الدكتور منذر صفر، تونسي المولد والجنسية والانتماء لا فقط لتونس، بل للإنسان المظلوم والمضطهد في أي مكان ومهما كان من هذا العالم، من يعرفه من قريب أومن بعيد، سرعان ما يكتشف أنه مصطف دوما إلى جانب الفقراء والمظلومين والمضطهدين، ومنخرط ميدانيا وفعليا ودون تحفظ في الدفاع عن اللاجئين السياسيين ومسلوبي الأوطان، ويجتمع الكل على نجاعته في العمل الحقوقي، وهو معارض شرس لا يبيع ولا يشتري في القضايا الوطنية، يمتاز بالتواضع والمصداقية، مما جعله على اللائحة السوداء للنظام التونسي، ومن أجل تخندقه في النضال المستمر إلى جانب قضايا التحرر والمساجين، دفع فاتورة باهظة لا زال وجهه يحمل علامة عميقة، اثر الاعتداء السياسي الذي تعرض له، بالإضافة إلى تمركزه على خطوط التماس لمحاربة الصهيونية، ما جعله يتلقى حوالة بريدية بها رصاصة مصحوبة بورقة تقول: المرة القادمة تكون في صدرك، وقد تمكن البوليس الفرنسي أخيرا من معرفة الجاني، وهو أحد المتطرفين الصهاينة، حاولنا الجلوس إلى الدكتور منذر صفر والسفر معه في بعض مراحل الصبا والشباب ليكون هذا الحديث المفتوح. ولدت في تونس العاصمة، وتحديدا بباب منارة وهو حي يتكون من بورجوازية صغيرة وشرائح من الكادحين، درست المرحلة الابتدائية في مدرسة الصادقية والتعليم الثانوي في العالوية، وفي سنة 1965 وعلى إثر التحركات الجامعية، عرفت العنف البوليسي وعمري آنذاك 15 سنة، حيث أصيب أحد زملائي من المتظاهرين في رأسه، وفي المساء أرسلت رسالة باللغة الفرنسية إلى وزير الداخلية أحتج فيها على العنف البوليسي، وقد جاءني استدعاء من وزارة الداخلية وأنا في فصل الدرس، وكما ذكرت عمري 15 سنة فقد اصطحبني والدي إلى الموعد، وهناك استقبلنا مدير مكتب وزير الداخلية، وقد كذب كل ما جاء في رسالتي، وأضاف بلهجة حادّة أمام والدي، قائلا لي" إذا لم تكن مقتنعا عندنا "بيت الصابون" يقصد بيت العذاب-كما عرفت معناها لما كبرت-، ستجعلك أكثر اقتناعا، واستمرّ طيلة الجلسة يطلق عبارات التهديد والوعيد والتخويف، والتأكيد على عدم العودة لهذه الأشياء، التي تعتبر عصيانا وتمردا على القانون... شاركت في مظاهرة داخل المعهد سنة 67 بمناسبة 7 جوان، ثم جاءت أحداث 8 ماي 1968 الفرنسية، وهنا حاولت فهم العالم، وفي آخر سنة البكالوريا انخرطت في الاطلاع على أفكار الماركسية، ومنها الفلسفة البوذية، تلك الديانة المعروفة بعدة طقوس منها ارتفاع النفس إلى درجة عليا " stade supérieur"... في الجامعة التونسية درست بعض الأشهر ، من سبتمبر الى أفريل 1969، وقد رأيت أن الدراسة بالنسبة لي لم تكن ثرية، وهي تعتمد أكثر على الحفظ دون النقاش الفلسفي العميق، بالإضافة إلى أن الأجواء الثقافية والسياسية كانت خانقة، كما أحسست أن المناخ السياسي والاجتماعي كان رديئا... في فرنسا رسمت في جامعة " فانسان" لدراسة العلوم الاجتماعية، ولكن لأسباب مادية لم أواصل الدراسة، ومع ذلك كانت تجربة السفر ومغادرة تونس تجربة مفيدة، وفي المهجر احتككت بأوساط يسارية وماركسية تونسية وغير تونسية، وفي سنة 1970 قرّرت الرجوع إلى تونس للدراسة في قسم التاريخ، وقد ناضلت في دوائر اليسار " العامل التونسي"، وكنت أنشر في جريدة "la gazette" الممنوعة، والتي توزع بطريقة سرية وتحتوي على أربع صفحات، أثناء المحاكمة التاريخية في أوت 1974، وقع استجوابي من طرف البوليس التونسي ثم أطلق سراحي، وبعد صدور الحكم بالسجن على زملائي، فهمت أني محاصر وسيأتي دوري، ففررت بجواز سفري العادي، كان ذلك يوم 3 سبتمبر 1974 بمناسبة الاحتفالات بذكرى عيد ميلاد الرئيس بورقيبة، الذي يقام كل سنة في مثل هذا اليوم، وهي مناسبة تستنفر لها كل أجهزة البلاد الأمنية والحزبية، في هذا اليوم تجهزت للسفر عن طريق الباخرة من تونس لمرسيليا، قدّمت جواز سفري فوقع حجزه، وركب كل المسافرين وتعطلت الباخرة بسببي، وظل بوليس الميناء يتصل بالمسؤولين الأمنيين الكبار، الذين يملكون الصلاحية في هذا الأمر، غير أن كل من يتصلون به يجدونه في احتفال ذكرى عيد ميلاد بورقيبة، وتعطلت الباخرة كثيرا، وتعطل المسافرون وأمام هذا التخبط في اتخاذ قرار، يمنعني من السفر، طبعوا لي الجواز، وكأنه تخلصا من تذمر المسافرين، وهنا تنفست الصعداء.. بقيت في فرنسا من سنة 1974 إلى سنة 1984، أتممت خلال هذه المدة شهادة الدكتوراه في التاريخ، ومن المفارقات عدت إلى تونس سنة 1984، وقد تزامن رجوعي مع ثورة الخبز، التي ابتدأت في 31 ديسمبر 1983، حضرت هذه الأحداث المؤلمة، التي انتفض فيها الشعب التونسي من شماله لجنوبه ضد ارتفاع أسعار الخبز، وعدلت عن الاستقرار في تونس، وخيّرت مواصلة أبحاثي بباريس، بعدما رأيت من تدهور في المناخ السياسي، وظللت أزور تونس في العطل.. كيف بدت لك ملامح الانقلاب في بدايات عهده؟ أثناء انقلاب 7 نوفمبر 1987 وتولي زين العابدين بن علي، كنت بالصدفة في تونس، وتابعت المشهد السياسي عن قرب، وقد ألقي علي القبض من طرف البوليس ومعي آلة تصوير، كنت ألتقط بعض الصور بجانب القصر الرئاسي، لأني رأيت أن هذا الحدث له أهمية تاريخية، وقد تمّ اقتيادي إلى مركز "باردو" بتونس العاصمة، وأمضيت ساعة ونصف في التحقيق، وأطلق سراحي، وفهمت أن لا تغيير حقيقي، وظللت أعود إلى تونس في المناسبات، وأكتب في الصحافة التونسية، وكنت أطالب العهد الجديد بالتغيير الجذري.. ما هو موقفك من الإسلاميين؟ لا أخفيك أني كنت ضد الحركة الإسلامية، فحسب ما قرأت وسمعت كنت ضحية الغول الإسلامي، كنت أتصور أن الإسلامي ضد الحرية والآن بالنسبة لي الأشياء تطورت.. ما الذي جعلك تنخرط في العمل السياسي المعارض؟ بداية 1992 وصلني تقرير حول الأوضاع الحقوقية في تونس من منظمة العفو الدولية عبر بعض الأصدقاء، وقبل ذلك بقليل قابلت المرحوم علي السعيدي صدفة في محل للطباعة بباريس، وكان بصدد طبع مناشير ضد بن علي باسم جمعيته comité de la défense de la liberté، وقد تبادلنا العناوين وانخرطت في جمعيته الحقوقية، وما جعلني انتبه هو تقرير منظمة العفو الدولية، حيث يذكر التقرير فضاعات التعذيب وأهوال السجون والظلم البوّاح، فكانت صدمة كبيرة لي أن أطلع على هذه المذبحة، وكانت فاجعة كبيرة تحت شعار الديمقراطية والحرية والرأي، يتفاخر بها النظام ,عندها اتخذت قرارا وعهدا أن أتجند لمحاربة هذا النظام الجائر بالوسائل المشروعة، لأنه لا يمكن معه أي نقاش بعد هذه المجازر، في شهر أفريل 1992 آخر زيارة كانت لي إلى تونس، اتصلت فيها بكثير من الأصدقاء للحصول على بعض المعلومات، وبداية مشواوي في النضال ضد الاستبداد السياسي في تونس.. الجمعية التي أسستها لماذا أثارت غضب النظام؟ تسمى جمعية النداء لاستقالة بن علي وقد اقترحت إنشاء حكومة تونسية مؤقتة لضمان المؤسسات الجمهورية، وفي سنة 1992 على اثر محاكمة المنصف بن علي شقيق الرئيس زين العابدين بن علي المتورط في قضايا المخدرات، وقد تجند النظام بكل أجهزته في حماية هذا المدمن ومحاصرة الفضيحة، التي فاحت رائحتها وتناولتها بالتفصيل الصحافة الفرنسية، مما جعل النظام التونسي يهرّب شقيق الرئيس من باريس بطريقة تنكرية، وكان في هذه الجمعية احمد المناعي ومنير لطايفية وعلي السعيدي، وقد سجلت هذه الجمعية في الدوائر الأمنية المختصة الفرنسية، وعلى اثر تأسيسها تلقيت عدة مكالمات من تونس تستفسر هل صحيح هناك جمعية للمطالبة باستقالة بن علي، فأكدت على أن الجمعية حقيقة وقد قامت هذه الجمعية بعدة تحركات حقوقية وإعلامية مهمة... هل لنا أن نعرف مضمون الرسالة التي أرسلتها إلى البابا؟ في سنة 1996 على إثر زيارة البابا لتونس، وقد كان في برنامجه مقابلة المعارضة في قصر بن علي، فوجئت! كيف كان البابا يستقبل المعارضين في مكتب الرئيس، فأرسلت رسالة مفتوحة للبابا، قلت له أن تونس عبارة عن سجن كبير، وان من سيقابلهم ممن يسمون معارضة في القصر الجمهوري، لن يقولوا الحقيقة وسوف يلمعون صورة النظام، وتكلمت عن قضايا الفساد السياسي والرشوة، وأرفقت رسالتي بقصاصات وشواهد من الصحافة الفرنسية، التي كشفت المستور على إثر تورط شقيق زين العابدين في قضايا مخدرات، وقد تناولت الصحافة الإيطالية هذه الرسالة، وكذلك الصحافة البرتغالية والفرنسية ووكالات الأنباء... جرح طويل يشق وجهك بوضوح فما هي قصة هذه العلامة المشوهة؟ وقعت زيارة البابا يوم 22 أفريل، وفي 12 افريل وقع الاعتداء علي من طرف شخصين تونسي الملامح، أحدهم مسكني بقوة من الخلف، والآخر ضربني في وجهي بموسى مما أحدث في وجهي تشويها نقلت على إثره للمستشفى حيث وقع إسعافي وتخييط وجهي حيث أصبت ب12 غرزة ولا زال وجهي يحمل علامة الاعتداء الواضح الذي لن يمحوه الزمن الاستبدادي...