الرجل الذي اعتقد يوماً ما إنه يحمي المصالح الغربية كان يظنّ أن هذه الخدمة ستنقذه دائماً من سلوكه السياسي المفرط في قسوته. وهذا ما حدث بالفعل مرات عديدة. لكنه تجاوز حدوده حين غزا دولة الكويت. تلك الخطوة غير المحسوبة التي اتخذها هي التي أودت به آخر الأمر إلى المشنقة، بعد خمسة عشر عاماً. في عمر مبكر أظهر صدّام أنّ طموحاته كبيرة. انتمى ابن الفلاحين الذي ولد عام 1937 قرب مدينة "تكريت" إلى حزب البعث العربي الإشتراكي وترقى بسرعة في السلّم الحزبي. حين قبض هذا الحزب ذو الأفكار القومية العربية على مقاليد السلطة في العراق عام 1968 استطاع صدّام حسين أن يكون الرجل القوي الذي يعتمد عليه الرئيس "أحمد حسن البكر". حين استولى "صدّام حسين" على منصب الرئاسة عام 1979 ظهرت فوراً شخصيته الحقيقية. قام بتصفية حزب البعث على الطريقة الستالينية وأمام الكاميرا. أمر أعضاء الحزب بتحديد أسماء "المتآمرين" من داخل حزبه ثمّ أمرهم بتنفيذ الإعدام بهم. في الفترة نفسها استغلّ "صدّام" حدث الثورة الإسلامية في إيران ليوسع نفوذه الإقليميّ. ضمن لنفسه الدعم الغربي من خلال مهاجمته لدولة إيران الأصولية. قسم كبير من الأسلحة الكيمياوية التي استخدمها في حربه تلك التي استمرت ثماني سنوات حصل عليها من أمريكا. وحتى حين استخدم الأسلحة الكيمياوية لسحق التمرد الكرديّ غض الأمريكيون النظر عن ذلك. لكن الدعم الأمريكي سرعان ما انقلب إلى عداء حين تطاول أكثر مما يجب وقام بغزو الكويت. ردّ الرئيس الأمريكيّ آنذاك "جورج بوش" الأب رداً فورياً بتشكيل تحالف دولي تحت قيادة أمريكية لطرد "صدّام" من الكويت: هكذا اندلعت حرب الخليج الأولى. كان صدّام مقتنعاً تماماً بقدرته على المواجهة التي أطلق عليها اسم "أمّ المعارك". لكنّ "أمّ المعارك" لم تنجب لصدّام سوى هزيمة عسكرية. طرد التحالف الدولي فيالق الجيش العراقي بمنتهى السهولة من الكويت، لكنه قرر عدم التقدّم صوب بغداد. وحتى حين قام صدّام بقمع الانتفاضة العفوية التي اندلعت في أجزاء واسعة من البلاد بطريقة مفرطة في قسوتها استمرّ "التحالف الدولي" بموقف المتفرج. وهكذا خرج صدّام - الذي طالما نجا من المآزق – هذه المرة أيضاً بنصر سياسي. بالرغم من الهزيمة العسكرية الثقيلة التي تكبدها، وبالرغم من مناطق الحظر الجوي التي فُرضت عليه، ظلّ الغرب يعتبر صدّام خطراً على الأمن. فريق التفتيش الدولي التابع للأمم المتحدة والمكلف بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وإتلافها واجه عراقيل متعددة.واصل صدّام تحديه لأمريكا ، وخاصة "الشيطان جورج بوش"، عبر لعبة "القط والفأر" طوال سنوات عدة. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر جاء دور "جورج بوش" الإبن ليصفي الحساب الذي تركه والده مفتوحاً. أعلنت واشنطن أنّ "صدّام" لا يتعاون بشكل كافٍ مع فريق التفتيش الدولي، وبدأ "بوش" يمهد الأمور لغزو العراق: "نريد أن تنجح الأممالمتحدة، نريد أن يتم تنفيذ قراراتها. لكن إذا لم تفعل الأممالمتحدة شيئاً، وإذا واصل صدّام رفضه لنزع أسلحته، فإننا سنقوم بذلك. من أجل السلام العالمي، من أجل حماية المستقبل الحر لأطفالنا، سنقود تحالفاً بين الأمم لتجريد صدّام حسين من أسلحته." في التاسع عشر من مارس 2003 أعلن الرئيس "بوش" أن بلاده بالتعاون مع بريطانيا وبدعم من دول أخرى قد شنت الحرب على العراق. كان الأمريكيون يأملون منذ أول عملية قصف بالقضاء على الدكتاتور. لكن الجيش العراقي أبدى في أول الأمر مقاومة أشدّ مما كان متوقعاً. صدّام ظهر على الشاشة مرة بعد مرة بتصريحات مثيرة. "لقد وقع العدو في الفخّ" كان يقول لشعبه. "الحزب والشعب وفدائيو صدّام يحاصرون العدوّ. العراق سينتصر." لكن الهجمات الكيمياوية التي خشي الكثيرون منها لم تحصل، ولا حرب الشوارع المدمرة في بغداد التي هدّد بها صدّام. وهكذا حلت نهاية الدكتاتور يوم التاسع من أبريل 2003 بعد أربعة وعشرين عاماً في الحكم. بعد ثلاثة أشهر عرض الأمريكان صور الجسدين الملطخين بالدماء لولديه عدي وقصي. لكن كان على العالم الانتظار حتى الرابع عشر من ديسمبر ليسمع الكلمة الحاسمة: سيداتي سادتي؛ لقد اصطدناه !! شاهد العالم صوراً لصدّام حسين أشعث الشعر بهيئة رديئة، وذقن شائب، بعد إخراجه من قبو تحت الأرض قرب مسقط رأسه "تكريت". كان يبدو عليه الإنهاك والإنكسار. لكنه بعد ستة أشهر، حين مثل أمام القاضي للمرة الأولى، بدا وقد استعاد قوته القديمة. في قفص الاتهام استعاد صدّام دوره كمقاوم وطني. وبعد سقوط العراق في فخّ التشرذم العرقي والطائفي بدأ يتزايد عدد الذين يرونه مقاوماً بين السنة العراقيين. رفض صدّام الاعتراف بالمحكمة العراقية، كما رفض أن يوقع على لائحة اتهامه المتضمنة سبع نقاط. إحدى التهم السبع كانت قتل 148 شيعياً من بلدة "الدجيل" في عام 1982. أدين بهذه التهمة وصدر بحقه حكم الإعدام شنقاً في الخامس من نوفمبر. رأى صدذام في الشنق إهانة وقال إنه يفضل الإعدام رمياً بالرصاص. واجهت المحاكمة انتقادات عديدة. في الغرب تركز الاعتراض على حكم الإعدام المرفوض مبدئياً، وكان من بين المعترضين رئيس الوزراء البريطاني "توني بلير". منظمات حقوق الإنسان مثل "العفو الدولية" وصفت المحاكمة بأنها "مشكوك في نزاهتها ومليئة بالأخطاء". كانت هناك انتقادات من قبل خصوم صدّام. يرى هؤلاء أنه سيكون أمراً مؤسفاً أن صدّام لن يُدان بالتهم الستّ الأخرى والتي من بينها تهمة القتل الجماعي لما يقارب مائة ألف من الأكراد في عمليات "الأنفال" سيئة الصيت. تحدد قوانين المحكمة العراقية فترة ثلاثين يوماً لتنفيذ الإعدام بدءاً من مصادقة الهيئة التمييزية عليه. وقد جاء قرار التمييز بما لا يدع مجالاً للشك: "أيد الحكم بالإعدام وأمر بتنفيذه شنقاً بعد ثبوت تهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية." كما وردفي حيثيات قرار المصادقة. بعد مصادقة هيئة التمييز على الحكم قال صدّام في رسالة إلى الشعب إنه سيذهب إلى المشنقة كشهيد من أجل العراق.