بمثل هذا الخطاب، تدخلت بعض الجهات الرسمية وعدد من الخبراء التونسيين للتقليل من آثار الأزمة المالية العالمية على بلادنا، وقدّمت أرقاما ومعطيات ومؤشرات تصبّ كلّها في اتجاه واحد : تونس وجهازها المصرفي واقتصادها غير معنيين بهذه الأزمة. وهو خطاب لا ينكر أي كان أنّه خفّف من حدّة توتّر التونسي ومن قلقه، وهو يشاهد الفضائيات التي تتحدّث عن إفلاس البنوك وشركات التأمين ....الخ. طبعا لا يمكن التشكيك في صحّة الأرقام والمعطيات التي قدّمتها الجهات المختصّة للتّأكيد على سلامة جهازنا البنكي والمصرفي.. لكن ما يدفع للتساؤل (ولسنا وحدنا من يتساءل)، هل بمثل هذا الخطاب يمكن أن نقنع بأنّ تونس في منأى عن هذه الأزمة المالية العالمية؟ الذين تابعوا تصريحات محافظ البنك المركزي التونسي وما كتب في الصحف والمجلات حول هذه الأزمة لاحظوا أنّ الجانب "الأدبي" طغى على معظم التصريحات والحال أنّنا أمام أزمة اقتصادية لا مكان فيها "للشعارات"، هي أزمة ملموسة والتعامل معها يجب أن يكون ملموسا. وهذا لا يعني التهويل في آثار هذه الأزمة على تونس، كما لا يجب التقليل من أهميتها ولو على مدى غير قريب...الأمر يتطلّب الشفافيّة والدقّة. تونس في منأى عن الأزمة الكلمة التي ردّدت خلال المدّة الأخيرة أكثر من غيرها "أنّ تونس في منأى عن هذه الأزمة المالية العالمية"، ولا بدّ من الاعتراف أنّنا منذ سنوات طويلة لم نسمع ولم نقرأ أنّ تونس في منأى عن الأزمات العالمية بحكم انخراطها في الاقتصاد العالمي .. تونس مثلا لم تكن في منأى عن أزمة النفط ولم تكن في منأى عن أزمة المواد الأساسية واليوم هي في منأى عن أزمة يقول كافة الخبراء أنّها أزمة عالميّة، وأنّ كافة البلدان ستتضرّر منها، بما في ذلك البلدان المصنّفة ضمن البلدان النامية في بعض البلدان القريبة منّا، قال خبراؤها إنّهم غير معنيين مباشرة بهذه الأزمة على الأقل في الوقت الرّاهن، لكنّهم فسّروا لماذا؟... وقالوا بوضوح إن اقتصاديات بلدانهم ضعيفة وهشّة، وهذه الأزمة هي أزمة الاقتصاديات الكبرى. وأشاروا أيضا إلى أنّ اقتصاديات بلدانهم الهشّة والضعيفة ستجعل بلدانهم شبه معزولة عن هذه الأزمة.. لكنّها في الوقت ذاته ليست في منأى عنها "فالقطاع المالي لا جنسية له، ويربط بين الدول علاقات عنكبوتية". الجهاز البنكي في تونس لن يتأثر بالأزمة " إنّ هذه الأزمة قد رسّخت صواب خيارات تونس من خلال تدعيم أسس الجهاز المالي (...) ولإرساء البنك الشمولي ممّا يقيم الدليل على نجاعة المقاربة التونسية"... هذا الكلام جاء على لسان السيد محافظ البنك المركزي التونسي، ليفسّر أنّ ما حصل في البنوك الأمريكية لا يمكن أن يحصل في البنوك التونسية (في تونس الاعتماد أساسا على البنوك الشمولية..وفي أمريكا انتشار البنوك الاستثمارية). صحيح أنّ البنوك الأمريكية تختلف عن البنوك التونسية..لكن ذلك لا يجب أنّ ينفي الجهاز البنكي في تونس مازال يعاني من عدّة إخلالات أشارت إليها تقارير هياكل مالية دولية. نذكر من ذلك التقرير الذي صدر عن البنك الدولي خلال شهر مارس 2007 وتعرّض فيه إلى مشكلة الديون المشكوك في استرجاعها التي افتقدتها البنوك التونسية، ووصف البنك الدولي هذه المشكلة ب"النقطة السوداء" في اقتصاد البلاد. ويذكر أن حجم هذه الأموال يقدّر بنحو 5 مليارات دينار تونسي، وهو ما يفوق 20 % من إجمالي القروض التي تمنحها المصارف إلى حرفائها بما أدّى إلى إخلالات في الموازنات المالية.. حسب تقرير البنك الدولي. وثمّة تقارير عديدة أخرى ودراسات تشير إلى أنّ الجهاز المصرفي في تونس مازال في حاجة إلى إصلاحات. لماذا نذكر هذا؟ أولا: إنّ الكلام بصيغة "كنّا السبّاقين" وأثبت الوقت نجاعة المقاربة التونسية "أصبح بمثابة "اللغة الخشبية". ثانيا: إنّ اختلاف البنوك الأمريكية أو الأوروبية عن البنوك التونسية وإن كان أمرا واقعيا. فإنه لا يمكن أن يدفع إلى القول إن جهازنا المصرفي ليس في حاجة إلى إصلاحات أو أنّه الأفضل وأثبت الوقت نجاعته. ثالثا: يجب الاعتراف أنّ "المؤسّسات البنكية التي تخضع لضوابط هي من خصوصيات البلدان التي اقتصاديتها هشّة وضعيفة". كيف نتعامل مع هذه الأزمة؟ هذه الأزمة حقيقة وربّما لن تكون آثارها على بلادنا في الوقت القريب (رغم ارتباطنا بأوروبا) ومن واجب الجميع أن لا يضخّم فيها..وذلك يكون حسب اعتقادنا بخطاب دقيق وشفاف يطرح كافة جوانب المسألة كما فعلت أغلب البلدان المعنية مباشرة بهذه الأزمة. المواطن التونسي أصبح قادرا على الوصول إلى المعلومة وإلى التحاليل من مصادر مختلفة ولا يمكن أن يقتنع إلاّ بوجهة النظر التي تقدم له المبرّرات الدقيقة والملموسة. أزمات عالمية.. لم تكن تونس في منأى عنها شهد العالم خلال السنوات الثلاث الأخيرة أزمات عالمية كبرى، كانت لها تداعياتها على مختلف البلدان ولم تكن تونس في منأى عنها حتّى أنّ جهات شبه رسمية أكّدت أنّ "العالم يعيش منذ النصف الثاني لسنة 2007 مستجدات وتطورات بالغة الخطورة تنذر باستفحال أزمة اقتصادية عالمية لا يمن لأي بلد أن يكون بمنأى عن تبعاتها ولا يمكن التنبؤ بمداها". فقد عرفت أسعار النفط مستويات قياسية مرتفعة ممّا أدّى إلى قيام العديد من الدول بزيادة أسعار منتجات النفط منها وقود السيارات وإلقاء الأعباء على المستهلكين...وفي تونس عرفت أسعار وقود السيارات ارتفاعا في عديد المناسبات. كما أن الإختلالات في أسعار صرف العملات الرئيسية انعكست سلبيا على الاقتصاد العالمي حيث غذت التضخم الذي ارتفع في العديد من الدول خاصة المرتبطة عملتها بالدولار. وإلى جانب ذلك، أزمة الغذاء وارتفاع أسعار المواد الأساسية. هذه الأزمات لم تكن تونس في منأى عنها وتحمّل المستهلك جانبا كبيرا من تداعياتها تمثل في ارتفاع الأسعار وتدهور مقدرته الشرائية. وتمّ تسويق ذلك بانخراط تونس في الاقتصاد العالمي وتأثرها بما يحدث في العالم... فهل أن هذه الأزمة المالية فقط تونس في منأى عنها؟