تحت أعين تمثال فيلسوف التاريخ الإفريقي 'إبن خلدون' تنطلق الفتاة التونسية بلباسها الرياضي 'الجينز' الذي يطغى على هندامها، إذ وعكس ربما الشارع الجزائري الذي يتربع فيه الحجاب على عرش اللباس النسوي عندنا، فإن نظيره التونسي لا يحظى بذات المرتبة، باعتبار أن الفتاة التونسية متمسكة بمظهرها 'الرياضي'، لأن ارتداء الجينز لديهن يدخل في هذا السياق· وقد تتصادف وأنت تسير في شارع بورقيبة الرئيسي بكثرة إقبال الفتاة على الجينز حتى يخيل لك وكأنه إجماع معلن لهذه الشريحة أو موضة ركبتها صاحبات الكعب الطويل· كما هو معروف، ليست هذه المرة الأولى التي تطرح فيها قضية الحجاب بشكل ساخن، بل إن معارضة الحجاب، موقف رافق الدولة التونسية منذ استقلالها وتبنيها لنهج التحديث في كافة المجالات· وم شبحا يراود ضفتي البحر الأبيض المتوسط وتبقى المواقف متضاربة إزاء هذه الظاهرة وفي بعض الأحيان مرتبكة· وبالفعل هناك من يناهض الحجاب ويقاوم تفشيه وهناك من يدعو إلى ارتدائه علنا امتثالا لتعاليم الشريعة وهناك أيضا من يرفض مواجهة الحجاب باسم حرية المعتقد وحقوق الإنسان بدعوى أن ارتداء الحجاب مسالة خاصة تعود إلى الحريات الشخصية، أما على المستوى السياسي الرسمي، فإن المواقف تتلون حسب الظروف ومقتضيات الاستراتيجيات السياسية· ونذكر هنا على سبيل المثال كيف ساند الزعيم بورقيبة الحجاب في البداية حفاظا على الهوية الوطنية ثم عارضه لاحقا بحجة الوصول إلى المجتمع التحديثي الذي يصبو إليه· وما يثير الانتباه هو أن الحجاب اليوم أصبح يمثل رهانا يحتاج إلى تفسير أمام التنميط الذي تفرضه العولمة في توحيدها للأسواق ومحاولة فرض نموذج وحيد للثقافة والاستهلاك· الأمر الذي أدى إلى تلاشي الخصوصيات الثقافية وزعزعة الفروق الجذرية بين الرجال والنساء· في هذا الإطار يبدو لنا أن جسد المرأة وما يحيط به من تصورات واستيهامات قد عاد يطفو إلى السطح في حقبة تلاشت فيها الاديولوجيات وتغلغلت فيها البراغماتية وقيم التبادل الحر· ولا يمكن فهم الجدل الدائر حول الحجاب سواء في تونس أو غيرها على اعتبار أنه لا يمكن اختزاله في رؤية أحادية كربطه بمسالة العقيدة أو رفضه باسم الحداثة· لقد بدت تونس وهي تستقبل أيام قرطاج السينمائية وكأنها أغلقت باب الجدل حول مسألة الحجاب، ولو إلى حين· فالقضية أقرها قانون 108، الصادر عام 1981 والذي يعتبر الحجاب زيا طائفيا، وليس فريضة دينية· ومن ثَم يحظر ارتداؤه في الجامعات ومعاهد التعليم الثانوية؛ لكن درجة الحزم في تطبيق هذا القانون تفاوتت من مرحلة لأخرى· وتعيد وزارتا التربية والتعليم المطالبة بتطبيقه نظرا لما تلحظه من ارتفاع نسبة المتحجبات؛ خاصة في المناسبات الدينية ومنها شهر رمضان المبارك· وهو ما أعيد إثارته منذ أسابيع· بدأت حيثيات الجدل الحالي منذ نحو ربع قرن، هو عمر قانون الأحوال الشخصية عام 1981؛ الذي اعتبر الحجاب 'زيا طائفيا'، وحتى الآن يعتبر عدد من الساسة والليبراليين أن ارتداء النساء للحجاب مظهر طائفي مستورد من الشرق لا يعبر عن الثقافة التونسية، بل هو ظاهرة دخيلة على المجتمع التونسي، من شأنه أن يؤدي لتهديد الهوية الوطنية، وإن لم يرفض المستندون لهذا الرأي تغطية المرأة شعرها؛ ولكن على الطريقة التونسية، وفي هذا الشأن صرحت لنا (مفيدة· ح) طالبة في السنة أولى بجامعة اللغات الأجنبية تخصص لغة إنجليزية والتي بدت متمسكة بحجابها، وكانت من المدمنات على تتبع الأفلام العربية في المهرجان قائلة:' مع ظهور الحملة الرامية لمنعنا من ارتداء الحجاب عند مدخل الجامعة، هناك من زميلاتي من ذهبن للتفتيش في دولاب الأم والجدة، وأعدن استخراج (الحايك ) التونسي الذي يشبه نظيره الجزائري المنقرض، وقمن بارتدائه دون مضايقة أحد· وهي طريقة اهتدت إليها الكثيرات مادام القانون لا يمنع ذلك··' ويعتبر الرافضون للحجاب أنه يهدد الوضع المتميز للمرأة في تونس مقارنة بغيرها في العالم العربي والإسلامي؛ فقانون الأحوال الشخصية الصادر هناك يضمن المساواة التامة بين المرأة والرجل؛ وهو يمنع على سبيل المثال تعدد الزوجات، وينص على أن النساء مواطنات كاملات الحقوق مثل الرجال· كما يستند هذا التيار ويضم النظام الحاكم إلى أن الحجاب يعد شكلا من أشكال التمييز على أساس الجنس، حيث ذهبت سوسن ، معلمة في المادة الفرنسية بإحدى ثانويات العاصمة في تصريحها لنا ونحن نخوض معها موضوع الحجاب إلى القول: 'الحجاب يعبر عن عقلية تحتقر المرأة وتقلص دورها وهو حط من مكانتها، كما يجعل منه أداة استعباد لا علاقة لها بالحريات· فالحجاب دليل على إيديولوجيا مناهضة للحرية وبعيدة عن التفكير الحديث···'· تتنزه بحجابها في تونس بكل حرية: وعكس الصورة التي حاولت بعض الفضائيات العربية رسمها عن الشارع التونسي، فإنه لم يلفظ المرأة المتحجبة، وقبل بحجابها ما لم تلج المؤسسات التعليمية والرسمية، إذ تصادفك بعض الفتيات المتحجبات وهن ماضيات في زحمة الشارع دون أي قيد· وقد استوقفنا إحداهن أمام محطة الميترو، فإذا بها جزائرية من باب الواد بالعاصمة أتت لقضاء فترة نقاهة رفقة والديها، سألناها: هل تعرضت لمضايقة ما وأنت تضعين قدميك على التراب التونسي؟ فأجابت بالنفي، لنردف سؤالنا: وهل تتنقلين بحرية مطلقة بحجابك؟ فقالت: 'نعم ، لم ألحظ أي شيء، ولم يعترضني أحد··'· خمار··· وعليه قبعة صيفية في اليوم الثالث من تواجدنا بتونس قررنا القيام بزيارة خاطفة إلى بلدة سيدي بوسعيد حتى نقف على الظاهرة بعيداعن العاصمة، واخترنا القطار كوسيلة نقل شعبية حتى نقترب من المجتمع أكثر، وقد جلسنا بعربة الدرجة الأولى، وبها إنزوت فتاة وهي تتصفح دروسها، كانت ترتدي خمارا وعليه قبعة صيفية، فالخريف لم يعادينا نحن فحسب، بل حتى الجيران أيضا، جلسنا بقربها وسألناها عن وجهتها فأجابت بأنها ماضية إلى حلق الواد، واختلسنا منها دردشة عن إحدى حلقات مسلسل الحجاب في تونس، فكان رأيها واضحا: 'الكل يجد طريقة أو صيغة للتحايل على القانون في المؤسسات التعليمية، وطريقتي هي هذه القبعة التي تقيني من لفح الشمس وصرامة القانون، فهي شيئان في واحد·· ' ، وعن رأيها في منع السلطات ارتداء الحجاب قالت:' الحجاب والملبس بشكل عام حرية وحق من حقوق الإنسان كحرية العقيدة، بالإضافة إلى اعتباره التزاما دينيا وضابطا شرعيا في الدين الإسلامي الذي أمر النساء بالاحتشام وعدم التبرج، وطريقة تعامل السلطة مع هذه القضية تتناقض مع كافة مبادئ حقوق الإنسان، وتتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي والهوية العربية الإسلامية لتونس· كما عبرت عن استغرابها من الصمت الذي تبديه العديد من المنظمات النسائية التي تنادي بحقوق المرأة ··'· المؤكد أنّ معالجة الظاهرة من خلال مقاربات اقتصادية وثقافية وسوسيولوجية وغيرها، سيوضح الظاهرة ويجعلها قابلة للفهم علميا وموضوعيا، كما أن السجال حول الحجاب لن ينتهي خاصة وأنها قضية لم تعد تقتصر على تونس؛ ولكن دولا أخرى كمصر التي تفجرت فيها ذات القضية مؤخرا مع تصريح وزير الثقافة فاروق حسني، بالإضافة إلى دول غير عربية وغير إسلامية التي شهدت تزامنا مع هذا، سجالا حول نفس القضية. *المادة من بحث واقتباسات صحيفة الوسط التونسية-نشرت على الوسط على الساعة 22+30 دق بتوقيت وسط أوربا