بن علي ظل، منذ انقلاب 1987، يحاول ويساوم طمعا في أن يحظى ب'زيارة دولة' إلى واشنطن تشمل (ضمن تشريفات بروتوكولية أخرى) مأدبة عشاء رسمية يتم فيها إلقاء الخطب وتبادل الأنخاب بين الرئيسين. أثناء زيارة لتونس أوائل الثمانينيات، سأل وزير الخارجية البريطاني دغلس هيرد نظيره الباجي قائد السبسي عن طبيعة العلاقات بين تونس وليبيا، فأجابه قائد السبسي أن تونس وليبيا مرتبطتان بوشائج الأخوة والتضامن وحسن الجوار، وأن من مصلحة البلدين زيادة هذه الوشائج توطيدا. ولم يكن من المعقول أن يتوقف دغلس هيرد، وهو السياسي اللبيب، عند هذا الحد في محاولة الاستفسار عن سر استمرار ذلك 'التوازن الحرج' في العلاقة بين الدولتين التونسية والليبية، رغم أن هذه العلاقة قد ظلت، منذ انقلاب سبتمبر 1969، رهينة هلوسات ذهن سمج وتقلبات مزاج سقيم. لذلك سأل دغلس هيرد: 'ولكن كيف تتصرفون مع العقيد القذافي؟'. فأجابه قائد السبسي بأن حال تونس مع القذافي هي 'مثل الحال مع داء الروماتيزم: يلتهب أحيانا ثم يهدأ بعد ذلك. إن الألم كامن على الدوام، لكننا لا نموت بسببه. إننا نتعايش ونتكيف معه'. هذا عموما هو المعنى الذي أتاحت لي الصدف أن أخوض فيه مع رجل الدولة الليبي السابق علي عبد السلام التريكي الذي تولى وزارة الخارجية وتقلب في عدة مناصب دبلوماسية طيلة حكم القذافي. كنت ضمن وفد صحافي عربي في زيارة إلى مقر الأممالمتحدة في نيويورك في آذار (مارس) 2004. وقد صادف، أثناء غداء مع السفراء العرب في نيويورك، أن أجلس بجنب علي عبد السلام التريكي الذي كان آنذاك مندوب ليبيا لدى الأممالمتحدة. بعد السلام والتعارف بادرني الرجل بالقول: 'لقد 'بهذلوا' صاحبكم. أرأيت الحال التي بدا عليها في البيت الأبيض؟'. كان التريكي يقصد الإذلال الذي مارسه جورج بوش على بن علي في واشنطن يوم 18 شباط (فبراير) 2004. وقصة ذلك أن بن علي ظل، منذ انقلاب 1987، يحاول ويساوم طمعا في أن يحظى ب'زيارة دولة' إلى واشنطن تشمل (ضمن تشريفات بروتوكولية أخرى) مأدبة عشاء رسمية يتم فيها إلقاء الخطب وتبادل الأنخاب بين الرئيسين. ورغم أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ظلت ترفض ذلك (من شدة تقديرها للرجل ومعرفتها من أي معدن هو!)، فإنه لم ييأس وظل يحاول. لكن فجأة سقطت كل حسابات الدكتاتور وحساسياته عندما انتابت بوش، في أعقاب احتلال العراق، نوبة حماس لنشر الديمقراطية في البلاد العربية. فإذا ببن علي يذعن لأمر الإدارة الأمريكية له بالمثول إلى واشنطن على وجه السرعة. وقد أمكن للجمهور أن يشاهد بوش على التلفزيون وهو ينتهر بن علي ويغلظ له في القول، في محاضرة عن حقوق الإنسان والديمقراطية الخ، بينما لا يحير الطاغية المنكس رأسه جوابا! قلت للدبلوماسي الليبي: لقد نال بن علي بعض ما يستحق، لأنه هو الذي أنزل نفسه هذا الدرك بإجرامه في حق شعبه أولا، وبخوفه من أمريكا ثانيا. وأضفت أن جرائم بن علي كانت في حق تونس فقط، أي أن طغيانه كان محدودا بحدود بلاده. ثم قلت للدبلوماسي الليبي: إلا أن الفارق أن مغامرات العقيد وشطحاته لم يسلم منها لا القريب ولا الغريب... فرد علي عبد السلام التريكي، بأقصى ما يمكن أن يتيحه الموقف من النزاهة (إذ كان يحادث صحافيا لا يعرفه!)، قائلا: إن جميع الحكام العرب لا يحتكمون إلا لأمزجتهم. لا تشاور ولا تخطيط ولا مؤسسات. لا حاكم إلا المزاج. فقلت له: صحيح، لكن هذه ملاحظة عمومية جدا. والدليل أن انعدام المؤسسات أو هشاشتها لم يمنعا حاكما عربيا 'غير ثوري'، استلم السلطة بالتزامن مع القذافي، من تحويل بلاده إلى قصة نجاح مشهود. ألم تنشأ دولة الإمارات ويصبح الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيسا لها بعد حوالي عامين من وصول القذافي إلى الحكم؟ فانظر الرفاه الذي ينعم به شعب الإمارات بفضل رجاحة عقل شيخ لا يقول بالنظريات ولا يؤلف الكتب، ثم انظر إلى ما فعله فيلسوفكم بشعبه وبلاده... أما اليوم، فلا يزال في جسم ليبيا بقايا من روماتيزم القذافي. لكن الحقيقة المبهجة هي أن الشعب الليبي قد تحرر تحررا شبه كامل، بعد تضحيات جسيمة، من قبضة احتلال داخلي عبثي ناقض للحياة. احتلال محلي صيره تضافر المال مع الخبال نموذجا تطبيقيا في سكب أعمار الأفراد وهدر تاريخ الشعوب. صحيفة القدس العربي-2011-08-26