الجدل المحتدم الذي اثارته تصريحات جاك سترو وزير الخارجية البريطاني السابق داخل او خارج الساحة البريطانية لم يكن هذه المرة بسبب دور حكومة بلاده في الحرب على العراق ولابسبب الخسائر البشرية للجنود البريطانيين في العراق ولا بغيرها من القضايا العالقة بخيارات السياسة الخارجية البريطانية لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير ولا بما نشره وزير الداخلية دافيد بلانكيت في كتابه الجديد من اعترافات حول ظروف استقالته وتورطه في فضيحة اخلاقية. تصريحات جاك سترو ارتبطت هذه المرة بقضية ساخنة ولكنها لا تخلو من الحساسية في اكثر من عاصمة اوروبية واكثر من بلد عربي ايضا وهي قضية كانت ولاتزال وراء جدل مستمر في فرنسا وبلجيكا وغيرها هي ترتبط بالنقاب وما اثاره ويثيره اليوم من مواقف واراء متباينة بين مؤيد او معارض. وقد وردت مواقف سترو في مقال نشرته صحيفة «ايفنينغ تلغراف» في اعقاب لقاء جمعه بمواطنة بريطانية مسلمة بوصفه رئيسا لمجلس العموم البريطاني ونائبا عن منطقة بلاكبورن التي تجمع عددا كبيرا من المسلمين وقد تعاملت مختلف الاوساط الرسمية البريطانية مع تصريحات سترو بكثير من الحذر وقد اصر توني بلير على انها لا تعكس غير مواقفه الخاصة وذهب البعض الى حد اتهام سترو بصب الزيت على النار واثارة مزيد من البلبلة في صفوف مسلمي بريطانيا.جاك سترو انطلق من تجربة خاصة في مكتبه مع امراة منقبة جاءت تطلب نصيحة في دائرته الانتخابية يقول المسؤول البريطاني انها لم تكن المرة الاولى التي يلتقي فيها امراة لا يظهر منها غير عينيها وانه فكر انه لو ازالت السيدة النقاب عن وجهها سيكون اللقاء اكثر قيمة وسيساعدك اكثر على فهم الاخر ويضيف سترو انه فقط شعر بنوع من عدم الارتياح وهو يحادث شخصا وجها لوجه دون ان يراه وعندما طلب من المراة ان تكشف وجهها لم يجد لديها ممانعة بل يضيف انه دخل معها في حديث مشوق عن الاسلام والحجاب. وكان سترو ادرك ما يمكن ان يثيره مقاله من ردود فعل فقد حرص على تكرار موقفه بوضوح من انه ينتمي لبلد مبني على الحريات وانه من المدافعين عن حق المراة في ان تلبس ما تشاء وان ارتداء النقاب في بريطانيا لا يخالف أي قانون ... وبعيدا عما اثاره مقال سترو او ما يمكن ان يثيره مستقبلا من ردود فعل فان اهم ماورد في المقال مرتبط بالجملة التي اختتم بها سترو مقاله واعترافه انه فكر طويلا قبل التطرق الى هذه القضية قبل عام وفكر اكثر قبل كتابة مقاله مؤكدا انه حتى وان كانت ظنونه في غير محلها فان ثمة شيئا للنقاش وهنا بيت القصيد فقد سلط سترو الاضواء على مسالة في غاية الحساسية لاسيما امام تفاقم ظاهرة النقاب التي تظل وعلى عكس الحجاب من الامور التي لم تظهر الا حديثا في عدد من البلدان العربية المعتدلة ولاسيما في تونس حيث تحظى المراة بمكانة خاصة بفضل الاحكام والتشريعات التي اقرتها مجلة الاحوال الشخصية منذ مطلع الاستقلال بعد ان بات النقاب ينافس الحجاب في كثير من الاحياء الشعبية ليثير الكثير من التساولات المبهمة حول اسباب ودوافع هذه الخيارات وما اذا كانت نتيجة صحوة دينية صحيحة او نتيجة مؤثرات خارجية او بسبب كثرة الفضائيات او كذلك بسبب تعدد الاعتداءات على الاسلام والمسلمين وتعدد الاتهامات و الاهانات في الغرب لشخص النبي الكريم بدعوى حرية التعبير او ما اذا كانت ايضا نتيجة فراغ في حياة فئة واسعة من الشباب . ونظرا لهذه الحساسية المفرطة ونظرا ايضا لما يمكن ان تثيره من توجس او ردود فعل لدى بعض المتشددين في احيان كثيرة كذلك فقد ظل الموضوع بعيدا عن التداول في الاوساط الرسمية العربية اما في الاوساط الشعبية فقد اقتصر الامر على النقاشات الجانبية الخفية بين الافراد دون ان يرقى الى درجة الحوار المفتوح والصريح داخل العائلة او داخل المؤسسات التربوية او في الاوساط الاعلامية او الاطراف الفاعلة في المجتمع . ربما لم تكن تصريحات سترو تخص اكثر من مسلمي بريطانيا ولكن الواقع انها تحمل في طياتها دعوة صريحة من اجل تجاوز نوع جديد من التابوهات واعلان فتح جسر للحوار البناء مع شريحة واسعة من المجتمع هو في امس الحاجة اليوم لبعض من الجرأة المطلوبة لتجاوزالخطاب الديني الجاف وفتح المجال للنقاش والحوار وسماع صوت الاخر وتقبل مواقفه وارائه كيفما كانت والاطلاع على كل الاسباب والدوافع والتيارات التي يمكن ان تدفع به نحو خيارات هي ابعد ما تكون عن ثقافتنا وهويتنا ناهيك عن ديننا عقيدتنا فهل يكون جاك سترو اكثر دراية وبعد نظر من اهمية الحوار «وجه لوجه....»؟ *