مع بزوغ خيوط الشمس الأولى صبيحة يوم 3 أغسطس 2005 الربيعي، بدأت الحقيقة تتكشف وبدأت الأنباء تتولى مؤذنة بوضع حدّ لسلطة الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع بعد واحد وعشرين عاما قضاها حاكما للبلاد، نُسب له خلالها ملء السجون بالمعارضين وتشريد الآلاف وقتل العشرات في مذابح عرقية، استهدفت الأقلية الزنجية في البلاد. وبدأت موريتانيا مع ذلك اليوم رحلة سياسية جديدة، مع حكم جديد يقوده العسكريون، إلى نهاية قالوا إنها ستكون ديمقراطية واعدة ومزدهرة. وقد جاء تدخل العسكر بعد أن أصبح يقينا - لا ريب فيه لدى الجميع - أن لا أمل في تغيير سلمي للسلطة في موريتانيا، وأن ولد الطايع يمسك بتلابيب البلد نحو المجهول، ويتشبث بالسلطة حتى النهاية. ويقول بعض مقربيه إنه كان يخطّط لتوريثها على طريقة بعض "الجمهوريات الملكية" في الوطن العربي، لذلك كان الجميع يتطلّع إلى تدخل العسكر لوضع حدّ للأزمة السياسية الخانقة، التي أوشكت أن تعصف بالبلاد وتُدخلها في أتون حرب أهلية مجهولة العواقب، بعد أن تكرّرت المحاولات الانقلابية الفاشلة التي سقط جرّاءها عدد من المدنيين الأبرياء. استهل الحكّام الجدد للبلاد فترتهم كعادة كل الانقلابيين بالوعود والتعهدات، وحمل البيان رقم واحد صبيحة 3 أغسطس وعدا بألا تزيد فترة حكم المجلس العسكري على سنتين، يغادر بعدها السلطة ويعود العسكريون إلى ثكناتهم بعد أن يشرفوا على تنظيم انتخابات لن يشارك فيها أي من أعضاء المجلس العسكري الحاكم، ولا أعضاء الحكومة الانتقالية التي عيّنها. وأصدر العسكريون ميثاقا دستوريا علّقوا بموجبه العمل ببعض بنود دستور البلاد، واحتفظوا لأنفسهم بالسلطة التشريعية والتنفيذية، بعد أن أعلنوا عن حل البرلمان. ولأن البلاد كانت على شفا الهاوية، سارعت مختلف القوى السياسية في البلاد إلى تأييد المجلس العسكري انطلاقا من تعهداته، وأعلنت جميعها استعدادها للتّعاطي الإيجابي معه. وكمدخل لتنفيذ تلك التعهدات الطوباوية، أصدر الرئيس الجديد للبلاد العقيد اعل ولد محمد فال، عفوا عن جميع السُّجناء السياسيين، وأسقط أحكاما بالإدانة كانت قد صدرت بحق عشرات المعارضين في المنفى، وأفرج عن عشرات من قادة ونشطاء التيار الإسلامي الذين امتلأت بهم سجون ولد الطايع، إضافة إلى قادة تنظيم "فرسان التغيير" الذين حاولوا أكثر من مرة الإطاحة به عن طريق القوة. ثم أشفعت تلك الخطوات بدعوة الحكومة الانتقالية جميع الفرقاء السياسيين والشخصيات الوطنية إلى مؤتمر وطني للحوار والتشاور استمر أربعة أيام، خرج منها الجميع ببرنامج سياسي متفق عليه لتسيير المرحلة الانتقالية، ووضع الخطوط العريضة لأساليب حكم البلاد مستقبلا. كما اتفق الجميع على وضع برامج تتعلّق بالمسار الانتقالي والحكم الرشيد وإصلاح العدالة، وتم انتخاب لجنة مستقلة للإشراف على الانتخابات، شاركت الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني في اختيار أعضائها الخمسة عشر، كما تم الاتفاق على قانون جديد لتمويل الأحزاب السياسية التي كانت تحت رحمة ابتزاز الحزب الجمهوري الحاكم في البلاد سابقا. وأمام سيل التشكيكات التي راودت الكثيرين بشأن إمكانية تراجع المجلس العسكري عن تعهّداته أو التلاعب بها، خُصوصا ما قيل عن احتمال تمديد الفترة الانتقالية أو التراجع عن قرار عدم ترشح أي من أعضاء المجلس العسكري للانتخابات القادمة، وهي مخاوف كانت تجد في السياق التاريخي ما يبرِّرها. فموريتانيا عرفت أول انقلاب عسكري في تاريخها في يوليو عام 1978، حين أطاح الجيش بالرئيس الراحل المختار ولد داده، وتعهّد القادة العسكريون حينها بإرساء ديمقراطية حقيقة، ما تزال البلاد تنتظر بزوغ فجرها ووفاء العسكر بوعوده بعد 24 عاما على إطلاقها عقب الانقلاب الأول. هذه المخاوف ألجأت رئيس المجلس العسكري إلى اتّخاذ قرارين، اعتبرهما المراقبون قطعا للطريق على تلك الشائعات، كان أولهما، تقليص مدة المرحلة الانتقالية من سنتين إلى تسعة عشر شهرا، وإصدار قانون يفرِض عدم أهلية رئيس وأعضاء المجلس العسكري، وكذا الوزير الأول وأعضاء حكومته للترشح لكل الانتخابات التي ستُنظم خلال الفترة الانتقالية، بما في ذلك الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية. وشعر الجميع بقدر من الطمأنينة إزاء هذين القرارين اللذين وصفهما أحد مرشحي الانتخابات الرئاسية القادمة بأنهما أكبر ضمانة على شفافية المرحلة الانتقالية. ثم جاءت بعد ذلك، التعديلات الدستورية كخطوة على طريق إعداد الساحة السياسية لما بعد المرحلة الانتقالية، ووضع العسكريون نصب أعينهم احتمال تفكير آخرين مستقبلا في انقلاب عسكري جديد، فسعوا إلى ما أسماه رئيس المجلس العسكري العقيد اعل ولد محمد فال، محاولة سحب الذرائع مستقبلا من أي شخص أو مجموعة تُحاول الاستيلاء على السلطة بالقوة، وذلك عبر منع السلطات المنتخبة من الاستبداد بحكم البلاد أو الاحتفاظ به. فقلّص الدستور الجديد مأمورية رئيس الجمهورية إلى خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، أي أنه منع على أي رئيس مستقبلي للبلاد أن يحكمها لأكثر من عشر سنوات، وحتى لا يقدم أول جالس على كرسي الرئاسة على تغيير الدستور وتمديد مأموريته مدى الحياة، كما حدث في بعض الدول العربية. نص الدستور الجديد على يمين يؤدّيها الرئيس قبل تسلمه لمهامه، ويقسم بموجبها على ألا يغيّر أو يدعم تغيير المواد الدستورية المتعلّقة بولاية رئيس الجمهورية أو تجديدها. كما سحب الدستور الجديد من البرلمان صلاحية الدعوة لأي استفتاء شعبي لتغيير تلك المواد، ووضع حدّا زمنيا لعمر رئيس الجمهورية حصره في 35 عاما الواقعة بين 40 و75 عاما، حيث لا يجوز أن يقل عمر المرشح لمنصب رئيس الجمهورية عن 40 عاما، ولا يزيد على 70عاما. ونص الدستور الجديد أيضا على تعارض تولي منصب رئيس الجمهورية مع أي منصب قيادي في حزب سياسي. وقد دافع رئيس المجلس العسكري خلال الحملة الانتخابية المحضرة للاستفتاء على الدستور على هذه المادة بالقول "أن من انتخب رئيسا للجمهورية، يجب أن يصبح رئيسا لجميع الموريتانيين، وبالتالي، لا مجال لأن يترأس فئة من هذا الشعب دون أخرى". وصدر قانون جديد للصحافة المستقلة يُلغي تبعيّتها لوزارة الداخلية، كما يُلغي عقوبة المصادرة التي كانت تُمارَس ضدّ الصحف التي تنشر مواضيع لا تروق للقائمين على الحكم. وفتحت الوسائل العامة الرسمية، خصوصا الإذاعة والتلفزيون، أمام جميع الفاعلين السياسيين بدون استثناء. انقلاب على انقلاب وقبل أن يشرب العسكريون نخب فوز التعديلات الدستورية بأغلبية أصوات الموريتانيين وبنسبة تزيد على 96%، عاجلتم أجهزة الاستخبارات بالإعلان عن اكتشاف مخطط لانقلاب عسكري كان يستهدف الإطاحة بحكم المجلس العسكري، وإعادة الرئيس المخلوع معاوية ولد سيدي أحمد الطايع إلى سدّة الحكم. وقد أثارت هذه المحاولة التي اتّهم فيها عدد من أقارب ولد الطايع، من بينهم عسكريون ومسؤولون سامون في الدولة ورجال أعمال، قلق الكثير من السياسيين الذين رأوا فيها عودة للتوتر وعدم الاستقرار السياسي الذي كان الجميع يأمل أن تودع البلاد عهده بعد أن عاشت قلاقل واضطرابات سياسية على مدى السنوات الماضية. ودفعت هذه المحاولة الحكومة الموريتانية إلى أن تطلب من قطر، التي تستضيف ولد الطايع، أن تلتزم بوعدها السابق بمنع ولد الطايع من ممارسة أي عمل عدائي ضد الحكومة الموريتانية أو تسليمه وزوجته، التي تقول السلطات إنها ضالعة في التخطيط للانقلاب المذكور. وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، سجّل العسكريون نقاطا إيجابية، تمثلت في رفع أجور الموظفين والتوصل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى قرار بإلغاء ديون موريتانيا متعدّدة الأطراف والبالغ مجموعها 830 مليون دولار أمريكي، وذلك بعد أن كادت موريتانيا أن تشطب من قائمة الدول الفقيرة المستفيدة من مبادرة دول الثمان بسبب ما قال رئيس الوزراء الموريتاني سيدي محمد ولد بَبكر، إنها أرقام كاذبة ومغلوطة كان النظام السابق يُعطيها للمموّلين الأجانب، عن حجم النمو وتحسّن الأوضاع المعيشية للمواطنين. كما تمكّن المجلس العسكري من مراجعة اتفاقيات تقاسم الإنتاج النفطي مع كُبريات الشركات التي تستغلّ الثروة النفطية للبلاد، وتم إنشاء مفتشية مكلّفة بمراقبة تسيير المال العام ووضع حدّ لحالة الفساد الإداري والمالي التي كانت سائدة في البلاد. وقد تمكّنت هذه المفتشية خلال أشهر قليلة مضت على تأسيسها من استرجاع ملايين الدولارات التي كانت في طريقها إلى النهب. سلبيات في طريق المسيرة لكن، بنظرة شمولية إلى حصاد عام من المرحلة الانتقالية، يسجل المراقبون مجموعة استثناءات يعتبرها الكثيرون عثرات ونقطا سلبية في مسيرة للانقلابيين، وأول تلك العثرات استثناءهم لمجموعة من سجناء الرأي لم يستفيدوا من العفو العام، بدعوى أنهم متّهمون في قضايا إرهابية، رغم أن الشرطة تُقرّ بأنهم اعتُقلوا على خلفية معارضتهم السياسية لنظام ولد الطايع، وأنهم في النهاية سُجناء رأي. وشكّل قرار رفض التّرخيص لعدد من الأحزاب السياسية، التي أعلِن عنها بعد الانقلاب، نقطة سوداء في تاريخ المجلس العسكري، الذي سارع إلى رفض الترخيص لحزب "الملتقى الديمقراطي"، أحد أكبر أحزاب المعارضة في البلاد، والذي يضم مجموعات سياسية ليبرالية وقومية وإسلامية. وبرر رئيس المجلس العسكري رفض الترخيص لذلك الحزب بالقول أنه يضم مجموعة من الإسلاميين يُوجدون في هيئاته القيادية بشكل قوي، يكاد يجعلهم المسيطرين عليه. كما رفض الترخيص لحركة تطوير الديمقراطية المباشرة التي أسستها مجموعة من القوميين العرب المقرّبين من ليبيا، دون تقديم مبرر لذلك. وعادت حملات الاعتقالات العشوائية من جديد، وتحدّث الخارجون من مخافر الشرطة والمُحالون إلى القضاء عن تعرّضهم إلى التعذيب الوحشي وسوء المعاملة. وأعلن عن قانون جديد لإصلاح القضاء، اعترض عليه القضاة، وأثار سُخط العشرات منهم، واستقال عدد منهم احتجاجا على اعتماده. وما يزال المجلس العسكري حتى الآن يرفُض المصادقة على قانون تحرير قِطاع الإعلام المرئي والمسموع الذي وعد به، رغم أن الكثيرين يحلمون بتأسيس إذاعات وتلفزيونات حرة. يضاف إلى ذلك فشل المجلس العسكري حتى الآن في استعادة مقعد موريتانيا في الاتحاد الإفريقي، الذي علق يوم 3 أغسطس بعد سقوط ولد الطايع. واشترطت المفوضية العليا للاتحاد رفع التعليق على موريتانيا بعودة الشرعية الدستورية. إضافة إلى أن عملية الانقلاب والوصول إلى السلطة على ظهور الدبابات ودون تفويض من الشعب، تُعتبر أكبر مُعضلة سياسية وأخلاقية يُواجهها المجلس العسكري منذ استيلائه على السلطة قبل عام من الآن.