إذا كان مؤتمر أنابوليس الذي عقد مؤخراً قد شكل خطوة مهمة من جانب الإدارة الأميركية للتحرك على محور تسوية الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني، على طريق التوصل لقيام «دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة»، فإن المراقبين للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، يرون أن إدارة الرئيس بوش تسعى لتحقيق هدفين رئيسيين من خلال هذا المؤتمر: قريب المدى، وهو تكوين تحالف عربي - إسرائيلي ضد ايران وضد طموحاتها النووية والاقليمية، وبعيد المدى وهو تشكيل الإطار الأمني للشرق الاوسط الجديد الذي ينشأ في كنف السلام الاميركي. السؤال الذي يطرحه المحللون، هل عبد مؤتمر أنابوليس الطريق لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة؟ غداة توقيع اتفاق أوسلو ظن البعض أن أقصى طموح للفلسطينيين في سباق الروابط مع إسرائيل، أن ينشأ نظام حكم فلسطيني تابع بالإكراه للدولةالصهيونية. وأن كل ما يقصده الطرف الإسرائيلي هو إخلاء بعض المناطق الفلسطينيةالمحتلة، كي يديرها هذا النظام بالوكالة، فيما تبقى إسرائيل الطرف المهيمن الذي يقرر كل خطوة ثالثة، ولم يكن هذا الظن بعيداً عما جرى عملياً. فقد ثبت أنه في 23 سبتمبر 1948، أشار موسى شرتوك (شاريت) وزير الخارجية الإسرائيلية أمام مجلس الدولة المؤقت، إلى أنه وزملاءه في الخارجية «يفضلون من حيث المبدأ قيام حكومة فلسطينية في الجزء العربي من فلسطين على الاندماج في الأردن». فمثل هذه الحكومة ستكون معتمدة على إسرائيل، وسوف تصون وحدة عرب فلسطين كما ستكون حافظاً ضد أي اختراق عربي. أما الإلحاق بالأردن فإنه ينطوي على مخاطر الاندماج العراقي الأردني، بما ينشئ جاراً قوياً لإسرائيل. ثوابت عدوانية وعلى الرغم من مرور ستين سنة على هذا العرض، الذي لم يتم تطبيقه،فإنه لم يعدل كثيراً من مضمونه صهيونياً. فالدولة الفلسطينية هي في أحسن الفروض والعروض الإسرائيلية سوف تكون، أو يجب أن تكون منزوعة السلاح وبلا جيش، لديها فقط قوة شرطة لحفظ الأمن، ولا يمكنها إلا الاستعانة بدولة إسرائيل، كما لا يمكنها الاتفاق على إجراء مقاطعة اقتصادية أو عقد اتفاق يتعارض مع أمن إسرائيل والشعب اليهودي. رغم كل محاولات الترويج لحرص إدارة الرئيس بوش على قيام «دولة فلسطينية» فإن السمة المميزة للموقف الأميركي هي «الضبابية» المطلقة التي لا تسمح لأي عاقل بأن يتوقع أي إيجابية منه، أو أن ينتظر نتائج ولو متواضعة له. والأسباب التي تدعو إلى ذلك كثيرة، ومنها: أولا: إن الوقائع الاستيطانية الإسرائيلية على الأرض بلغت حدا ًيجعل قيام «دولة فلسطينية قابلة للحياة» حسب التعبير الذي أطلقته الدبلوماسية الأميركية منذ سنوات مهمة مستحيلة.فالاستيطان بات يشكل عقبة بنيوية لإسرائيل في أية تسوية. فمن سنة 1994 إلى سنة 2000، تضاعف في الواقع عدد المستوطنين اليهود في الأراضي الفلسطينية. ومنذ معاهدة أوسلو (1993)، بلغ عدد الإسرائيليين الذين استقرّوا في الضفة الغربية ما يعادل أعدادهم في ال 25 سنة السابقة... إنّ المعطيات المادية، الاقتصادية والإنسانية «لدولة فلسطينية قابلة للحياة» هي في طريقها إلى الزوال، بحيث إن «الحل القائم على بناء دولتين»، «الطلاق المُنصف والعادل» (أموس أوز)، الأرض الموزّعة بين دولتين قوميتين، إحداهما أصغر من الأخرى، مجرّدة من السلاح، لكنْ ذات سيادة، قابلة للحياة والاستمرارية، لم يعد سوى كلام فارغ يُكتب بصيغة المستقبل المشروط. ثانيًا: إن الخريطة السياسية القائمة في الكيان الصهيوني، و التي تؤكد معظم المعطيات (استطلاعات الرأي )و المؤشرات، على استمراريتها وتعمقها في المستقبل المنظور، تتناقض كلياً مع فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة أو حتى شبه مستقلة. فاليمين الصهيوني بشقيه المتدين والعلماني، يشغل في اللحظة الراهنة مايزيد على 70 في المئة من مقاعد الكنيست، وهو ما يجسد وزنه الفعلي في المجتمع الصهيوني الذي يزداد تطرفاً وعدوانيةً. ثالثاً: لقدأعلنت إسرائيل سلفاً انها لن توافق على وضع وثيقة محددة ترسم أطر المفاوضات التفصيلية حول ما يسمى ب «الحل النهائي»، بل ذهبت إلى تأكيد ثوابتها العدوانية المتمثلة في إسداء نصائحها للعرب،لجهة أن يتحلوا بالواقعية (...) وعدم انتظار تحقيق الكثير من الإنجازات أو التوصل إلى اتفاق على القضايا الخلافية الرئيسية، وألا يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، أي بمعنى آخر أن يتخلوا عن إخوانهم ويكفوا عن دعمهم ولو سياسياً ومعنوياً وتركهم فريسة لتستفرد بهم إسرائيل وترغمهم على شرب العلقم وتجرع سم الاستسلام المهين، وأن يدعموا ما يفرض على الفلسطينيين وألاّ يطرحوا مطالب وشروطاً للسلام كأن الأمر لا يعنيهم، أو كأن القدس الشريف ليس قضية عربية إسلامية بامتياز ومصير العرب مرتبط بها وبالمقدسات وبكل شبر من أرض فلسطين الطاهرة. فالمطلوب من العرب صهيونياً، ان يسكتوا و«يبصموا على بياض». في مثل هذه الظروف، كان اللجوء التوافقي ولكن «الترنيمي» إلى عقد مؤتمر أنابوليس (إشارات واعدة ونوافذ للفرص) لحل الصراع الإسرائيلي– الفلسطيني، وإقامة الدولة الفلسطينية، نوعاً من الخداع و الغش الدوليين. وهذه هي المشكلة الأعمق التي تواجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لا صراعه مع «حماس»، رغم سيطرة الصراع الفلسطيني- الفلسطيني بعد «سقوط غزة» على مسرح الأحداث. فالشرط الذي تفرضة «إسرائيل» على الرئيس الفلسطيني محمود عباس هو تصفية«حماس» بوصفها حركة تمثل خطرًا مباشرًا على سلطته هو، لا على إسرائيل. وتعتقد إسرائيل أن أبومازن غير قادر على حسم الصراع مع «حماس»، فهو مخيب، فالمطلوب من أبومازن أن يقبل بما يتناسب مع أوراقه المعدومة وقوته غير الموجودة، وأن أي سلام لا يمكن تحقيقه مع تهديد «حماس» لسلطته ولمفردات السلام في المجتمع الصهيوني. ومقابل الوهم بالسلام الزائف يستمر الاستيطان والجدار العازل ويكف الحديث عن حق العودة وغيرها على أساس أن ذلك كله يتم تناوله في المفاوضات التي قال أولمرت إنها ستستغرق ثلاثة عقود مقبلة،لأن إسرائيل تلعب على عامل الزمن الذي تتآكل فيه كل أوراق القوة العربية. رابعاً: على عكس البراغماتية السياسية بمصر والأردن، وهي التي أدت إلى عقد اتفاقيات سلام منفردة: كامب ديفيد عام 1979، ووادي عربة عام 199، مع إسرائيل، فإن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني غير قابل للحل إلا في ظل «تسوية عادلة» حدها الأدنى، قيام دولة فلسطينية ضمن حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشريف، وهذا ما لا تقبل به لا الولاياتالمتحدة الأميركية، ولا إسرائيل. وإذا قبل الرئيس محمود عباس بأقل من ذلك، أي «دويلة»، فسيقود ذلك إلى سقوطه تحت وطأة الرفض الفلسطيني نفسه. ثم إن مطالبة الفلسطينيين إسرائيل بالانسحاب إلى حدود 196، وعودة اللاجئين إلى فلسطين، والسيطرة على جبل الهيكل، مرفوضة من جانب إسرائيل اليوم. وسبق أن حصلت إسرائيل على موافقة أميركية صامتة على ضم الكتلة الاستيطانية الكبرى إلى داخل كيانها، ومن العسير أن تتخلى عن وادي الأردن لأسباب استراتيجية. ومن الصحيح، كما قال إيهود أولمرت عبر إذاعة الجيش الإسرائيلي في 20 آذار/مارس 2006، إن حدود إسرائيل الاستراتيجية هي عند نهر الأردن (إذ إن كل الوادي مُعلن “منطقة محظورة”)؛ ويؤدّي قضم المنطقة الوسيطة، في بعض الأمكنة، إلى التواصل الفعلي بين الضفتين. خامساً: إن إسرائيل سوف تربط موافقتها على نشوء دولة فلسطينية بالتزام فلسطيني موثق بإنهاء الصراع، بما يقتضى الاعتراف لإسرائيل بحقوق سوف تعينها في المفاوضات وبشكل مطلق في فلسطين التاريخية، وبما ينهي أي مطالب سابقة أو لاحقة للفلسطينيين تجاه إسرائيل، مثل تطبيق القرار رقم 181 الخاص بتقسيم فلسطين (1947)، والقرار 194 لعام 1948 الخاص بعودة اللاجئين أو العودة لخطوط الهدنة لعام 1949، وسوف تراقب إسرائيل مدى التزام النظام الفلسطيني بعدم التحريض ضد إسرائيل بأي معنى من المعاني. ولهذا فمن المنتظر أن تعتبر إسرائيل أي مواقف فلسطينية تعاكس هذه القضايا بمنزلة خطوات عدائية، تستوجب الرد... سوف يراوح هذا الرد بين الاحتجاج والتدخل في الشؤون الفلسطينية، وقد يصل في حده الأقصى إلى الإجراءات العسكرية. خطر ملموس ويعتقد المحللون المُلِمُون بقضايا الصراع العربي – الصهيوني أن تقييد الدولة الفلسطينية وتأكيد تبعيتها لا يؤدي غرضه بتأمين إسرائيل من أي خطر لهذه الدولة فقط، وإنما يستهدف تحقيق أغراض إقليمية أوسع. فالدراسات الإسرائيلية تركز على ضرورة إقامة منطقة تجارة حرة مع فلسطين، تضفي على الدولة الناشئة دور الوسيط بين إسرائيل والعرب، وهكذا فإن فلسطينالجديدة في العقيدة السياسية والاقتصادية لإسرائيل هي رأس جسر أو معبر إلى التميز الإسرائيلي الإقليمي. ويسمح الواقع الذي تجذر في زمن الاحتلال بمثل هذا السيناريو إلى حد كبير. فالاقتصاد الفلسطيني هو في حالة تبعية مطلقة لإسرائيل. وإن 90 % من الواردات والصادرات الفلسطينية تجرى مع إسرائيل. ومن المعروف أن أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني يعتمدون وأسرهم في أرزاقهم على قطاعات العمل الإسرائيلي (المتدنية). ويتوقع الإسرائيليون من الفلسطينيين والعرب عموماً أن يبلوروا نظرية عميقة تعيد تكييف فلسفتهم إزاء الدولة اليهودية. بحيث يدركون أن إسرائيل ليست دولة استعمارية تعتمد على القوة فحسب، بل هي مخلوق طبيعي. ويتطلب مرور هذا التكييف أن تتخلى إسرائيل عن نظرية القوة تجاه الفلسطينيين بصفة عامة. وهو أمر يبدو مستحيلاً في الأجل المنظور والمتوسط. فالإسرائيليون يتشككون في نوايا هذه الدولة ولن يتخلوا عن شكوكهم بسهولة. ومن آيات ذلك أنهم يتطلعون إلى تقييد الدولة الفلسطينية وتفصيلها على مقاس شروطهم الأمنية والسياسية. ويحرص بعض الإسرائيليين على استمرار هذه الشروط، معتبرين أو متوقعين أن تسعى فلسطين الدولة إلى التسلح وتكوين جيش كبير بالاعتماد على الأسواق العالمية. وأن تعرض وجود إسرائيل للخطر بعد تعديل موازين القوى معها. ويمضي هؤلاء إلى أن فلسطين ستقيم موانئ بحرية وجوية لضمان دخول المهاجرين (اللاجئين) وسوف تمتنع عن «التعاون السياسي والأمني مع إسرائيل».. كما سيصدر الفلسطينيون عملتهم الخاصة، ساعين للاستقلال الاقتصادي، بما يضر بالاقتصاد الإسرائيلي. ولن يفرط الفلسطينيون في سيادتهم، ومن هنا ستواجه إسرائيل خطراً ملموساً، دون أن تكون لديها وسائل العقوبات المناسبة في ظل انفكاك القيود ضد الفلسطينيين. وفي حالة كهذه فإن الرد العسكري يصبح متوقعاً بشدة. إن هذا المنظور الأخير يعني استمرار المفهوم الإسرائيلي للدولة الفلسطينية، بصفتها ضعيفة ومفككة وتابعة لإسرائيل. ومن شأن استمراره أن يجعل العلاقة بينهما قلقة وغير مستقرة، لأنه ينطوي على نظرة إسرائيلية استعلائية مستمرة، لن يقبلها الفلسطينيون في المستقبل. * كاتب من تونس