تشرفت بتواجدي في أروقة و قاعات القمة العربية بالدوحة الحبيبة خلال إنعقادها أواخر مارس و بالتقائي العديد من الشخصيات العربية النافذة و الإعلاميين المرموقين والملاحظين الواعين و ازددت يقينا بأن الدبلوماسية الخليجية عموما و القطرية بالخصوص لأن قطر هي المضيفة تتميز بالمواقف الذكية و الجريئة وهي التي أسهمت بقسط وافرو إلى حد بعيد في تغيير مجريات الشأن العربي من حالة الذهول إلى حالة الحركة. و لم يكن ذلك بالأمر اليسير لولا تلك الإرادة الصماء الجديدة التي تحلى بها القادة العرب تحت وطأة ظروف إقليمية و عالمية هي أيضا جديدة. و لعل أبرز المتغيرات التي ميزت قمة الدوحة هي التخلي بالإجماع عن الفرار إلى المواقف و تدشين مرحلة ديناميكية من البحث عن المواقع. فالعالم الذي نعيش فيه لم يعد يبالي بالمواقف مهما كانت حدة لهجتها أو كانت فصاحة عباراتها و لم يعد يرحم أصحاب المواقف إذا لم تكن لديهم مواقع. و المواقع التي ينشدها العرب اليوم هي حضورهم الفاعل على الخرائط الجديدة و المتحركة و الطارئة للعالم، في مراكز القرار الإقتصادي و المالي الدولي و في ساحات التأثير الأستراتيجي و عند مفاصل الخيارات السياسية الكبرى. و على هذه الأصعدة الحيوية فإن غيابنا لافت. كانت القمة من هذا المنظور قمة تجميع ما تفرق و توحيد ما انشطر بين العاهل السعودي والعقيد الليبي و تقريب الشقة الظرفية المؤقتة بين القاهرة و الدوحة و دمشق، و كذلك في العراق المضمد لجراحه و في فلسطين المنقسمة وفي السودان المهدد و في الصومال المفتت إلى جانب محاولات توحيد الموقع العربي إزاء ملف إيران. أي إن القمة لو إبتكرنا لها شعارا لأخترنا شعار تجسير ما تباعد و رتق ما انفتق و وصل ما انقطع، إنتظارا لهبة من هبات العرب التاريخية التي نسيناها. و هكذا يمكن القول بأن القمة كانت قمة لم الشمل وهو العمل الضروري قبل مواجهة تحديات المصير. و للقارئ أن يعترض على هذا التفاؤل و يطالب بالمواقف الأجرإ و الأكثر اتصالا بمشاغل العرب وهمومهم، وهو محق في ذلك لكن الواقع الدولي اليوم لا يسمح للعرب وهم يحاولون تجاوز خلافاتهم سوى بالصبر و الإنتظار إلى أن يحتل العالم العربي موقعه الجدير بثرواته وأمجاده و كفاءات بنيه. فكأني بالعرب اختاروا في هذه القمة أن يمتثلوا لقول الإمام علي كرم الله وجهه وهو: أفضل الجهاد الصبر و إنتظار الفرج. فالظرف الدولي يمر بمرحلة إعادة تشكل دقيقة رأينا بوادرها خلال القمتين الهامتين: قمة العشرين الأكثر تقدما و رخاء من أجل إبتكار حلول للأزمة المالية العالمية الخانقة و ذلك في لندن مطلع الشهر الجاري ثم قمة حلف شمال الأطلسي بمدينة سترازبورغ الفرنسية ومدينة بادن بادن الألمانية بعدها مباشرة. و هاتان القمتان جمعتا دول الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة، و الولاياتالمتحدة ذاتها تدشن عهدا جديدا على أيدي البركة بن الحسين وهو يجتهد للقطع تماما مع ولايتي الرئيس بوش و تخبط إدارته بزعامة ديك تشيني و المحافظين الجدد. فما الذي حدث من تقلبات عميقة خلال القمتين و يهم العرب كما يهم غيرهم من الأمم؟ 1)- يلاحظ المراقبون بأن قمة لندن و قمة سترازبورغ كانتا متكاملتين لأنهما إعتمدتا غاية واحدة هي إحكام القبضة على ثروات العالم و المزيد من مراقبة مفاصل القارات الخمسة ومضاعفة التأثير الأستراتيجي على قرارات الأمم. و ليس العرب وحدهم من سيدفع الفاتورة بل إن العرب أكثر الأمم تضررا من قرارات هاتين القمتين. فبالإضافة إلى إعادة صياغة فلسفة الدفاع العسكري لحلف الناتو على أساس ما يسميه الغرب الحرب على الإرهاب و حصر هذا الإرهاب في أفغانستان و باكستان و إيران ( وهي جارة العرب التاريخية مهما اختلفنا حولها ) فإن لا قمة لندن الإقتصادية و لا قمة سترازبورغ العسكرية حللت حقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما هو في الواقع أي العائق القائم منذ ستين سنة بسبب القهر الصهيوني لشعب عربي لا يطمح سوى لدولة مستقلة و عيش كريم، كما أن القمتين لم تريا في هذا الصراع نواة الأزمات الكبرى الماضية و القادمة في الشرق الأوسط و قلب العاصفة في التشنج الإقليمي و مركز الزلزال في ما ينتظر العالم من معضلات. و هنا كان على القمة العربية أن تستبق الأحداث لتعلن عن إحتلال العرب لمواقع قوة و تأثير لا الإكتفاء بالمواقف التي لا تقنع الرأي العام العربي و لا تغير من ضلال الغرب شيئا! و كان ذلك ممكنا بل مطلوبا لو أن القمة العربية أعلنت سحب المبادرة العربية التي وافقت عليها قمم سابقة أي مبادرة الملك عبد الله حفظه الله لا أن نظل نحن العرب أصحاب اليد السفلى كأنما اخترنا لأنفسنا مواقع الوهن و الضعف و الإستجداء، لأن إسرائيل ماضية في تهويد القدس و بناء جدار الميز العنصري رغم إدانة محكمة العدل الدولية و مستمرة في سجن 11000 مناضل فلسطيني و مواصلة بناء المستوطنات ثم الإصرار على تغيير حكومتها بإسناد وزارة الخارجية لليبرمان المتعصب العنصري ! فأية مبادرة للسلام نتقدم بها و نواصل طرحها ! و نستمر في التلويح بسحبها دون أن نسحبها ! و لمن نتقدم بها و العدو أصم أبكم متهور؟ فقد وصلت إلى إسرائيل عام 2008 من الجمعيات الأهلية اليهودية مبالغ 34 مليون دولار للمساهمة في بناء المستوطنات و لا أحد يمكن أن يغير ميزان التفوق العسكري اليوم. أي في النهاية لا أحد يستطيع تغيير المواقع مهما كانت المواقف