لهجة الرئيس السوداني عمر البشير إزاء قضية نشر قوات دولية في دارفور، وهي لهجة متصاعدة منذ شهرين وصلت إلى درجة التهديد بالتخلي عن القصر الرئاسي وقيادة مقاومة عسكرية ضد أي قوات أجنبية بعد قطع العلاقات مع لندن و «تمريغ أنفها في التراب» كما فعل السودانيون الذين طردوا المستعمر البريطاني، تبدو محيّرة لكثيرين، حتى في داخل حزبه «المؤتمر الوطني». وحكومته، بلا شك، منقسمة على موقفه هذا، إذ أن «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بزعامة نائبه الأول سلفا كير ميارديت، تخالفه في هذا الموضوع، كما أن «حركة تحرير السودان» برئاسة مساعده مني أركو مناوي - الذي يتولى الآن المنصب الرابع في هرمية السلطة - تؤيد حلول قوات سلام تابعة للأمم المتحدة (القبعات الرزقاء) محل قوات الإتحاد الأفريقي. كما أن الجبهة الداخلية السودانية منقسمة بدورها إزاء هذا الموضوع، خصوصاً بعد موقف أحزاب المعارضة الرئيسية الداعم للموقف الغربي المستعجل لنشر قوة دولية تعمل على إنهاء العنف وحماية المدنيين في الإقليم المضطرب غرب البلاد. وتفيد معلومات متداولة في أوساط نخب قريبة من السلطة إن الرئيس البشير، ودائرة صغيرة حوله وصلوا إلى اقتناع مفاده أن بعض القوى الغربية التي يُصنفها الرئيس السوداني في «حال عداء» مع حكمه، استنفد كل الوسائل المتاحة لإسقاط نظامه طوال 17 عاماً، بدءاً من الحصار السياسي والاقتصادي وفرض العقوبات، إلى المواجهة العسكرية غير المباشرة التي تحصل عبر «دول مجاورة» ومن خلال دعم فصائل عسكرية مناهضة للحكم في الخرطوم، وأن هذه القوى الغربية ذاتها ضغطت في اتجاه إقرار اتفاق سلام في جنوب البلاد ليكون بمثابة تفكيك «سلس» للنظام سياسياً. لكن تجربة الشهور التي تلت اتفاق السلام في جنوب البلاد أثبتت أن سلوك النظام لم يتغير، على رغم دخول «شركاء أقوياء» في السلطة معه. فبعد مقتل النائب الأول للرئيس زعيم «الحركة الشعبية» جون قرنق، في حادث مروحية صيف العام الماضي، انكفأت حركته على نفسها في جنوب البلاد ولم يعد لها وجود فاعل في السلطة المركزية في الخرطوم، مما جعل حزب الرئيس البشير ينفرد بالسلطة ويستمر في «نهجه القديم». وقناعة تيار البشير ورجالاته في السلطة أن تلك القوى الغربية وجدت في أزمة دارفور ضالتها، من خلال السعي إلى نشر قوات دولية بصلاحيات تمكّنها من استخدام القوة وملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم في دارفور وجلبهم إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي التي تُحقق حالياً في تلك الجرائم ويتوقع أن توجّه الإتهام إلى رموز في نظام الحكم، مما يعني أن النظام سيفقد مشروعيته وربما يجد البشير نفسه يُجرجر إلى القضاء الدولي من خلال محاكمة رجاله، وبالتالي يسقط الحكم سياسياً وأخلاقياً. وهذا هو السبب، كما يبدو، الذي دفع البشير إلى اتخاذ مواقفه المتشددة إزاء نشر القوات الدولية، على اعتبار أن الأمر يتعلق بمشروعية حكمه واستمراره. لكن ثمة من يقول أن تياراً في الحكم بقيادة نائب الرئيس علي عثمان محمد طه كان له موقف آخر، إذ يعتقد أنه بالحوار يمكن التوصل إلى موقف وسط يُلبي متطلبات مراقبة السلام في دارفور عبر الأممالمتحدة وتعزيز الثقة لحماية المدنيين، وينفي في الوقت ذاته مخاوف البشير ورجاله. لكن موقف الرئيس السوداني وحملته المتصاعدة إضطرا طه أن «يحني رأسه للعاصفة» ريثما تهدأ الأمور ويتوصل اخوته في الحكم الى تبني قناعته بضرورة الحوار بدل المواجهة التي لا يبدو أهل السلطة مستعدين لها، لا هم ولا شعبهم المنهك نفسياً واقتصادياً الذي ضاق ذرعاً بالحرب وليس مهيأ لها. ويعتقد مراقبون أن البشير ورجاله في السلطة وصلوا إلى نقطة سيمثّل التراجع عنها بمثابة «سقطة أخلاقية»، وهم يراهنون على أنه لا يمكن نشر قوات دولية من دون موافقة الخرطوم، وإن أقصى ما يمكن أن يفعله مجلس الأمن هو فرض عقوبات على الحكومة إذا تعذّر التوصل إلى تفاهم يستبدل بقبعات القوات الأفريقية في دارفور أخرى زرقاء وتعزيزها بقوة من دول إسلامية وليس غربية مع صلاحيات محدودة لا تشكل هاجساً وتهديداً لنظام الحكم. وفي حال الخيار الأسوأ، يرى البشير ان نظامه ظل متعايشاً مع العقوبات والحصار على مدى 17 عاماً ولن يضيره كثيراً إن استمرت أكثر. ويُعزز موقفه أن بعض من حوله يعتقد أن خيارات القوى المعادية لهم محدودة أيضاً، وإنها تحرص على ايجاد حلول بدل المواجهة. لكن خبراء ومهتمين يعتقدون أن خيار «الصفر» وديبلوماسية «حافة الهاوية»، اللذين اعتمدهما البشير في معركته لمنع نشر القوة الدولية، يمكن أن يُقويّا موقفه في الحكم إذا أديا إلى «كفكفة» مشروع القرار البريطاني - الأميركي في مجلس الأمن في دارفور وتغيير فحواه. ولكن، في المقابل، يمكن أن يتعرض موقع الرئيس لضربة شديدة إذا تمسكت لندن بمشروعها واستطاعت تمريره في مجلس الأمن.