أمّا ثقافة الثّورة فما زالت في بلدي باهتة الحضور في فضائنا الإعلاميّ، وفي برنامجنا الدّراسيّ وفي درسنا الجامعيّ، وبالمقابل تتوالد الصّحف الصّفراء وقنوات الشدّ إلى الوراء كالفقاقيع، وتعمل صباح مساء على تغذية أسباب الاستقطاب الإيديولوجي، وبواعث التفتّت الدّاخلي، وفزّاعات الخوف من الحاضر والمستقبل عسى أن تستعيد زمنا قبره التّاريخ، وعصرا غاشما عصف به الثوّار، والمراد تشكيل عقل متردّد، مستكين، غير قادر على الفعل، غير متأهّب لاستكمال حركة التّغيير. لكن نسي أنصار ثقافة الثّورة المضادّة أنّ التاريخ لا يعيد نفسه، وأنّ الثّورة تنتج بالضّرورة وعيا جديدا وجيلا جديدا يحميها، وينشر ألواحها في الشّرق والغرب. كان الوافي وابن غربيّة يتنازعان في شأن من كان منهما أكثر ثورجيّة من الآخر في العهد الغابر، فاحتجّ الأوّل أنّه قد أحرج سيّء الذّكر سليم شيبوب بأسئلته "الجريئة" حتّى اضطرّه إلى مغادرة برنامجه التّلفزي ربع ساعة قبل اختتامه، واحتجّ الثاني بأنّه كان من الأوائل الذين تحدّثوا مع ناهب المال العامّ في الرّشوة والمحسوبيّة في ميدان الرّياضة، وعدّ ذلك سنام الثّورة وتمام الشّجاعة. وبذلك ظهر ذانك المنشّطان وضيفهم في موقع المنتمين إلى خلايا الثّورة النّائمة في زمن الصّمت الرّهيب في عهد الدّولة القامعة، وانتحل الجماعة صفة الثوّار والحال أنّنا لم نسمع لهم صوتا في المطالبة بحقوق الإنسان، والدّفاع عن المظلومين في عصر الظّلمات. وبالمقابل لم نسمع شيئا عن ذلك الرّجل الذي عرض أطفاله للبيع من شدّة الإملاق، ومن شدّة محاصرة زبانية الدّيكتاتور له، ومنعه من الاسترزاق بحجّة أنّه معارض للنّظام، ولم نشهد تحقيقا في مقتل مئات المحتجّين على الدّولة الجائرة على مدى عقود أو عن معاناة آلاف المساجين السياسيّين على امتداد سنين. ولم نر الذين جاهدوا وكابدوا في الدّاخل والخارج بالحجم الذي كنّا نتوقّع في وسائل الإعلام بعد الثّورة، بل على العكس استمرّ مسلسل تهميش المناضلين والاستخفاف بقوم توزّعوا بين السّجون والمنافي في طلب الحرّية ومقارعة الدّيكتاتوريّة، فغاب عن السّاحة بعد الثّورة صحفيّون شرفاء صدعوا بكلمة حقّ في وجه سلطان جائر، وغابت عن الذّاكرة صور حقوقيّين حملوا القضيّة، ودافعوا عن المظلومين، وغابت عن الذّاكرة صور آلاف مساجين الرّأي الذين سرق الاستبداد أعمارهم وأحلامهم، وصادر الأَسْرُ حرّيتهم وأفكارهم وألسنتهم، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر... في عصر الثّورة المضادّة ظهرت ثقافة الحنين إلى الدّيكتاتوريّة، وتجرّأ نائب جاء من خارج التّاريخ على الثّورة وقال للتونسيّين: "التجمّع سيدكم"، في عصر الثّورة المضادّة احتفال بزعامات وأفكار تجاوزها العصر، وإحياء لشخصيّات محنّطة ومفبركة صنعها تاريخ مزوّر، في ثقافة الثّورة المضادّة تكثر الإشاعة، وتُصنع عقول مستقيلة وضمائر مسكونة بالشكّ والتّخويف، ومحكومة بهاجس اعتبار الثّورة مؤامرة دُبّرت بليل أشرفت عليها أمريكا وأخرجتها قطر ونفّذها إسلاميّون... في عصر ثقافة الثّورة المضادّة يستمرّ التّرويج لسياسة تغيير الأقنعة والتّحريض على الآخر واختلاق بؤر الفتنة والتوتّر في كلّ مكان عسى أن ينفرط عقد الإلف الاجتماعي، وينحلّ التّعايش بين النّاس، فتسود الفتنة بدل الألفة والفرقة بدل الوحدة، ويتأسّف شقّ من النّاس على عهد ولّى وانقضى، فيتباكون على "سيّد الأسياد" وعلى "حامي الحمى والدّين"... إنّه زمن ثقافة الثّورة المضادّة يا صاحبي، يعلي من شأن "الثورجيّين الجدد" الذين لم يروا قضبان السّجن إلاّ في لوحات الرّسم، ولم يشهدوا سطوة الجلاّد ومعاناة الضحيّة إلاّ فيلم سينمائيّ أو في كابوس أفسد عليهم لذّة تمعّشهم بالمال الفاسد في العهد البائد... أمّا ثقافة الثّورة فما زالت في بلدي باهتة الحضور في فضائنا الإعلاميّ، وفي برنامجنا الدّراسيّ وفي درسنا الجامعيّ، وبالمقابل تتوالد الصّحف الصّفراء وقنوات الشدّ إلى الوراء كالفقاقيع، وتعمل صباح مساء على تغذية أسباب الاستقطاب الإيديولوجي، وبواعث التفتّت الدّاخلي، وفزّاعات الخوف من الحاضر والمستقبل عسى أن تستعيد زمنا قبره التّاريخ، وعصرا غاشما عصف به الثوّار، والمراد تشكيل عقل متردّد، مستكين، غير قادر على الفعل، غير متأهّب لاستكمال حركة التّغيير. لكن نسي أنصار ثقافة الثّورة المضادّة أنّ التاريخ لا يعيد نفسه، وأنّ الثّورة تنتج بالضّرورة وعيا جديدا وجيلا جديدا يحميها، وينشر ألواحها في الشّرق والغرب. - الوسط التونسية بتاريخ 20 ديسمبر 2012