القصف العشوائي ليس حالة عسكرية فحسب بل هو أيضا ظاهرة ثقافية تشهر فيها الأقلام بدل المدافع وتغتال فبها الأرواح وتهتك فيها الأعراض. ظاهرة تتخفى عادة خلف شعارات النقد الفكري والسياسي. القصف طال هذه المرة قناة الجزيرة والمعتدي ليس أمريكيا ولا صهيونيا وإنما هو للأسف كاتب تونسي يزعم حمل مشعل المشروع الديموقراطي العربي ويدعي المنافحة بقوة عن قيم الكفاءة والتواضع وأخلاقية المهنة وسمو الضمير. ليس الموضوع جديدا، فلا مقدس يعلو فوق عملية النقد. غير أن الناقد هنا أولى بالموعظة من المنقود والناصح أوجب للنصيحة من المنصوح. لقد ركز الناقد في انتقاده لقناة الجزيرة على مركزية البعد السياسي التنظيمي في إدارتها و أدائها. ولم يجد أفضل من اتهامها بالوقوع فريسة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين من اجل إثبات إستبداديتها وفقدانها لأخلاقيات الكفاءة و المهنية. اختيار التهمة لا يتطلب كثيرا من الذكاء، فهي بضاعة رائجة في سوق النخاسة الدولية حيث الأصولية والإرهاب و الأخوان عملات رائجة لمن أراد مكانا أو أراد رقيا. تبدو الملفات التي بيد صاحبنا حمالة لحجج قطعية لا لقرائن قابلة للدحض. فشخصية وضاح خنفر، ذي الانتماء الأصولي العريق، وأسطول الموظفين المبايعين لمرشد الإخوان، على حد قوله، صواريخ كافية على ما يبدو لنسف القناة تحت تهليل مجلس الأمن و بمباركة من وزراء الداخلية العرب وتحريض من جيش المثقفين من عرابي المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد. ليست التهمة، في مضمونها، جديرة بالرد وإنما هي أبعادها الخطيرة ومغزاها التحريضي المدمر دفعتنا للتصدي وفضح المكر الخبيث "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله". السؤال المحير حقا: لماذا تستهدف قناة الجزيرة اليوم من طرف مثقف عربي يدعي الالتصاق بهموم الأمة والدفاع عن قضاياها والحال أنها أصبحت اليوم، بدون منازع، رأس حربة في المواجهة الإعلامية ضد الهجمة الصهيونية والأمريكية- الصليبية على الأمة وضد إستبداد الطواغيت من بني جلدتنا، و أضحت شوكة عصية في حلق الدكتاتوريات الماكرة وكلمة حق وصدق في مستنقع الإمبراطوريات الإعلامية الكاذبة؟ هل يمكن أن يفهم هذا الموقف المتجني خارج نسق الحملة الأمريكية-الصهيونية على القناة والمشروع؟ وإذا كان الأمر غير ذلك، ألم يكن من الأجدر والأنسب أخلاقيا ومن قيم الشهامة والرجولة تأجيل جريمة الطعن إلى ما بعد انتهاء الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان أو على الأقل حتى يتوقف العدوان الصهيوني الغاشم على جنوب لبنان وقطاع غزة، حيث يقوم "إخوان" الجزيرة بتغطية بطولية كلفتهم غالي النفس (طارق أيوب) وسجون أوروبا (تيسير علوني) ومعتقل غوانتنامو (سامي الحاج)، ولست أعرف مؤسسة عربية أو عالمية أخرى تحظى بمثل هذه الأوسمة والنياشين المنتزعة بالقلم والجهد والدم وربما ببعض المال الخليجي الوفي لقضايا أمته العربية والإسلامية. ألا يستحي هذا المثقف من نفسه وهو يصادم الشعور العام للشارع العربي الملتف حول مشروع الجزيرة الرائد والذي لا يهمه أن يكون هذا المشروع إخوانيا أوناصريا أو ماويا، كما لا يهمه بالمناسبة أن يكون حزب الله شيعيا أو إيرانيا أو سوربا، وما يهمه فقط هو الولاء للقضايا العربية والإنسانية العادلة وترجمة هذا الولاء العملية على أرض الواقع. ألا يخجل من نفسه وهو يتهم موظفي الجزيرة، المشهود لهم بالكفاءة والمهنية، بالوقوع ضمن دائرة الإبتزاز الإخواني بكل ما يحمله ذلك الإدعاء من إحتقار لهذه الكفاءات حيث أضحوا مجرد عجينة طيعة تتلوى حسب هوى المرشد أو نائبه في القناة. ثم أي فضاعة ونذالة أشد من وصفه تدين البعض و ارتداء الحجاب من طرف البعض الآخر، ولست أعلم غير الصحفية القديرة "خديجة بن قنة" مثالا، على أنه إرضاء للمدير و "تكفيرا عن معاصي الماضي"، لما في هذا الجرم من نبش في النوايا وإفتراء بلا دليل و قذف للمحصنات، وهي جريمة بشعة لا يرتكبها سوى الأفاكين من القوم .. أما درس التواضع الذي أراد "الناقد الحصيف" إلقاءه على قرائه الكرام فقد تحول على طول العكاظية التحريضية إلى شهادة على الغرور والخيلاء، فهو تارة في رفقة كبار الصحفيين يسرون إليه بمكنون الصدور، وأخرى في مطار الدوحة يوجه النصح و"التقريع" إلى مديرهم. في الختام، يبدو أن سببا آخر حرك صاحبنا ليصب حمم غضبه على قناة الجزيرة ومديرها وعلى التنظيم الدولي للإخوان ومرشده. قد يكون هذا السبب خلافه السياسي مع إخوان الماضي القريب الإخوانيين (التونسيين) أو سخطه على مسؤول برنامج حواري لم يعرف قدره الرفيع وحرمه كلمة الختام، أو حسدا لإطار القناة على نجاحاتهم الباهرة .. ذلك ما نرجحه ونتمناه . كما قد يكون دورا مخابراتيا توظفه بعض الدوائر اليمينية المتصهينة تمهيدا لقصف الجزيرة أو نسفها من الوجود حيث الحرب على الإرهاب والإخوان مبرر لإرتكاب أبشع المجازر. وهذا ما نستبعده ولا نرجوه إجتنابا لسوء الظن لأن بعض الظن إثم. وفي كل الحالات، من المؤسف حقا أن تصدر هذه الإدانة وهذا التحريض من لاجئ سياسي يتمعش من إنتماء سياسي سابق إلى تيار إخواني. نصيحة نهائية للكاتب – القناص، كل سلاح لا يوجه للعدو أثناء المعركة هو سلاح مشبوه، فاعرف أين توجه سلاحك، أو تبوأ مكانك ضمن "العاقلين ورافضي المغامرات" وعرابي مشروع كوندوليزا للشرق الأوسط الجديد. *