يدخل "مهرجان المدينة" الرمضانى بتونس فى دائرة الضوء بامتياز، بما أن هذه التظاهرة الثقافية قد حققت نجاحا باهرا وقدمت احتفاليات مشهودة ليس فى مجال الفنون والغناء فحسب، بل فى سائر الفنون كلها تقريبا "سينما، مسرح.." وتخطت تلك المرحلة لتقتحم مجالات واسعة خارج دائرة الترفيه والامتاع. فتم تقديم محاضرات قيمة ومداخلات علمية كبرى خصوصا فى التاريخ والشؤون الفكرية حول التراث الاسلامى "مسامرات، معارض، أدب، تصوف..". أنجز هذا المهرجان ما يقارب ربع قرن من العروض الثقافية الخلاقة وجمع حوله عدة وجوه مثقفة بارزة وجمهورا لا حصر له يصر على متابعة النشاطات الرمضانية حتى فى الليالى الماطرة وفى سهرات النوء والقرّ لا لشيء وإنما استجابة لذلك النداء المفعم بالمعرفة الذى يجمع بين فنون الأصالة والتوهج وبين أسمى قبسات روح العصر ومياسم التفتح و"النورانية الرقمية"!! وفى دورته ال 24 أعدت الادارة الجديدة للمهرجان برنامجا متنوعا ومكثفا يمتد على ما يقارب 20 ليلة من ليالى رمضان بداية من 29 سبتمبر حتى 18 أكتوبر. وفى الليلة الواحدة نجد الكثير من العروض موزعة على مختلف فضاءات المدينة العتيقة بتونس بالاضافة الى المسرح البلدى ذى الطراز الغربى الموجود فى عمق الشارع الرئيسى للمدينة العصرية. ومن أبرز الفضاءات المحتضنة لهذه العروض يمكن ذكر النادى الثقافى الطاهر الحداد مسرح الفنون دار بن عبد الله دار حسين حدائق قصر خير الدين مدرسة صاحب الطابع دار الأصرم.. ويبدو من خلال تسميات هذه الأمكنة "دار" و"حدائق" و"مدرسة" أننا إزاء ذكر التاريخ التليد للمحلات والبيوتات العريقة أى للعصر الزاهى للعمارة الاسلامية فى مدينة تونس "الحاضرة" أو"المحروسة" كما يحلو للبعض تسميتها. ولا تزال هذه البنايات القديمة تقارع الزمن منذ عهد التأسيس الأول للمدينة رغم الحروب الطاحنة التى هزت أرجاءها فى زمن "الرومنة" وزمن الصراع العثمانى والايبيرى وحتى زمن الاستعمار الجديد. وهناك بعض الفضاءات التى رممت خصيصا لتحتضن مهرجان المدينة ليتم التواصل وإحياء الماضى الجميل ليكون حاضنا لابداعات العصر وتتداخل الأزمنة من أجل بعث فكر مستنير ساطع. أما ما يبعث على الحرج حقا هوالجلسة أو لنقل "الوقفة" "بما أن سيقاننا تصلبت هناك" التى نظمتها مؤخرا الادارة الجديدة ل "دار الاصرم" مقر صيانة مدينة تونس العتيقة. وما يلفت الانتباه فى هذه "الوقفة" كثير غير أننا سنكتفى بملاحظتين اثنتين: التخلى عن الندوة الصحفية المعتادة فى أحد نزل العاصمة واستبدالها بوقفة متسرعة هامشية وكأن ذلك يغير "الطبق الرئيسي" للندوة ويحل محله حديث هامش وكواليس. ولعل "عدوى ستار أكاديمي" طالت مهرجاننا الرائع واخترقته اختراقا.. فعلى الصحفى أن يجتهد لمعرفة الفنانين والعازفين الحاضرين فى "الوقفة" ويختطف منهم كلاما عابرا. فضاء "دار الأصرم" فى حد ذاته الذى تم تغييره هو أيضا فعوض الطابع المعمارى للدار العربية المفتوح من الداخل على الهواء الطلق أى أن صحن الدار يبحث عن الضوء والتهوئة والاوكسجين واستبدل ذلك كله بغطاء يسد الطابع الاشراقى "المنشرح" للدار المليئة بالآجر والجليز اليدوى المطعّم ببلاطات الجص المخرّم، ويعد ذلك تشويها للطابع الجمالى و"الحياتي" للدار، بالاضافة الى حالة الاختناق والضيق التى تستبدّ بالقابع هناك مدة طويلة!!. والنتيجة من خلال هذه الوقفة أو الجلسة لمهرجان المدينة تصلب فى السيقان، التعرق، وندرة المعلومة!! لذلك نلتمس من الادارة الجديدة أن تنظر -بكل لطف- فى بعض هذه المسائل التى تبدو بسيطة فى ظاهرها، لكن استتباعاتها غير محمودة اطلاقا، وتنذر ببوادر التردى ثم الأفول، وذلك ما لايأباه المتتبعون، لأن جمهور مهرجان المدينة ألف نوعا رفيعا للعروض نوعيّا وكميّا. ولعل الذاكرة تسعفنا هنا على سبيل التمثيل لا الحصر بسهرات متميزة، لا تنسى للأصوات العالمية الكبرى: نصرت فتح خان "الباكستان"، "موسيقات الاشراق" الايرانية والتركية، " نواقيس الحكمة" من التيبت وبراعة فرق من أمريكا اللاتينية "البيرو والشيلي.." اضافة الى روائع الموسيقى العربية ونفائس الشرق والغرب على حد السواء.