أصدرت الهيئة الوطنية للمحامين يوم 17 مارس الجاري بيانا دعت فيه منظوريها إلى الامتناع عن المشاركة في البرامج التلفزية والإذاعية التي من شأنها حسب البيان المذكور "النيل من هيبة المحاماة وكرامة المحامي" وقررت القيام بإجراءات قضائية وتحركات احتجاجية لمنع بث تلك البرامج إلى جانب إجراء تتبعات تأديبية ضد المحامين المخالفين، وذلك في إشارة إلى البرنامج التلفزي " الحق معاك" على قناة تونس 7 الذي أبرزت إحدى حلقاته تحيل أحد المحامين على موكلته. ويأتي هذا الموقف متناسقا مع حملة متصاعدة سابقة من أطراف أخرى تذرعت بحماية استقلالية القضاء وعلويته وعدم التأثير في سيره خصوصا بالنسبة إلى القضايا التي لم يبت بشأنها، بدأت قبل ذلك ضد برنامج "عن حسن نية" لقناة حنبعل التي اضطرت إدارتها إلى إيقافه بعد رفع قضية ضدها من طرف مجلس التصرف في الأراضي الاشتراكية بالهوارية. ومهما تكن مصداقية الذرائع المقدمة التي تتغطى أيضا بحماية حرية الصحافة من "الانحراف" ، وسواء تعلق الأمر بالمحامين أو موظفي الإدارة التونسية أو بعض الفئات المهنية والاجتماعية الأخرى كالأطباء والصيادلة (مثلا في قضية الكنام) و مسؤولي الجامعات والجمعيات الرياضية و رجال الأعمال (مثل الباعثين العقاريين الخواص) والسياسيين والنقابيين وحتى الإعلاميين أنفسهم الذين أدان بعضهم في الفترة الأخيرة نشر أحد زملائهم لقضية تمس حسب رأيهم من سمعة مؤسستهم الصحفية، فإنه من الواضح أن الهياكل الرسمية والتمثيلية للمجتمع التونسي لم تتعود على تحمل هذا النوع من الإعلام الحر المكشوف على الآخر الذي شكل البرنامج الرياضي " بالمكشوف" في السنوات الأخيرة قاطرته الأبرز، كما أنها لم تنضج بعد لرؤية عيوبها ونقائصها منشورة على نطاق واسع من خلال وسائل الإعلام الجماهيري، خصوصا عندما تمسّ بالمصالح المادية وبالمناصب. ولئن كان من السهل اتهام هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك بعدم الحرفية أو السقوط في التشهير أو التحيز أو الصيد في الماء العكر أو استغلال المشاعر أو اختلال الطرح والمعالجة أو خدمة أغراض أخرى غير البحث عن الحقيقة، فإن الأصداء المتنامية من الشارع التونسي المتحرك، تؤكد الفائدة الحقيقية الحاصلة للمجتمع من البرامج المذكورة (بكل نقائصها) على الأقل في مستوى التثقيف القانوني والحقوقي للمواطنين وتحريك سواكن المسؤولين وطنيا ومحليا من خلال تفعيل وتوسيع آليات الرقابة والمساءلة والمتابعة في كنف الشفافية، بما يحيلنا مباشرة إلى مفهوم السلطة الرابعة التي تعني في الأخير سلطة الرأي العام القائم على الإعلام الحر. وهنا، وعودا على بدء، لا بد من التأكيد، ولو بمنظور مخالف للسائد عندنا، أن استقلالية القضاء، تعني استقلاليته عن السلطتين التنفيذية والتشريعية وليس عن الشعب أو الرأي العام، لذلك نجد في أعرق الأنظمة الديمقراطية في العالم هيئات محلفين من عامة المواطنين هي التي تتولى النطق بالحكم النهائي في أخطر القضايا لدى المحاكم. وفي هذا السياق يمكن القول مع الاعتذار للمسرح: أعطني إعلاما حرا أعطيك شعبا عظيما.