بعد بث شريط الفيديو لراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة والذي كان يتحدث فيه لبعض ضيوفه من السلفيين يمكن القول أن لديه توصيفا للوضع السياسي لا يخلو من صواب من حيث أن القوى التي نعتها بالعلمانية هي التي تهيمن على الإدارة وعلى مفاصل الدولة وان فوز الإسلاميين من الناحية الانتخابية لا يعني أنهم يحكمون فعليا أو على الأقل لا يتمتعون باطلاقية القرار... بعد سقوط نظام الاستبداد في تونس نشأ وضع سياسي جديد، خضع للتجاذبات والصراعات بين القوى السياسية المختلفة ومراكز القوى المؤثرة من نقابات واتحادات ورجال أعمال وقوى دولية مختلفة، ولم يكن ثمة من طرف قادر على حسم الصراع لصالحه والانفراد بإدارة المشهد السياسي العام، ولم يكن هروب الرئيس المخلوع يوم 14 كانون الثاني (يناير) سوى بداية تكون الوضع السياسي الجديد الذي سيتشكل بعد اعتصام القصبة واحد واثنين واستقالة حكومة محمد الغنوشي ثم تولي حكومة الباجي قايد السبسي وصولا إلى تنظيم انتخابات 23 تشرين الاول (اكتوبر) وانبثاق حكومة الترويكا (ثلاثي الحكم: النهضة، المؤتمر والتكتل) والى حد اللحظة لايزال الوضع التونسي يشهد حالات شد وجذب وصراعات متواصلة بين القوى المختلفة، فكيف يمكن فهم الحالة السياسية في تونس اليوم؟ وما الذي يعتمل فيها؟ وما الذي يمكن أن تفضي إليه؟ بداية يمكن توصيف الديمقراطية الناشئة في تونس بعد الثورة بأنها نمط من التعايش القائم على الأمر الواقع أكثر مما هي حالة توافق يضمنها عقد اجتماعي واضح، فالأطراف السياسية الموجودة تستمد شرعية وجودها من حالة الحرية القائمة ضمن هامش الصراع بين القوى وهذا عائد إلى أن الثورة لم يقم بها طرف محدد يمكنه أن يمُن على الآخرين بفضله عليهم وكذلك لم تكن الثورة قائمة على عامل سياسي محدد بقدر ما هي نتاج انتفاضة على وضع اجتماعي متردي كان يتغذى من الفساد السياسي الشامل الذي عرفه النظام المنهار وبعبارة أخرى إن القوى السياسية المختلفة تعيش حالة توازن ضعف بين القوى المختلفة من حيث أن لا احد منها قادر على إلغاء الأخر حتى وإن رغب في ذلك. فبعد بث شريط الفيديو لراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة والذي كان يتحدث فيه لبعض ضيوفه من السلفيين يمكن القول أن لديه توصيفا للوضع السياسي لا يخلو من صواب من حيث أن القوى التي نعتها بالعلمانية هي التي تهيمن على الإدارة وعلى مفاصل الدولة وان فوز الإسلاميين من الناحية الانتخابية لا يعني أنهم يحكمون فعليا أو على الأقل لا يتمتعون باطلاقية القرار، وبالرغم من الرغبة الواضحة في خطاب زعيم الإسلاميين في الاستيلاء على الحكم بصورة أكثر فعالية وجذرية إلا أن رد فعل القوى العلمانية التي طالبت بحل حزب النهضة تكشف عن مدى الضيق الذي يشعر به هؤلاء من وجود الإسلاميين في الساحة السياسية وكانت تصريحاتهم خير تعبير عن خبيئة نفوسهم من حيث سعيهم إلى التخلص من الإسلاميين الذين أصبحوا جزء من المشهد السياسي ما بعد الثورة على الرغم من إرادة بعض العلمانيين وليس بإرادة منهم أو لرغبتهم في تواجدهم. وهذا الحال المضطرب من التعايش المفروض هو الذي خلق حالة التجاذب بين القوى السياسية وما نتج عندها من التوالد غير السوي للأحزاب وأدى إلى نشوء تحالفات جديدة تبدو في كثير من الأحيان غير طبيعية أو هي على الأقل وليدة ضغط الحاجة فنداء تونس على سبيل المثال نشأ لتجميع القوى المتضررة من الثورة بداية ومن وصول الاسلامين إلى السلطة أساسا ولذا نجد فيه مجموعات من رجال الأعمال النافذين ممن استفادوا زمن المخلوع بامتيازات كثيرة إضافة إلى بعض غلاة العلمانية ممن يعتبر وجود القوى الإسلامية خطر على النموذج المجتمعي العلماني المدني فما بالك وقد وصل بعضهم إلى الحكم وهو ما يفسر تمسك هؤلاء (وعلى الرغم من خلفية بعضهم اليسارية) بما يسمى بالبورقيبية بوصفها الحاضنة التي صنعت تونس الحديثة . أما الجبهة الشعبية التي ضمت اثني عشر فصيلا وحزبا يساريا فإن الجامع بينها هو شعورها بالهزيمة اثر الانتخابات الماضية مع اعتقاد جازم أن الإسلاميين الذين استفادوا من الثورة سياسيا ليسوا هم من قام بالثورة وأنهم يشكلون خطرا حقيقيا إذا تمكنوا من الفوز مرة ثانية في الانتخابات لأن ذلك يعني اندثار اليسار وتحوله إلى مجرد شراذم تمارس الدعاية والتحريض دون قدرة على التأثير الفعلي، أما الطرف الثالث في المعادلة ونعني به الاتحاد العام التونسي للشغل وبالرغم مما يفترض فيه من حيادية فإنه من حيث الواقع اقرب إلى المعارضة بل ويشكل حاضنة لها وهو يحاول لعب دور يتجاوز مجرد حضوره النقابي الاجتماعي ومن هنا جاءت مبادرته للدعوة إلى مؤتمر للحوار الوطني يجمع كل الفرقاء وإيجاد صيغة للتوافق الوطني حول الأجندة القادمة (الدستور، طبيعة النظام السياسي، الانتخابات المقبلة).. وهذا السعي قابله نفور واضح من حركة النهضة وأيضا من حليفها حزب المؤتمر من اجل الجمهورية وهو أمر تجلى في رفض هذين الحزبين حضور مؤتمر الاتحاد ومن خلال أسباب أبداها كل طرف وتتعلق بطبيعة الأحزاب الحاضرة وان كان الأمر في حقيقته يتجاوز هذا التبرير ليجد جذوره في الضيق الواضح من الدور المتعاظم لاتحاد الشغل وتحالفه شبه المعلن مع قوى المعارضة، أما الطرف الرابع من المعادلة ونعني به الترويكا الحاكمة فإن ما يميزها هو عدم تجانس مواقف الأحزاب المشكلة لها وهو أمر طبيعي ورغم هذا تمكنت من طرح خارطة طريق لما تبقى من المرحلة الانتقالية حيث توافق زعماء الترويكا على اعتماد نظام مختلط يتم فيه انتخاب الرئيس بصورة مباشرة من الشعب الامرالذي شكل تنازلا واضحا من حركة النهضة لشريكيها في الحكم وهي التي كانت تصر على نظام برلماني. إن هذه التوافقات وأيضا التجاذبات والصراعات التي كانت فيها النقابات والإضرابات وأيضا المظاهرات والمسيرات وقودا تعبر عن حرب الإلغاء غير المعلنة التي تجري بين جميع الأطراف والتي يرفض الجميع الإقرار بها، إنها حالة حرب الكل ضد الكل بالتوصيف الهوبزي ولكن دون سلاح أو عنف والتي ستفضي في النهاية إلى فرض شكل من التعايش القهري بين جميع المكونات عندما تدرك كل الأطراف الفاعلة أن منطق الإلغاء لا مكان له في ديمقراطية ما بعد الثورة وليس هذا فضل ولا منة من احد وليس من قبيل التنازل الطوعي بقدر ما هو الوضع الطبيعي الذي تفضي إليه حالة الصراع السلمي ما بعد الثورة والتي تتأسس عليها كل عملية ديمقراطية حيث تقوم على أشكال من الحوار المتبادل والابتعاد عن كل صور النفي والإقصاء في لعبة 'تنظم التناقضات وتعوض المعارك المادية بمعارك بين الأفكار، فتحدد بواسطة الجدالات والانتخابات من سينتصر مؤقتا من بين تلك الأفكار المتصارعة' كما يقول ادغار موران، وذاك هو جوهر العمل السياسي الذي يحل فيه التعايش المفروض محل حروب الإلغاء. ' كاتب من تونس -نقلا عن القدس العربي الصادرة بتاريخ 19 أكتوبر 2012