي تعاني منها بعض الدول العربية، و لاسيما تلك التي تتلقى معونات و قروض من الدول الغربية. . و لما كان الكيان الصهيوني يمثل أهمية استراتيجية قصوى للولايات المتحدة الأميركية،فإن فالحكومات الغربية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة على استعداد لتقديم القروض والمنح والمساعدات ل«إسرائيل» , كما تعتبر هذه الدول الغربية معبراً للسلع الخاضعة للعقوبات إلى الكيان الصهيوني ,سواءاًتصديراً أواستيراداً. إن نجاح المقاطعة الاقتصادية العربية ضد الكيان الصهيوني مرتبط أشد الارتباط بموقف عربي فعال وحازم من الولاياتالمتحدة الأميركية التي تمد الكيان الصهيوني بكل أساسيات القوة والبقاء والغطرسة , وبناء تضامن عربي فعال يترجم إلى فعل مضاد على الأرض , وإلى عمل ملموس ورادع يؤكد أن الأمة العربية قادرة على المواجهة. * كاتب تونسي