: بين جنبات شبكة الفيس بوك اكتشفت على مدار أسابيع من السباحة والكتابة والسجال مع بني وطني , عمق الجرح الذي تركته سياسات تجفيف المنابع في الجسد الثقافي التونسي ... شباب في مقتبل العمر يجاهر بالالحاد واخر يساوي بين الدين والشعوذة واخرون يتجرؤون على اعتبار الدين أفيونا للشعوب , وجمع اخر أصبح يجاهر على مدونته بعبادة الشيطان ! , حتى أن فتاة تونسية منضوية تحت هذه الطائفة كتبت مقالا تحت عنوان لو كان محمد حيا لأحيل على محاكم الجنايات الدولية !!! ... فتاة أخرى في منتهى اللطف والجمال عشقت في الجرأة والشجاعة والصدق فيما أكتب ..., بل انها أحبتني ونظمت في أروع وأعذب الشعر , كانت تكاتبني باستمرار ولما هممت بزيارة مدونتها الشخصية على شبكة الفيس بوك .., تصفحت في هول من الصدمة ماكتبته عن اعتناقها لمذهب الالحاد ! حين تقلبت بين عشرات الأسماء الشباية وتجولت بين بطاقات تعريفهم الشخصية لأقترب أكثر منهم , هالني تجرؤ بعضهم على الفضيلة ودعوة بعضهم في ماكتبوا الى الغاء تدريس مادة التفكير الاسلامي ومتعلقاتها من العلوم الاسلامية ...! كان البعض من الشباب يساجلني في حوار مفتوح بالدعوة التحريضية على الحجاب ومرتدياته , كما التحامل الشرس والبغيض على كل أنصار المشروع الاسلامي الوسطي المعتدل ...! , فيما كان اخرون يبشرون في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية بنهاية التاريخ وكنس أجيال العودة الواعية الى جذور الفكر الاسلامي الحداثي ... عوالم من الصدمة كنت أكتشفها في بحر من الملاحظات والتدوينات والتعليقات ..., وبين هذا كله كنت أقترب من تحديد حجم الكارثة والتشوه الذي أصاب شرائح شبابية صغيرة في ظل تغييب التيار الاسلامي الوسطي طيلة عقدين تقريبا .., حين توزع حملة لوائه مابين سجن ومنفى وحجم كارثي من الاضطهاد ... فهمت أمام هول ماقرأت وماتصفحت وأمام خطورة المس الثقافي الذي أصاب الوسط الشبابي أن مااعتمدته الدولة من خيارات دينية وثقافية وسياسية منذ دخولها في صراع خطير وحاد مع جيل الاحيائية الاسلامية الحداثية .., كان ممهدا لحالة فراغ وتصحر فكري ساهم في اخراج أجيال فاقدة لطلائع قيادية واعية ترشد الحركة الثقافية التونسية وتمؤسس علاقتها في نضج بالاسلام ... قراءة وبحث معمقين لما قرأت وطالعت على شبكة الفيس بوك تضعني أمام شريحة شبابية تروج للفكر المادي دون الاطلاع أو التعمق في أدبيات المرجعية الاسلامية .., فكل مايحمله البعض من هؤلاء هو الكراهية غير المفهومة تجاه حضارتنا الاسلامية ومعينها التحديثي المتجدد ... كراهية وحقد موجهين بتعبئة ايديولوجية تقودها تشكيلات سياسية وتنظيمات طلابية حريصة كل الحرص على اظهار الدين والاسلام خصوصا بصورة كاريكاتورية ... لم أنزعج في حياتي قط أن يعتقد الناس مايشاؤون من مذاهب ونحل .., فقد عشت منذ عقدين تقريبا وسط أغلبية مسيحية تعدادها 80 مليونا , وأقلية يهودية تعدادها يقارب الأربعين الفا , وتجمع ديمغرافي اسلامي لايقل تعداده عن الأربعة ملايين .., وبين هؤلاء نسجت علاقات من الاحترام والاعتراف المتبادل دون ممارسة أية وصاية على أي كان ... جلت مابين المساجد والكنائس واقتربت من حوارات بعض الرهبان .., ولم أفوت الفرصة في بلد الاقامة على حوار الأديان , ولقد تشرفت بزيارة أعظم الاثار المسيحية والاطلاع على أعاجيب عمران تاريخ ألمانيا الكاثوليكية ..., كما افتخرت على مدار زمان الهجرة بانتمائي للاسلام عقيدة وثقافة وحضارة ... لم أبدل ولم أغير في احترامي لرسالة خاتم النبيين , بل انني عجبت للشعب الألماني الذي يبدي سماحة عظيمة تجاه الأديان السماوية , حيث تبنى المساجد بجوار الكنائس وتقام بيع وصلوات في كل ربوع هذا البلد الذي أقمت فيه منذ 17 سنة وعشقته وأحببت أهله وأحبوني , دون ان ألتفت قطعا الى بعض مسالك العنصرية التي تجد طريقها الى كل العوالم والبلدان ... أواسط التسعينات وأواخرها ربطتني في ألمانيا علاقات صداقة قوية برموز اليسار الطلابي وبعض نشطائه خارج حرم الجامعة , ولقد تشرفت بمجالسة هؤلاء والحوار معهم لساعات طويلة , أحبني البعض منهم حتى تبادلنا الزيارات وأصبحنا أقرب الأصدقاء ولازلت أذكر علاقتي القوية بالزعيم الطلابي الألماني روبرت أنسغر الذي أكلت من طعامه وبت بمنزله وجمعتني به أوقات خالدة وحميمية ... لازلت أذكر تلك المناضلة اليسارية الشقراء وباحثة علم الاجتماع التي تفضلت بزيارتي في سكناي مع وفد من المناضلين والنشطاء السياسيين الألمان , ثم مالبثت أن أحبتني الى حد الهيام ... مع كل هؤلاء جلست وتحاورت وتبادلت أوقاتا تخلدها الذاكرة ,ولم يتجرأ احد منهم يوما ما على القدح في الدين أو الاله أو المس بمشاعرنا الاسلامية ورموز ديننا الخالدة .. أذكر أننا أنشأنا يوما ما بمستقرنا الطلابي بيتا للصلاة , وقد وجدنا من هؤلاء المناضلين الألمان كل المساندة والمؤازرة , حتى أن زعيمهم اليساري كان يتكفل بالوقوف معي سندا في مواجهة عطالة بعض أركان البيروقراطية أو فوبيا الاسلام ... وعلى النقيض من اليسار الألماني الذي حمل على الدوام لواء الدفاع عن المسلمين وحمل في برامجه خططا للادماج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تحت لواء الحداثة الألمانية ودولتها القوية .., على العكس من ذلك تشغل شريحة واسعة من اليسار التونسي النفس بقضايا معاداة الرمز الديني واذابة واضعاف مكانة الاسلام من الدولة والمجتمع , بل ان تأطيرها للشرائح الشبابية يقيم الرحى وأعمدته الفكرية على بث فكرة - لا اله والحياة مادة ! - ... أجد النفس محتارة فعلا تجاه وضع الحركة اليسارية التونسية ومشروعها الثقافي المعادي في هوس لكل ماهو اسلامي ...!, حتى يصل الهوس بالبعض من مكوناتها الى التشفي من السجناء الاسلاميين والى الرغبة الجامحة في استمرار قصة عذاباتهم أو منفاهم خارج حدود الوطن .., بل ان البعض يذهب الى الدفاع عن كل مشروع شمولي تسلطي يهدف الى تغييب قسري لرموز الفكرة الاسلامية المعتدلة ولايدخر وسعا في تعطيل قطار أي مصالحة وطنية تضع حدا لحرب داحس والغبراء ... الخلاصة أننا أمام حالة يسارية تونسية غير مفهومة , برغم ارتباطي على الصعيد الشخصي بتجارب حوار وصداقة مع يساريين تونسيين يمثلون قلة وسط بحر من التشويه والتحامل الذي يشق مدرسة فكرية وسياسية عريقة لم تأخذ بعين الاعتبار أسباب هزيمة الاتحاد السوفياتي وأنظمة الاشتراكية الشرقية حين جعلت مهمة الدولة محاربة الكنيسة واضطهاد الاسلام لتجعل من سيبيريا وطشقند وسمرقند شاهدا على مجازر ارتكبت في حق مالايقل عن سبعة ملايين مسلم , دون أن نأخذ بعين الاعتبار ماتسلط على كبار الرهبان ورجال الدين من قصص عذاب مؤلم ... ان الحالة التونسية ستؤكد مرة أخرى حقيقة أن الدعوات لاتهزم بالأذى , وأن تغييب المشروع الاسلامي الحداثي قسرا وجبرا سوف لن يخلف الا شوقا وتجذرا وتأصيلا لعلاقة أكثر انسانية وحميمية بين الدولة والدين وبين المجتمع التونسي والحنفية السمحاء. *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية : [email protected] الهاتف 00491785466311 حرر بتاريخ 27 مارس 2009