تبدو العاصمة التونسية ومعظم المحافظات الكبرى، أشبه بخلية نحل خلال فترة ما بعد الإفطار، حيث تدب الحركة في البلاد بعد شيء من السكون والخفوت خلال النهار.. وتعيش العاصمة وعدد من المدن الأخرى، على إيقاع التظاهرات والسهرات الفنية والثقافية التي تقام في إطار ما بات يعرف ب "مهرجانات المدينة" التي يختص بها شهر رمضان من دون بقية أشهر العام.. مهرجان المدينة الذي انطلق قبل خمسة وعشرين عاما في العاصمة واقتصرت فعالياته على الفضاءات الثقافية صلب المدينة العتيقة، اتخذ هذا العام شكلا أوسع بعد أن تقرر أن يشمل المهرجان أكثر من مدينة وقرية من القرى الموجودة في المحافظات التقليدية بالبلاد، على غرار تونس وصفاقس وسوسة وقابس وبنزرت وغيرها، بما أضفى حركية ونشاطا على الأجواء الرمضانية... ويتضمن برنامج فعاليات الدورة ال25 ل"مهرجان المدينة" الذي انطلقت فعالياته خلال الأيام القليلة الماضية، وتتواصل حتى التاسع من أكتوبر المقبل، سلسلة من السهرات الموسيقية والفنية والمسرحية التي تحييها فرق تونسية وعربية وأخرى قادمة من أوروبا، إلى جانب بعض التجارب من أمريكا اللاتينية (البرازيل تحديدا)، وذلك ضمن أعرق المسارح والفضاءات الثقافية التاريخية بأسوار المدينة القديمة، الواقعة في قلب العاصمة التونسية، مثل قصر خير الدين (الذي تم ترميمه وتهيئته ليحتضن خصيصا بعض عروض المهرجان)، و"دار الأصرم" و"دار حسين" وقصر بلدية تونس، المطل على هضبة بالقرب من قصر الحكومة المحاذي لجامع الزيتونة المعمور، إلى جانب مقام الولي الصالح "سيدي إبراهيم"، بالإضافة إلى قاعة المسرح البلدي، أفخم القاعات المسرحية التونسية.. سهرات تونسية مهرجان المدينة الذي بات عنوانا ضروريا للسهرات التونسية في رمضان، "مثل الملح في الطعام"، كما يقال، بدأ بسهرة رائقة للفنان التونسي والعربي، لطفي بوشناق، الذي قدم واحدة من أكثر السهرات الناجحة في مسيرته الفنية، بحضور مئات المتفرجين من النخب الثقافية والنقابية والسياسية، ومن عموم المواطنين، تحت أنظار وزير الثقافة التونسي محمد العزيز بن عاشور.. سهرة أثارت ردود فعل إيجابية في أوساط النقاد والإعلاميين، بالنظر إلى الاختيارات الموسيقية الذكية التي برمجها بوشناق في سهرته التي استمرت زهاء الساعات الثلاث كاملة.. وبرمج المهرجان كذلك، سهرة لفرقة تونسية شابة، عهد إليها بتكريم الموسيقار، فريد الأطرش، فيما سيتولى فنان الطرب التونسي الأصيل، زياد غرسة، تقديم سهرة خاصة بالموشحات وألوان الفن التونسي التراثي، مصحوبا بفرقة المعهد الرشيدي للموسيقى، أحد أعرق الفرق الموسيقية في تونس.. وتحت عنوان "رمضان في المدينة"، تقرر أن تحيي الفنانة التونسية "المدللة"، نبيهة كراولي سهرة تجمع فيها بين رصيدها الغنائي الضخم، وبعض المقطوعات الفنية من الموسيقى التونسية التقليدية، فيما ستخصص سهرة ثانية نسائية ل "فرقة العازفات" التي تقودها ابنة الموسيقار التونسي الراحل، قدور الصرارفي، ضمن عرض يحمل عنوان "سمادير"، وهو عبارة عن معزوفات منتقاة من التراث الموسيقي التونسي القديم الذي اشتغلت عليه الفرقة، من خلال تهذيبه وإخراجه بشكل عصري.. موسيقى روحية وفي سياق تغذية الجانب الروحي على طريقة مهرجان المدينة، قررت إدارة المهرجان، تخصيص سهرات وعروض غنائية للموشحات الدينية والصوفية، تماشيا مع أجواء وطقوس الشهر الفضيل، على غرار سهرة فرقة (السلامية) للمدائح والأذكار، و"خرجة العيسوية" التي سيحتضنها مقام سيدي إبراهيم، وهي عبارة عن أهازيج وأذكار دينية مصحوبة بضرب الدف (الذي يسمى في تونس ب "البندير")، بالإضافة إلى أنواع البخور و"السناجق" (لافتات حمراء وخضراء وشموع ضخمة)، التي يرفعها المنشدون ضمن حركات من الرقص الصوفي اللافتة للنظر.. الحضور المغاربي والعربي.. وإلى جانب العروض التونسية، برمج مهرجان المدينة كعادته، سهرات لفنانين ومجموعات موسيقية من المغرب والجزائر وسوريا ولبنان.. فمن المغرب، قدمت فرقة "ناس الغيوان" المعروفة، سهرة أمس الأول، التي عرفت حضورا جماهيريا لافتا، كما تمت برمجة سهرة مغربية سيتولى تقديمها فنانون مغاربة مقيمون في بعض العواصم الأوروبية.. ومن العالم العربي تشارك في هذا المهرجان، فرقة الطرب الحلبية بقيادة عمر السرميني بعرض للموسيقى الشرقية الراقية، إلى جانب سهرة فنية ثانية من سوريا ستؤمنها الفنانة ميادة بسيليس، وثالثة للفنان صفوان بهلوان، الذي سيغني لمحمد عبد الوهاب.. فيما يتوقع تخصيص عرض لعازف الكمان اللبناني، جهاد عقل، في أول ظهور في مهرجان المدينة، بل في المهرجانات التونسية أصلا.. وفي سياق الاطلاع على موسيقى العالم، برمج مهرجان المدينةبتونس، عدة سهرات موسيقية، في مقدمتها سهرة إيطالية وعرض للفنان البرازيلي (كورو)، بالإضافة إلى عرض لعازف الكمان المجري (زلتان ميقا)، وسهرة مع عازف الجيتار الكندي (دافيد جاك)... وكان هذا المهرجان، اشتهر بجلب ألوان موسيقية من دول في قارات عديدة، من بينها باكستان وأفغانستان وإيران ودول إفريقية عديدة، أشهرها السنغال ونيجيريا والكوت ديفوار.. عدوى المهرجان في الجهات على أن "مهرجان المدينة" المتزامن سنويا مع شهر رمضان، امتدت "عدواه" لتشمل محافظات عديدة في البلاد التي باتت تتسابق من أجل سهرات في حجم ما يقدمه المهرجان في نسخته بالعاصمة.. ففي مدينة سوسة (120 كلم على الساحل الشرقي التونسي)، تقرر إعطاء صبغة دولية للمهرجان، عبر برمجة عرض موسيقي ضخم لرباعي العزف، وهم هيكل سيالة (تونس)، وفيليب باشمان وبرينو كايلا (فرنسا)، وصلاح الدين مرك من الأردن، فضلا عن سهرات أخرى لفنانين من جوهرة الساحل بالتحديد... وتحتضن محافظة القيروان، العاصمة الروحية والدينية لتونس، عديد التظاهرات والفعاليات الموسيقية والفنية والعروض المتنوعة بمناسبة شهر رمضان المبارك، من بينها سهرات للإنشاد الصوفي، وعمليات تنشيط لشوارع المدينة يتم خلالها تثمين معالمها التاريخية، مثل معلم سيدي عبيد الغرياني وسيدي الصحبى أبو زمعة البلوي والمدرسة الحسينية، إلى جانب مسامرة ثقافية دينية تحت عنوان "أي دور للقيروان في ثقافة العصر"، سيشارك فيها عدد من المثقفين والجامعيين من الجهة.. وفي الواقع، فإن بقية المحافظات الجنوبية للعاصمة التونسية، لا تشذّ عن هذه القاعدة في إحياء السهرات الرمضانية بالموسيقى والفن والإنشاد الصوفي وبعض الألوان الفنية والتراثية الخاصة بكل جهة..