يبدو الربط بين تونس وسوريا فيما يتعلق بتداعيات الحرب الأخيرة تعسفيا نوعا ما. فالبلدان يختلفان جذريا من حيث الموقع والموقف بالنسبة للحرب الإسرائيلية – العربية ومحاولة الاجتياح الأخيرة والفاشلة لجنوب لبنان. سوريا بلد عربي يقع على خط النار وهي داعم رئيسي، إلى جانب إيران، لحزب الله وللمقاومة في جنوب لبنان، وهي أيضا الحاضن الأول والعنيد للفصائل الفلسطينية الرافضة لكل أشكال التسوية السلمية مع العدو الصهيوني. أما تونس فهي بلد الياسمين والموشحات الأندلسية الناعمة حيث تفوح رائحة الليمون وتفيض الشواطئ والملاهي بصناع الفرحة والحياة. إنها جزيرة الأمان والاستقرار في بحر من القلاقل والاضطرابات تهز العالم شمالا وجنوبا. ليس ذلك إلا الوجه المرئي من حقيقة أكثر لبسا وتعقيدا. فسوريا التي ظهرت، إثر المعركة الأخيرة وتحديدا عقب قرار وقف إطلاق النار، كبطل قومي يستعرض عضلاته على مسرح الجبن العربي والذعر الصهيوني والرعونة الأمريكية ليست كما ادعى وكرر رئيسها بشار الأسد "على حق والآخرون فقط على خطأ"، بل إنها تماما كسائر الأنظمة العربية لا زالت غارقة في زمن المراهقة السياسية وأوهام العظمة والانتصارية الزائفة. سوريا لم تحقق أي انتصار بل هي أضاعت فرصة فريدة لاستعادة جولانها المحتل أو على الأقل لإحضاره كقضية في السياسة الدولية. لقد كتب الدكتور برهان غليون مقالا بعنوان "الخسارة الثانية للجولان" شرح فيه بدقة ودون أدنى تحامل خلفيات الصمت السوري أثناء الحرب وأسباب استبعادها من مائدة مفاوضات وقف إطلاق النار، فختم تحليله هازئا "فكان منها لا في العير ولا في النفير". لقد أغفل الدكتور برهان غليون من قراءته، ربما قصدا، البعد الرئيسي الذي يفسر الموقف السوري المذعور سواء فيما يتعلق بالوجود الأمريكي على الحدود في العراق المحتل أو باتهامات اغتيال الحريري أو بإعلان الاجتياح الإسرائيلي على لبنان. لقد فضل النظام السوري دس رأسه حتى مرور العاصفة في كل القضايا المتعلقة بالسيادة فأكد بذلك خوفه ونفاقه وحجب حقيقة عجزه وهشاشته. السبب الرئيسي في هذه السياسة المذعورة يكمن في عدم ثقة هذا النظام الدكتاتوري في شعبه نتيجة قيامه على غير أسس الرضا والانتخاب الديمقراطي الحر والمباشر. إنه، كسائر الأنظمة العربية الأخرى، قائم على القهر والاستعباد والغصب والقوة والسجون والمنافي وكل قيم الشر والعدوان على الإنسان وحقوقه الطبيعية. إنه نظام طائفي متسلط تمارس فيه الطائفة العلوية أبشع أنواع التنكيل والقتل ضد خصومها السياسيين والتهميش والإقصاء ضد أغلبية الشعب السوري من أبناء باقي الطوائف والملل. لقد وجد النظام السوري في نظيره الإيراني سندا وحماية فاستظل بظله واستمد قوته وعظمته منه. وليس من التجني عليه أو الرجم بالغيب القول بأنه لم يكن مستبعدا أن يكون أسرع من باقي الدول المهرولة إلى التطبيع والسلام المغشوش مع الدولة العبرية لو كان الحليف الإيراني لا زال يدور في الفلك الأمريكي شرطيا لحراسة مصالحه في المنطقة كما كان زمن الشاه. هشاشة البنية السياسية للنظام السوري وتأزم وضعه الداخلي نتيجة لسياسة الانسداد والإخضاع التي مارسها طيلة عقود مع مجتمعه وقواه الحية هي التي تفسر سلوكه السياسي وانتظاره انتهاء الحرب من أجل استعراض قواه الوهمية. لم يحقق النظام السوري أي انتصار بل هو ينتشي، باطلا ونكاية من خصومه، بالدم اللبناني الذي سطر واحدة من أعظم الملاحم في تاريخ أمتنا. وإذا كان القوي جدا عادة ما يفقد توازنه، كما قال الرئيس بشار الأسد في خطاب النصر الأخير، فخوفنا أن يفقد الواهم في قوته توازنه ورشده معا ليقود شعبه إلى الجحيم. فرصة تاريخية ضيعتها سوريا لإحضار قضية الجولان دوليا فهل تضيع معها فرصة الانفتاح والانتقال نحو دولة العدل والحريات، ذلك هو في اعتقادي النصر الحقيقي. أما تونسيا، فالمصيبة أعظم حيث أعلن النظام هناك الحداد والتبرع بالدم وطالب بإيقاف الحرب على الشعب اللبناني الشقيق تماما كما فعل زمن حرب الخليج الأولى ضد العراق. فقد عمّت إذاك مظاهرات التنديد بالغزو الأمريكي مدن تونس بإذن من الحزب الحاكم بل وتحت سامي إشراف حامي الحمى والدين والعروبة وفلسطين. لقد قام بما لم يقم به أي نظام عربي آخر درءا لهبة الشعب الغاضب وامتصاصا لحمم البركان الساكن في أحشاء الوطن. اقتراب الاسم (زين العابدين) كما اللقب (بن علي) من أهل البيت ربما يزيد من مصداقية الرئيس التونسي تجاه حزب الله وإيران وربما يفسر به البعض العلاقات الحميمة ظاهريا، على الأقل، بين هذه الأطراف الثلاثة. أوهام وأضغاث أحلام ليس لها إلا تفسير واحد اسمه النفاق وخداع الجماهير. النظام التونسي هو عرّاب أوسلو وقاتل أبي جهاد وخادم الموساد في لبنان والمنطقة وهو جلاد الشباب المتشوق للجهاد في العراق ذودا عن حياض العروبة وشرف النساء المغتصبات في معتقل أبو غريب. إنه هو نفسه، ولا عجب، سجّان محامي الحرية الأستاذ محمد عبّو إثر مقالتين تاريخيتين تتحدث الأولى عن" أبوغريب العراق وأبوغرائب تونس" وتقرن الثانية بين الرئيس التونسي بن علي ورئيس الوزراء الصهيوني، في تلك الفترة. النظام التونسي المناصر للشعب اللبناني ولأطفال فلسطين والعراق هو ذلك الذي يطارد أبناء المعاهد والجامعات ويلاحق المحامين والقضاة والصحفيين ويعتدي على شرف النساء عندما يرفعن أصواتهن نصرة لقضايا الأمة. إنه يملك كل شيء ويحتكره، السياسة والقضاء والإعلام والأعمال والعراق وفلسطين ولبنان. ليس الوقوف أخيرا مع لبنان إذن إلا ورقة توت تحجب عورته القبيحة ووجهه الاستبدادي الكريه ويديه الملطختين بعار المصافحة اليومية للصهاينة في بلادنا الذين تدنس أقدامهم مطاراتنا وشواطئنا. إن عدم الربط بين الاستبداد والصهيونية، كوجهين لعملة واحدة، هو سبب جميع انتكاساتنا القومية من مصر عبد الناصر إلى عراق صدام مرورا بسوريا الأسدين وتونس بن علي وجماهيرية القذافي العظمى. لقد انتصرت المقاومة فعلا في لبنان لأنها من الشعب وإليه وانتشت بها إيران لأنها الرابح الأكبر منها أما سوريا وتونس وباقي المنتشين فأولى بهم تضميد جراح شعوبهم والمصالحة معهم أو الرحيل فليس لانتشائهم معنى سوى المراهقة أو الجنون. *